في ساعات الزلزلة تصبح قضية الإيمان ذاتها محل تساؤل، إذ يضعف يقين كثير من النفوس ويقولون لماذا يسكت الله على الظلم ولماذا لا ينصر أصحاب الحق على البغاة؟ ولماذا لا يستجيب لعباده الذين يتضرعون إليه؟!.
هل الله حاضر بالفعل؟ وهل يراقب ما يحدث؟ و لماذا لا يتدخل لرفع الظلم و لنصرة المظلومين؟!
يصنف البعض الكثير من الشبهات والاستفسارات الدينية واضعا إياها تحت مظلة الإلحاد.. غافلا عن كون الإلحاد كمفهوم عام ينقسم ويتفرع لعدة أقسام.. من بينها مفهوم اللادينية أو الربوبية.. والتي تُعتبر اتجاها فكريا يرفض مرجعية الدين في حياة الإنسان ويؤمن بحق الإنسان في رسم حاضره ومستقبله واختيار مصيره بنفسه دون وصاية دين أو التزام بشريعة دينية، وترى أن النص الديني هو مجرد نص بشري محض لا ينطوي على قداسة خاصة ولا يعبر عن الحقيقة المطلقة
فهم فرقة يؤمنون بوجود خالق ولا يؤمنون بأي ديانة.. و يعتقدون أن الله خلق الكون وجعل له نظاما لكنه لا يتدخل به، وسبب هذا الاعتقاد كما يدعون أنهم لا يرون تدخل الخالق في الكوارث الطبيعية وأنه لا يوجد دليل على تدخله.
لا يسألون الله في شدة ولا في رخاء لئلا دليل بزعمهم على أن الله يستجيب الدعاء، ويعتقدون بأن الله خلقهم وخلق لهم نظامهم وهي الطبيعة وتركهم لكي يتمتعون بحياتهم.
وعليه فإن كل ملحد هو لاديني.. ولكن ليس كل لاديني ملحد تماما خالصا في إلحاده.
ولمن يعتنقون الفكر اللاديني مجموعة شبهات خاصة سنحاول جمعها وترتيبها ونشر الأجوبة المتعلقة بها في سلسلة مقالات خاصة…
من الأفكار اللادينية..
الشبهة الثالثة
في ظل اشتداد وطأة الابتلاء كتب أحدهم: (لا أعلم شيئاً عن سر الإله لكنني أعلم الكثير عن بؤس الإنسان) هل الله حاضر بالفعل؟ وهل يراقب ما يحدث؟ و لماذا لا يتدخل لنصرة المظلومين؟!
([1]في ساعات الزلزلة تصبح قضية الإيمان ذاتها محل تساؤل، إذ يضعف يقين كثير من النفوس ويقولون لماذا يسكت الله على الظلم؟ ولماذا لا ينصر أصحاب الحق على البغاة؟ ولماذا لا يستجيب لعباده الذين يتضرعون إليه؟!.
يصور القرآن هذه اللحظات العصيبة: “إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا. هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا“. (الأحزاب:10-11).
نعم الله حاضر وهو ليس بغافل عما يعمل الظالمون لكن الله تعالى يعطي البشر فرصتهم الكاملة ليختبرهم ويرى ماذا يصنعون في هذه الأرض التي استخلفهم فيها هل يفسدون فيها أم يصلحون؟
استخلفنا الله في هذه الأرض وأعطانا الحرية الكاملة لنفعل ما نشاء، وما دمنا نملك الحرية الكاملة فعلينا أن نتحمل عواقب أفعالنا فلا معنى لحرية بدون مسئولية، وما يحدث في هذه الأرض من قتل وسفك دماء هو من صنع البشر أنفسهم بإرادتهم الحرة: “ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ” (الروم:41)، وكما صنعنا هذا الجحيم بما كسبت أيدينا فإن الله قد منحنا القدرة لنصنع جنتنا على هذه الأرض بأيدينا أيضاً حين نقرر ذلك دون إكراه أو إجبار منه تعالى..
لماذا نلوم الله على أنه لم يتدخل لتغيير مجريات الأحداث بمعجزة خارقة وهو قد أعطانا القدرة على تغيير هذه الأحداث بإرادتنا الحرة ووفق سنن طبيعية لا تتغير ولا تتبدل..
إن الله لا يتعجل بعجلتنا بل يضع سنناً محكمةً في هذا الكون ثم يراقب أفعالنا..
غاية هذه الحياة الأرضية هي ابتلاؤنا ليميز الخبيث من الطيب وليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين، وهذه الغاية العظيمة لا تتحقق إلا بشيء من الخفاء لدور الله “الظاهر والباطن”، فلو كان دور الله واضحاً سافراً ينصر المظلوم فور وقوع الظلم عليه ويأخذ الظالم دون أن يمهل له لما كان هناك معنىً للابتلاء ولما تمايزت الصفوف ولآمن الناس إلجاءً لا اختياراً: “إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ” (الشعراء:4).
ماذا لو طال الظلم واشتد البلاء؟
هذه الدنيا ليست سوى لحظة عابرة لا تساوي شيئاً بمقياس الحياة الأبدية “… وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ” (الحج:47) لذا لم يجعلها الله داراً للخلود والاستقرار بل هي فترة ابتلاء وتمحيص فلا عجب من أن يعلو صوت الظالمين وتشتد المحنة بالمستضعفين حيناً من الدهر، فبضع عشرات أو مئات من السنين يعلو فيها الظالمون ليست سوى لحظة خاطفة في عمر الحياة الأبدية: “أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ. ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ. مَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ” (الشعراء:205-207).
لم يرض الله تعالى هذه الحياة الفانية مستقراً لعباده، لذا فإن مراد الله غير مراد البشر، مراد البشر النصر والقوة بينما مراد الله التمحيص والتطهير، وبذلك يحررنا التصور القرآني من مركزية النصر والدولة مع اعترافه بأهميتها للبشر: “وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ…” (الصف:13)، هي مسألة تأتي في الترتيب الثاني، أما الأولوية فهي لتزكية الإنسان وتطهيره وتقريبه من الله تعالى، وهذه الغاية لا تتحقق إلا بالابتلاء: “مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ” (آل عمران:179).
إن الخسائر التي تلحق بالمؤمنين أثناء مجاهدتهم في هذه الحياة الدنيا ليست ثمناً مهدراً نتمنى لو أننا تجنبناه، بل هي في ذاتها مقصد إلهي يتقدم على مقصد النصر والتمكين لو أننا نظرنا نظرةً أشمل من النظرة الدنيوية القاصرة التي تجعل هذه الحياة هي نهاية الآمال، نظرة تتخذ من تزكية الإنسان هدفاً أساسياً لا من تمتعه بالملذات والراحة :”إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ” (آل عمران:140).
يميل البشر إلى الراحة ورغد العيش لكن الله تعالى يريد أن يحق الحق ويبطل الباطل: “وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ” (الأنفال:7).
الحديث عن حكمة الابتلاءات ليس نافياً لحتمية النصر والتمكين لعباد الله الصالحين لكن أهمية هذا الحديث في ظل اشتداد المحنة هي الإبقاء على نظرة تفاؤلية واثقة بالله في جميع الأحوال.
كما أن الحديث عن الحكمة الإلهية ليس بديلاً عن ضرورة المراجعة وإعادة تقييم التجربة البشرية لمعرفة أين أصبنا وأين أخفقنا، لكن اللحظات العصيبة تحتاج إلى جرعات مواساة فلكل مقام مقال، والنظرة الإيمانية لا تتعارض مع الحكمة السياسية لتقليل الخسائر وتحقيق الأهداف..
هذا التصور هو الذي يمنحنا الصبر واليقين ويحول بيننا وبين الوقوع في براثن اليأس والكفر مهما طال الظلم واشتد الظلام: “أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ” (البقرة:214).