الحمد لله الذي يمحو الزَّلَل ويصفح , ويغفر الخَطَأ ويسمح ، كل من لاذ به أفلح , وكل من عامله يربح وأشهد أن لا إله إلا الله الغني الجواد مَنَّ بالعطاء الواسع وأفسح , وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي جاد لله بنفسه وماله وأبان الحق وأوضح ، صلى الله عليه وعلى أصحابه أبي بكر الذي لازمه حضرا وسفرا ولم يبرح , وعلى عمر الذي لم يزل في إعزاز الدين يكدح , وعلى عثمان الذي أنفق الكثير في سبيل الله وأصلح , وعلى علي ابن عمه وأبرأ ممن يغلو فيه أو يقدح , وعلى بقية الصحابة والتابعين لهم بإحسان , وسلم تسليما .
وبعد …
رمضان انتهى لكن دروسه لم تنتهي .
رمضان انقضى لكن مواعظه وعبره لم تنقضي .
تعلمنا في مدرسة رمضان أنجع الدروس وابلغ المواعظ .
فماذا تعلمنا من رمضان؟
تعلَّمنا من رمضان : أن لكل شدة فرج ومع كل عسرٍ يسرا،بعد الهم فرج وبعد الليل نهار وبعد المرض عافية.
يمتنع الصائم عن أكله وشربه ،فإذا جاء الليل وصدح صوت الآذان ذهب الضما وابتلت العروق وثبت الأجر انشأ الله.
تعلَّمنا من رمضان : أن النجاح والفلاح يحتاج إلى صبر ساعة ،فالنصر حليف من يصبر أكثر ،قال تعالى : ( وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) [فصلت:35]
رمضان مدرسة للصبر ،وهو من أروع الميادين لتمرين النفس على الصبر.
الجنة لمن يصبر أكثر على طاعة الله على دين الله .
الجنة لمن يصبر على البلاء ويحتسب ،قال تعالى: ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ ( الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ( أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ )) [البقرة:155-158]
الجنة لمن يصبر عن معصية الله ويوم القيامة تقول الملائكة لأهل الجنة ( سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ) [الرعد:24]
سأل رجل عنترة بن شداد كيف تنتصر على الأعداء وتتغلب على الخصوم ما السر في شجاعتك؟! قال: ضع إصبعك في فمي وخذ إصبعي في فمك، فوضعها في فم عنترة ووضع عنترة إصبعه في فم الرجل، وكلّ عض إصبع صاحبه، فصاح الرجل من الألم ولم يصبر، فأخرج له عنترة إصبعه وقال: بهذا غلبت الرجال، أي: بالصبر والاحتمال.
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) [البقرة:153]
تعلَّمنا من رمضان : أهمية الاحتساب: فكما صمنا رمضان إيمانا واحتسابا ، وقمنا لياليه إيمانا واحتسابا ، فهما شرطان في كل عبادة وفي أي لحظة : ( وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ) [البينة : 5] ، فلنجعل صيامنا تطوعا بعد رمضان إيمانا واحتسابا ، وقيامنا بعده إيمانا واحتسابا ، وطلبنا للعلم وأمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر وصبرنا و وجهادنا، ونفقتنا وكل عملنا وطاعتنا إيمانا واحتسابا ، فالاحتساب هو لب الإخلاص وروح القربات ، فهو فريضة الدهر ، لا مناسبة الشهر.
تعلَّمنا من رمضان : تحقيق العبودية لله – سبحانه – بفعل ما أمر، فالمسلم يُمسك في وقت محدد، ويأكل في وقت معلوم؛ امتثالاً لأمر الله، مراقبًا مولاه.
تعلَّمنا من رمضان : أن الوقت أغلى من الذهب ،وأثمن من اللؤلؤ،وأنفس من الماس لان الوقت يأتي بهم جميعا وبغيرهم ،أما هم فلا يأتون حتى بثانية .
والوقت أنفس ما عُنيت بحفظه وأراه أسهل ما عليك يضيعُ
فالوقت لا يمكن استرجاعه لكن اللؤلؤ والماس يمكن استرجاعه.
كم يتمنى كثير من الشيوخ وكبار السن أن تعود أيام الشباب وقوة الشباب وفتوة الشباب لتكون عونا على طاعة الله ،لأنهم فرّطوا أيام الشباب ولسان حالهم :
بكيتُ على الشباب بدمع عيني — فما نفع البكاءُ ولا النَّحيبُ
يمر الوقت بأفراحه واقتراحه وتبقى المواقف وردود الأفعال
ألا ليـت الشـبابَ يعـــود يومــــا — فـأخبـره بما فــعل المشيــبُ
مرتْ سنونٌ بالسعودِ وبالهنا — فكأنـــها من قِصـْرهــــا أيـــامُ
ثم انثنـتْ أيــامُ هجرٍ بعدها — فكأنــها من طُــولها أعـــــــوامُ
ثم انقضـتْ تلــك السنـــــونُ — وأهلُها فكأنها وكأنهم أحلامُ!
مر اليوم الحار في رمضان بعطشه و جوعه، ومر اليوم البارد بريــــه وشبعـــه .
الليلة التي اختلطت بتعب الطاعة ذهبت وبقي الأجر ،واليوم الذي امتزج بهذه المعصية انتهى وبقي الوزر.
تفنى اللذاذة ممن نال لذتـها من — الحرام ويبقى الإثم والعـار
تبقى عواقب سوء من مغبتها لا — خير في لذة من بعدها النار
تعلَّمنا من رمضان : زيادة الارتباط بالقرآن سماعًا وتلاوة، فكم من الأجر في قراءته! وكم من الأثر عند تدبره! فحَرِيٌّ بالمسلم بعد رمضان أنْ يكونَ له ورد منه يقرؤه يوميًّا، وفي “صحيح البخاري” قال صلى الله عليه وسلم – لعبدالله بن عمرو: «اقرأ القرآنَ في شهر» قلت: إنِّي أجد قوة، حتى قال: «فاقرأه في سبع، ولا تزد على ذلك»، إنك – رعاك الله – حين تقرأ ورقتين مع كل صلاة مفروضة تَختم القرآن كُلَّ شهر..
تعلَّمنا من رمضان : أن الصوم جنة .. وحصن حصين من الأعداء ، ولازلنا محاطين بالأعداء من الإنس والجن من كل جانب .
إبليس والدنيا ونفسي والهوى — كيف الخلاص وكلهم أعدائي
فهل نأمن على أنفسنا الأعادي لو غادرنا حصن الصيام بقية
شهور العام..؟
تعلَّمنا من رمضان : من أراد أن يعيش واقعه فلينزل من برجه العالي إلى وسطه البسيط ويتواضع ،ويتقلب بين أفراده ويتعايش مع أحوالهم .
لا يعرف حال الجياع إلا من حُرم الطعام قال يوسف عليه السلام عندما سئل عن سبب صيامه وقد صار عزيز مصر: «إني أخشى أن اشبع فأنسى الجياع ».
تعلَّمنا من رمضان : روح الصـــلاة .. حافظنا عليها بخشوعها ، وأتممنا – فيما نظن- ركوعها وخشوعها ، وتلك الصلاة قد شرعت لذكر الله ( وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ) [طه : 14] ، فهلا أبقينا على ذكرنا لله في كل أيام الله ، فإقامة الصلاة وإتمامها ليس موقوتا بالصيام بل الصلاة التامة عمود الإسلام طيلة العام ( إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً ) [النساء: 103] .
تعلَّمنا من رمضان : أن النظام والحق والعدل يحبه الجميع أما الفوضى والفساد والاستبداد دمار للأمة جمعاء .
كان رمضان مدرسة لتنظيم وقت المسلم واستثمار هذا الوقت فيا يقرب من الله عز وجل .
في رمضان بتنظيم أوقاتنا قرأنا أورادنا ، ودعونا ربنا ، وزرنا أحبابنا ، ونمينا عقولنا ، وغذَّينا أرواحنا ، وهذّبنا أخلاقنا .
تعلَّمنا من رمضان : أن لا نعيش لذواتنا بل نعيش للأمة جمعاء نعيش لفكرة وعقيدة وغاية نبيلة .
من عاش لنفسه ولذاته عاش صغيرا ومات صغيرا ،ومن عاش لدينه وللمحرومين وللمظلومين عاش كبيرا ومات كبيرا .
علّمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن من فطَّر صائما كان له مثل أجره .
تعلَّمنا من رمضان : أن الليل مدرسة تخرَّج منها أرباب التغيير ،وعُشّاق الفردوس ، وأصحاب الدعوات: ( يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ( قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً ) [المزمل:1-2]
فإذا أرخى الليل سدوله ، وأغمض النهار جفونه ،ونشر الظلام حجابه صف المحبون أقدامهم بين يدي ربهم خاشعين ساجدين راكعين داعين منكسرين ،فتزكوا النفوس بالأنس بالله وتحيا القلوب بالقرب من الله تعالى .
أخي الحبيب :حافظ على صلاة القيام ولو ركعتين في السحر فإن لم تستطع فركعتين قبل المنام.فلا تقصِّر في قيام الليل سائر العام ، فإنه شرف المؤمن.
تعلَّمنا من رمضان : أن التوفيق سر الهداية والخذلان دليل الحرمان ، فكم من شخص مات قبل أن يدخل رمضان بأيام وكم من إنسان شُغل في ليلة القدر فحُرم خيرها .
الموفق من وفق لطاعة الله ،الموفق من وفق لصحبة صالحة ،والمحروم من حرم من الخير ،قال تعالى: ( فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ( وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ( فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ) [الليل:5-7]
تعلَّمنا من رمضان : أن الإمساك مِلاك الأخلاق .. تخلَّقنا بأخلاق الإسلام في رمضان ، وكنا نقول لمن سابنا أو شاتمنا« إني امرؤ صائم» فتعلمنا من رمضان أن الإمساك هو مِلاك الأخلاق في سائر الأيام ، وأن حسن الحلق هو أثقل شيء في الموازين ، ودليل الكمال في إيمان المؤمنين؟!
تعلَّمنا من رمضان : أن بعد الزاد سفر طويل ،وبعد التعبئة انطلاق سريع ،لا تنتهي الطاعة بعد رمضان بل بعد رمضان حركة ودعوة وجهاد وبذل وتضحية وعطاء ،تفان وفداء .قال تعالى:
( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ( قُمْ فَأَنذِرْ ) [المدثر:1-2]
فيا من أعتقه مولاه من النار ، إياك أن تعود بعد أن صرت حُراً إلى رق الأوزار ، أيبعدك مولاك عن النار وأنت تقرب منها ؟ وينقذك منها وتوقع نفسك فيها ؟!
العاقل اللبيب من جعل رمضان مدرسة لبقية الشهور بالاستمرار والمداومة على الطاعات والواجبات، ولو كانت قليلة؛ فقليلُ دائم خير من كثير منقطع.
تعلَّمنا من رمضان : أن قبل التحلية تخلية فلا تملئ الكوب عسلا حتى تفرغه من الخل ،«فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب ولا يجهل» ، فيا من تحافظ على الصلاة طهّر لسانك من الفحشاء والمنكر .
يا من تحافظ على الحج والعمرة طهّر بطنك من المال الحرام .
تعلَّمنا من رمضان : انه كلما كان الإنسان من الله اقرب كان في البذل أجود من الريح المرسلة ، والبخيل بعيد من الله بعيد من الناس قريب من النار .كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير وكان أكثر ما يجود في رمضان ، قال تعالى : ( وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ ) [الحشر:9]
تعلَّمنا من رمضان : أن ننبذ الخلاف وأسباب الفُرقة فلقد تراصّت الصفوف في رمضان كالجسد الواحد .
تعلمنا أن الرب واحد وان الأمة واحدة موحدة في عبادتها متوحدة في شعائرها يفطرون جميعا ويصومون جميعا .قال تعالى: ( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) [الأنبياء:92]
تعلمنا من رمضان: أن العمل الذي يتعدى أثره يعظم أجره .
قال صلى الله عليه وسلم :«من فطّر صائماً كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئاً»[أحمد والترمذي وصححه الألباني، صحيح الجامع 6415].
أخـــي الحبيــــب : أن استطعت آن تلقى الله ولك آثارا طيبة وصدقات جارية فافعل ،قال تعالى: ( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ) [يس:12].
تعلَّمنا من رمضان : أن نفرح بطاعاتنا ،وان نبكي على خطايانا .فإذا فرحت بالطاعة وحزنت للمعصية فأنت مؤمن .«للصائم فرحتان عند فطره وعند لقاء ربه» ( قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) [يونس:58]
تعلَّمنا من رمضان : أن الجوع رياضة الإرادة والمعول الذي يكسر صخر الشهوة والقبضة التي تخنق مجرى الشياطين .
يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء»[ رواه البخاري ومسلم].
تعلَّمنا من رمضان : كيف نقاوم نزغات الشيطان .
تعلَّمنا من رمضان : كيف نقاوم هوى النفس الأمّارة بالسوء.
تعلَّمنا من رمضان : أن نربي أنفسنا على الجهاد بأنواعه :
هنا مصنع الأبطال يصنع أمةً — وينفخ فيها قوة الروح والفكر.
ويخلع عنها كل قيد يعوقها — ويعلي منار الحق والصدق والصبر.
فقد حصل فيه من الأحداث التي غيرت مسار التاريخ ، فنقلت الأمة من مواقع الغبراء ، إلى مواكب الجوزاء ، ورفعتها من مؤخرة الركب ، لتكون في محل الصدارة والريادة .
حَقًّا لقد كان رمضان مدرسةً إيمانية تربوية،فهذه دروس يسيرة من آثار شهر الصيام الكبيرة الكثيرة.
وفقنا الله وإياكم لطاعته و جمعنا وإياكم في مستقر رحمته ، وصلّ اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.