محاكمة في الظلام…!
بقلم/ سكينة إبراهيم
كان لهم منه مثل غيرهم نفس القدر والنصيب، ولكنهم فضلوا عليه مساحات أخري من السواد ظلت تتمدد وتنتشر حتي اضطرت “اللون الأبيض” إلي التقوقع والإنزواء في بوتقة نائية غير مذكورة، ومع زيادة مساحاة “السواد” والقتامة لم يستطع “اللون الأبيض” أن يجاورها صامتا غير فاعلا، كما أنه لا يقبل تلك الميتة الظاهرة له وهو الذي تكمن بداخله الكثير من طاقات العمل والسعي، أما البطالة والصمت علي الآثام معا فهذا مما لم يعد يقبل أو يتحمل العيش بكنفه وفي صحبته، وعلي هذا فقد قرر ” اللون الأبيض” ترك قلوبهم لهم كما اختاروها وخططوا لها أن تكون كما القبور الخربة المقفرة، وذات ليلة أجمع أمره واستكمل عدة الرحيل وانصرف فارا ململا كل ما بقي له من قوة وطاقة علم..وهكذا فقد انطلق “اللون الأبيض” في حياته الجديدة متنعما بها باشا مقبلا فرحا بفرصته الجديدة تلك في الحياة والتي يمكنه معها القيام والإتيان بما هو خليق وجدير به أن يفعل..
*****
استيقظ “سواد القلوب” يصرخون ويهللون ساخطين علي هذا الذي تركهم وفر؛ ليس حبا أو إكراما له ومن ثم ألما علي فجيعته فيهم والتي آثر معها الرحيل عنهم علي البقاء بينهم مع سوء فعالهم؛ وليس حزنا علي ما قد أوصولوه إليه من بطالة وفراغ تركهم في إثرهما، وكذلك ليس سعيا لوصله والتدثر به والإلتحاف المأمون تحت جناحه؛ وإنما حملهم علي السخط عليه واللهث خلفه والذعر لفراره وفقده أنه سيعود إلي حياته وكده وبذله؛ فيبرز له أثرا واضحا جليا، وفي هذا الظهور له محاربة واضحة لخلهم الجديد “اللون الأسود” هذا الذي نعموا في ظله، وآنسهم صحبته وجواره..
*****
يبدأ النهار مشرقا بتجليات هذا الأبيض الرائق الصافي، ساكنا في أشعة الشمس الدافئة يعم بسناه الأخاذ الأرض قاطبة، فيبدأ به اليوم صحوا مليئا بالعمل والهمة والنشاط والبذل، ويتنعم في ظل دفئه الفقراء رقيقوا الحال هؤلاء الذين يسرق أصحاب “السواد” خيرات بلادهم ولا يتركون لهم سوي الفتات. يسكن “الأبيض” كذلك في صفحات الحقول الممتدة المنزرعة بالقطن النادر يملأ بخيره خزائن البلاد عزا وغني، ويكسو الشعوب الكادحة الأصيلة…وهنا نجد من يلهث خلف قرص الشمس يريد أن يخمده؛ حتي يحل علي البلاد ليل سرمدي ومعه تنشط الأيدي الطويلة لتمتد لما ليس لها، وتغفل الشعوب الكادحة عن تبين وجه من يسرقها ويوخز جنبها بخنجر دام ثم يفر، فيختلط الأمر بينه وبين هذا الذي يحرسها ويطبب جرحها ويبقي علي عهد وفائه لها مرابطا..
وفي الليلة نفسها هناك من يركض كالمذعور بفأس الهدم لا الزرع؛ ولا يهدأ حتي يقتلع ذهب الحقول بمنجل طويل حتي الجذور، فتحلو في عينه صورة الأرض الموحشة الخاوية إذا جناها لصالح عدوها بالتدمير والإفساد قبل أن يَتم زرعها و ينضج..
*****
نلحظ بلا جهد “الأبيض” هناك يقف سعيدا باشا يعلو جبين تلك العروس السعيدة وتتزيّا به في إقبالها علي حياتها وأسرتها الجديدة، وقد كانوا له هناك متربصين مترصدين؛ قاتلوا العروس في موكبها فاغتالوا فرحة عمرها وألبسوها ثوب الحداد، وأحالوا بسمة أهلها نواح، وأفراحهم غما وأتراح..واصلت أعين “سواد القلوب” التلصص خلف كل لون “أبيض” في البشر أو الأرض، ولأن أصحاب “الأبيض” دائما من ذوي الهامات المرفوعة والقامات المستوية، فقد تطلعت أعين أصحاب “السواد” إلي الرؤوس وما يعلوها، فطادرت الحكمة المختبئة خلف شيب الكبير موفور الوقار راجح العقل والخبرة، واتهمت -تارة بالجريمة وتارة بالرجعية- حجاب الصبية التي عرفت فرائض ربها وبدأت في تلبيتها بنقاء وشغف..
*****
كانت المطادرة ساخنة حقا، لكنها في الحقيقة قد أبانت للجميع وأفصحت عن أصل “الأبيض” وجوهره، وأين يسكن وعلي أي عمل يقبل وينشغل، إن تتبع خيط “السواد” الراكض بجنون وتهور يكفي كي تعرف أنه يسرع ليلتف خلف جيد الرفعة والأنفة والعزة يريد أن يكسرها، وخلف أيدي العاملين الباذلين الكادحين يريد أن يقيدها، وخلف أرجل الساعين في إغاثة الملهوف وسد حاجة الجائع والمعوز يريد أن يقطعها، بل وخلف ممتهني الطب فيقذف علي ملابس عملهم تهمه الباطلة حتي يستريب المريض ويتشكك فيهم أصحاب الأوبئة والآلام المزمنة؛ فيمنعوا عن أنفسهم الدواء حتي تستشري العلل و تتوغل، وينخلع عن الجميع رداء العافية والصحة..!
*****
استعد الجميع للمحاكمة الحافلة، حشدوا لها أجهزة التصوير والتسويق من كل مكان في العالم، ومنّوا أنفسهم بيوم زينة جديد يسطعون فيه علي الناس بملامح الإنتصار وأهبة الفخار والعلياء والزهو..فها هم أخيرا قد قبضوا علي هذا الفار المفارق لقلوبهم، واليوم هو أسير لديهم يشاهده الخلق جميعهم في قفصه وخلف القضبان، بينما لن يبقي بعدها مكان إلا للسواد ولونه القاتم هذا الذي آمنوا به وأخلصوا له ووعدوه بهزيمة عدوه وكسره..!
وبعد ثوانٍ من بدء المحاكمة اكتشف الجميع أن القاعة كلها مظلمة، وأن الظاهر البادي فقط للعيان هو هذا الذي يتهمونه القائم في محبسه، فكيف يمكن للقاعة أن تضيء، في حين أن “اللون الأبيض” المصدر لكل الألوان والأشعة هو الواقف خلف القضبان، كان من الطبيعي أن يكون القفص وحده هو المضيء والقاعة بأكملها غارقة في الظلام..وهكذا فقد انتصر الأسير دون أن يتحدث، وكان مثله كتلك الضماد البيضاء التي تعلو الجراح لتربط عليها، فيبقي لون الجرح الأحمر القاني علامة تظهر وتشير إلي ما يختبيء خلفها من جراح ..
زاد غضب وحنق المحكمة علي من يتهمونه في قفصه، وأسرفوا في الحديث عما اقترفه من مخالفات وجرائم.. يلبسون فيها الحق بالباطل والباطل بالحق، يريدون بذلك أن يقنعوا الجماهير بأن هذا الذي يسكن الضياء فيبهجها، ويزهر ذهب الحقول فيورقه، ويسعد العروس في جلوتها، هذا ليس إلا لون مكفهر عابس مجدب تنزعج منه الأنفس المطمئنة وتنطفيء لأجله بهجة العيون..!
لم ينتظر قضاة محكمة الظلام رأي الجماهير؛ بل اتخذوا قرارهم بالسجن لأجل غير محدود للون الأبيض؛ في حين اطمأن الأخير للحكم بعد تلك المحاكمة التي أنصفته وزادت من تمدده من حيث أرادت له الأسر والحرمان..!!