هذه آيات من سورة البقرة، تبين للمؤمنين معالم طريق النصر، وهو نفسه أقرب طريق إلى الجنة، فمن أراد أن يدخل الجنة، فهذا طريق الوصول لمن شاء أن ينال منازل الأبرار، وهو طريق مخوف وعر لا يصبر على وعثائه إلا عظماء الرجال، وشرفاء الأبطال.
يقول الله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ214/2يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ215/2كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:214-216].
ومن هذه الآيات يتضح أن:
أولاً: هذه الآيات توضح سنة من سنن الله ليس لها تبديل ولا تحويل. خلاصة هذه السنة كما ذكرها الله جل وعلا: أن النصر في النهاية يكون للإيمان، وأن الكفر وأهله مصيرهم الارتكاس ثم الهلاك، هذا هو ما حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما حصل للذين خلوا من قبله من الرسل، فما من رسول إلا عانده قومه وأخرجوه، لكن العاقبة دواماً تكون للمؤمنين.
ثانياً: لكن هذا النصر لا يأتي إلا في قمة الشدائد وبعد معارك يذوق فيها المسلمون مرارة الحرب، وضراء الحياة من بلاء وفقر وفزع، حتى إذا تميز الخبيث من الطيب وظهر المؤمن من المنافق، وتمخضت العناصر في بوتقه البلاء، استمرت الشدائد بعد ذلك حتى تبلغ القلوب الحناجر. وقيل في هذه الآية إنها نزلت في غزوة الأحزاب حين بلغت القلوب الحناجر، ثم جاء النصر بعد أن ظن الناس بالله الظنون.
ثالثاً: في الآية إشارات بليغة ممتعة، فالاستفهام الإنكاري في قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم… ﴾ هو إنكار يثبت ضده هو أن دخول الجنة، لا يتأتى إلا بأن تمروا بما مر به أتباع الأنبياء من قبلكم من امتحان وبلاء وفي قوله تعالى: ﴿مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ﴾ صورة بليغة رائعة لعظمة البلاء، فقد احتملوا الخوف والفزع والفقر، وتزلزلت نفوسهم بهول المصائب كل ذلك ليميز الله الخبيث من الطيب. وفي قوله تعالى: ﴿حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ﴾ صورة لقمة الأزمة حين يشرف الرسل أنفسهم على السأم، ويستبطئون النصر ويهتفون من أعماقهم: متى نصرك يا رب، فقد بلغ السيل الزبى، وأشرف صبرنا على الانتهاء؟! وهي صورة لعنفوان البلاء الذي لا يطاق. ثم يكون شاطئ السلامة قوله تعالى: ﴿أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ﴾ وهو تذييل على شكل حكمة بالغة ومثل بليغ، ومعناه: حينما تشتد الأمور وتزيغ الأبصار، فيعلم المؤمنون أن نصر الله على الأبواب إذا اشتد الظلام، فقد أوشك أن يلد نوراً. وإذا تأزم الكرب، فقد آذنت طلعة الفرج بإطلالتها.
رابعاً: وبين آيتي الجهاد، تقع الآية الثانية، وهي آية الإنفاق؛ لأن الإنفاق له التصاق بالجهاد؛ ولأن الدرس إذا تلقنه الناس في الشدائد فلن ينسوه أبداً. إن الآية الثانية تدور حول كثرة من يسأل الناس، ماذا ينفقون، وفي الآية ما يسمى في علم البديع (أسلوب الحكم) وهي أن يسألك سائل: كم ركعة ترى أن أتهجد بالليل؟ فتقول له: أد عملك في إخلاص، مشيراً بأن الأولى هو إخلاص الإنسان في واجبه، ثم يأتي بعدئذ تهجده ونوافله، وهنا يسأل المؤمنون رسولهم: ماذا ننفق يا رسول الله؟ فيجيبهم: إن المهم في صدقة التطوع، أن توضع في موضعها، وبالفعل ترى كثيراً من الناس يتبرعون بالملايين، فلا يكتب لهم من أجرها شيء؛ ذلك لأنهم وضعوها في غير موضعها استجابة لهوى أو رياء. ولهذا أجاب القرآن الكريم عن السؤال بجواب غير العادي فقال: ﴿قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ﴾، يعني: بذلك أن يبدأ الإنسان بأسرته، فيعفهم ثم بوالديه وأقاربه، وإذا فضل بعد ذلك فضل فهنالك اليتامى، والمساكين وأبناء السبيل.
ويختم هذه الإجابة بحكمة، تبين أن الله جل وعلا يعلم بكل إنفاق تنفقونه، كما يعلم مدى الإخلاص في قلب المنفق، وصدق نيته في خلوص العمل لوجه الله: ﴿وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾.
خامساً: الآية الأخيرة حكمة قد تصادف المؤمن كل يوم، فرب شيء يحبه الإنسان ويتمنى حدوثه، يكون شراً، ورب أمر يكرهه الإنسان تكون عواقبه خيراً، هذه الحكمة تسلى المؤمن كثيراً، كلما أخفق في الوصول إلى أمر، يذكرها فتكون كالبلسم الشافي وتراه بعد ذكرها يستسلم طواعية لحكمة القضاء وعدالته: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ﴾ القتال يتحول إلى فرض عين إذا نزل الأعداء بساحة المسلمين، وهتكوا حماهم كما هو حال العرب في هذه الأيام، والحرب لا شك فيها دمار، وقتل وجراحات، وتدمير للاقتصاد؛ لكنها أشبه ما تكون بالأمطار، والسيول الجارفة تدمر وتجرف وتفسد المزروعات، والطرق والجسور؛ لكنها تكون إيذاناً ومقدمة لربيع مونق وخصب مغدق. ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ حث للمؤمنين ألا يتأثروا بما تكرهه أنفسهم، فرب أمر تكرهه النفس يكون خيراً في المعاش والمعاد، والمؤمن لا تُلين الشدائدُ قناتَه، بل يعدها دائماً مفاتيح للرحمة، والفرج والسعادة، وخصوصاً حين يتألق في ظلمائها الصبر الجميل.