كثيراً ما نستخدم مصطلح الربانية في أدبياتنا، بل وفي أحاديثنا العابرة، وقد غلب علي استخدامنا لهذا المصطلح للدلالة علي إحسان العبادة، فالإنسان الرباني هو الإنسان العابد، الذي تظهر عليه علامات الصلاح والتقوي كأثر من آثار إحسانه للعبادة. بل كثيراً من نقصر معني العبادة المرتبط بالربانية علي العبادات المحضة والشعائر التعبدية؛ فالرباني هو ذلك الإنسان الروحاني الشفاف صاحب الصلة الحسنة مع الله، وكل ما سبق صحيح من صفات الإنسان الرباني، ولكنه في الحقيقة لا يغطي إلا جزءً من مفهوم الربانية كما وردت في القرآن الكريم.
فأركان الربانية في المفهوم القرآني خمسة: أولها إحسان العبادة، وثانيها طلب العلم وتدارسه والتفقه في الدين، وثالثها: التعليم والدعوة وإرشاد المجتمع، ورابعها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وخامسها الجهاد في سبيل الله.
فأما الركن الأول للربانية وهو إحسان العبادة فمأخوذ من قوله تعالي: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ﴾ (آل عمران: من الآية 79). فالربانية التي يتصف بها ويدعو إليها من آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة – وكذلك أتباعهم- هي الإيمان بالله، والتوجه بالعبادة له وحده دون سواه “قيل إن أبا رافعٍ القُرَظيّ والسيدَ النجرانيَّ قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أتريد أن نعبُدَك ونتخِذَك رباً فقال عليه السلام معاذَ الله أن يُعبَدَ غيرُ الله تعالى وأن نأمرَ بعبادة غيرِه تعالى فما بذلك بعثني ولا بذلك أمرَني فنزلت الآية، والربانيُّ منسوبٌ إلى الرب بزيادة الألف وهو الكاملُ في العلم والعمل الشديدُ التمسكِ بطاعة الله عز وجل ودينِه” (تفسر أبو السعود، بتصرف).
ولا شك أن الإنسان الرباني المنسوب إلي الله تعالي يعبده عبادة المشاهدة والمراقبة، كما جاء في حديث جبريل «قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِحْسَانِ، قَالَ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ، فَإِنَّهُ يَرَاكَ»(رواه البخاري ومسلم). فالمشاهدة أن يعبد الله كأنه يراه، والمراقبة أن يعبدالله مستشعراً ومستحضراً نظر الله إليه. ولا شك أن العبادة بهذه الكيفية لها أعظم الأثر علي الإنسان فتجعله شفافاً روحانياً، كما تنعكس علي سلوكه وأخلاقه فيكون من أحسن عباد الله خُلُقاً وأقومهم سُلُوكاً.
وأما الركنين الثاني والثالث للربانية فهما مرتبطان بالعلم تعلماً وتعليماً، وهما ماخوذان من بقية الآية السابقة أيضاً : قال تعالي: ﴿وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ﴾(آل عمران: من الآية 79). فقد بينت الآية أن طلب العلم وتعلمه ومدارسته والتفقه في الدين، وتعليم الناس ودعوتهم وإرشادهم إلي الحق والخير من أركان الربانية. ولذلك فقد جعل الإسلام طلب العلم فريضة علي كل مسلم ومسلمة. عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ»(رواه ابن ماجة وصححه الألباني). كما جعل الإسلام العلم طريقاً إلي الجنة. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَلَكَ طَريقاً يَطْلُبُ فِيهِ عِلْماً سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقاً إِلَى الْجَنَّةِ. وَمَنْ أبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُه» (رواه مسلم). عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» (رواه أحمد وصححه الأرناؤوط). قال الشافعي : “طَلَبُ العِلْمِ أَفْضَلُ مِنْ صَلاَةِ النَّافِلَةِ”(مسند الشافعي). وقَالَ الْحَسَنُ: “كَانَ الرَّجُلُ إِذَا طَلَبَ الْعِلْمَ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ يُرَى ذَلِكَ فِي بَصَرِهِ, وَتَخَشُّعِهِ, وَلِسَانِهِ, وَيَدِهِ, وَصَلَاتِهِ, وَزُهْدِهِ”(الإتحاف).
أما العلماء فلهم مكانة عظيمة في الإسلام تفوق مكانة العباد والزهاد. عَنْ أَبِي أُمَامَةَ البَاهِلِيِّ، قَالَ: ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا عَابِدٌ وَالآخَرُ عَالِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ» ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الخَيْرَ» (رواه الترمذي وصححه الألباني) وعنه صلي الله عليه وسلم أنه قال: «إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّهُ لَيَسْتَغْفِرُ لِلْعَالِمِ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْبَحْرِ وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِرْهَمًا وَلَا دِينَارًا وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ»(حسنه الأرناؤوط بمجموع شواهده).
وأما الركن الرابع من أركان الربانية وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فمأخوذ من قوله تعالي في حق بني إسرائيل: ﴿وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾(المائدة: 62 – 63). فالربانيون لا يسكتون عن هذا العوج، ولا يصمتون أمام هذا الانحراف، ولكنهم يجهرون بكلمة الحق مهما كانت الظروف، ومهما جلبت عليهم من متاعب، ومهما كلفتهم من أثمان. ولذلك قال الله لهم: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾(المائدة:44). فالربانيون مؤتمنون علي حفظ الوحي وبيانه للناس، فلا تمنعهم خشية كبير أو عظيم من توضيح الحق والجهر به. ولذلك عندما سئل النبي صلي الله عليه وسلم عن أفضل الجهاد قال: «كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ إِمَامٍ جَائِرٍ»(رواه أحمد وصححه الأرناؤوط).
وأما الركن الخامس من أركان الربانية وهو الجهاد في سبيل الله فمأخوذ من قوله تعالي: ﴿وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (آل عمران: 146 – 148). فقد وصفت الآية الربانيين من أتباع الأنبياء بأنهم مجاهدون في سبيل الله، وأن نفوسهم عصية علي الوهن والضعف والاستكانة مهما أصابهم من أذي أو لحق بهم من ضر في سبيل الله، وأنهم مع إقدامهم وجهادهم وثباتهم وصمودهم يداومون علي الذكر والدعاء والاستغفار واتهام النفس بالتقصير، ويطلبون من الله أن يغفر لهم ويثبت أقدامهم وينصرهم علي عدوهم؛ فهم يثقون بالله أكثر من ثقتهم بأنفسهم، ويعتمدون علي الله أكثر من اعتمادهم علي عقولهم وسواعدهم، مع بذلك كافة الأسباب، واستفاغهم كل ما لديهم من جهد وطاقة، ولذلك كان الجزاء من جنس العمل فلم يؤخر الله عنهم ثواب الدنيا من نصر وغيره ولأجر الآخرة خير ﴿فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾.
هذه هي الربانية كما جاءت في كتاب الله فمن أراد أن يأخذها بمفهومها الشامل فعليه أن يستجمع أركانها الخمسة: العبادة والعلم والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله. وعلي المربين أن يدركوا هذه الحقيقة فيكون تركيزهم علي تكوين فرسان النهار لا يقل عن تركيزهم علي تكوين رهبان الليل، واهتمامهم بالعلم تعلماً وتعليماً ودعوة لا يقل عن اهتمامهم بالعبادة والنسك وتعظيم شعائر الله، واهتمامهم بتربية الأفراد علي الإيجابية والقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقل عن اهتمامهم باستقامة سلوك الفرد وتميزه في الجانب الإيماني والتعبدي، وتعويد الفرد علي المجاهدة وحياة المجاهدين، والعيش بنية الجهاد وإعداد النفس له، لا يقل عن بلوغ مرتبة الإحسان في العبادة.