من صفات الربانيين
- صالح مصلح
أن يكون دائم البحث عن الخير دائم التعرف على الحق ، دائم القيام بتعليمه لغيره ، على أي مستوى من مستويات التعليم : ليس الرباني إذن الذي يهتم بذاته أو بأوراده فقط ، إنما الرباني يعمل على شعبتين : على مستوى ذاته في توثيق صلته بالله على كل الأحوال ، ثم يقوم بتنفيذ ما أمر به ربه وما دعا إليه نبيه صلى الله عليه و سلم ويكون له دورٌ في عملية إصلاح البشرية ، حتى يكون ربانياً ، ولو قرأنا آيات القرآن الكريم وأَمْعَنَّا النظرَ فيها لظهر لنا ذلك بغاية الوضوح .
تعالوا أيها الأحبة نقرأ الآيات وما فيها من معانٍ يقول ربنا جل وعلا ﴿وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَوَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ ﴾ (آل عمران: من الآية 79). يعني:إنما يصلح أن تكونوا ربانيين إذا كان أولُ أغراضكم أن تقوموا بتعليم الناس الإسلامَ ، ليس المعنى : كونوا ربانيين بالانعزال ، أو بالذكر في الليل فقط ، إنما المعنى : لن تكونوا ربانيين إلا إذا كان لكم دور في إحياء الناس ، في إحياء البشرية ، في تعليم الكتاب ﴿كونوا رانيين بما كنتم تعلمون الكتاب﴾ فلا يكون ربانيا من لم يقم بمهمة التعليم سواء كان التعليم لأولادك في بيتك أو للناس الذين يعملون معك ، فهو يقوم بعملية التعليم على قدره ، فهو لا يعلم من أمر الله شيئا إلا علَّمه ، ولا يقف عند حد ، يقول جل وعلا ﴿ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَوَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ فهو في حالة ازديادٍ دائمٍ من العلم ، وعملٍ دائمٍ به ، وتعليمٍ مستمرٍ له .
- يطلبون العلم ويعملون به ويعلمونه للناس
الربانية هي إصلاح للنفس والمجتمع : فالربانيون استُحْفِظوا كتابَ الله ، أي هم المسئولون أمام الله عن حفظ الشريعة وعن نقلها وتعليمها لعباد الله ﴿بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ . ﴾ (المائدة: 44)
الرباني يشعر أن الله سيسأله عن الشريعة كلها ، وعن هذه البشرية جمعاء ، لأنه طلب منه أن يحفظ وحيَه ، وحفظُ الوحي لا يكون بمجرد حفظه في الأذهان والقلوب ، لكن الحفظ الحقيقي يكون بحمله رسالةً وحفظِه أمانةً والعملِ بما فيه .
قام النبى صلى الله عليه و سلم ذات يوم ، فذكر زماناً فقال : ” هذا أوان يرفع العلم ، أو إن هذا زمان يرفع فيه كتاب الله عز وجل ، فقام رجلٌ من أهل المدينة فقال : يا رسول الله ، والله لَنَقْرَأَنَّه ولَنُقْرِئَنَّه نساءَنا وأبناءَنا ! فقال صلى الله عليه و سلم ثكلتْك أمُّك ! إنْ كنتُ لَأَحْسِبُك من فقهاء أهل المدينة ، هذه التوراةُ والإنجيلُ بيد اليهود والنصارى فماذا أغنت عنهم؟”
حرَّفوها وأوَّلوها ولم يعملوا بما فيها ، وكأنَّ النبى صلى الله عليه و سلم يريد أن يقول له ولنا : إن حفظ الوحي ليس بمجرد إيجاد طلاب له يحفظون القرآن ، لكنه يُحفَظ بتطبيق هذا القرآن في واقع الناس ، هذا هو الحفظ ، أما أن نقرأَه ونُقْرِئَه أبناءَنا فقط فهذا شيءٌ جميلٌ لكنه ليس هو الذي يُحْفَظُ به الوحيُ ، فكم من حفاظ حفظوا القرآن والعلم لكن قلوبَهم الفاسدةَ دفعتْهم لتملُّق هذا أو ذاك فحرفوا الآيات عن معانيها ، وأوَّلوا القرآنَ على غير وجهه ، واشتروا بآيات الله ثمنا قليلا ، ولهذا كان من صفات الربانيين الذين حفظوا وحيَ الله ودينَه أنهم لا يخشون في حملهم لهذا الدين وهذه الرسالة إلا اللهَ رب العالمين ، يقول جل وعلا ﴿فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَوَاخْشَوْنِوَلاَتَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناًّ قَلِيلاً﴾ (المائدة:44) يحذر الله تبارك وتعالى الأمة الربانية الصالحة ، أن تجعل كتابَ الله تعالى وسنةَ رسوله r باباً من أبواب التملُّق والمجاملة لبعض الناس في مقابل عَرَضٍ من الدنيا ،﴿وَلاَتَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناًّ قَلِيلاً﴾ كيف يشتري العبد بآيات الله ثمنا قليلا ؟ يكون ذلك بأن يترك الآية أنْ يذكرَها لأنَّ بعض الناس لا يعجبهم أن يسمعوها ، أو يذكر الآية ويُؤَوِّلُها على غير وجهها خدمةً لأغراضه وأغراض مَنْ يدفع له ، أو يذكر الآية ثم يعارضها برأيه وهواه ولا يستجيب لأمر الله .
فالرباني إذاً – ونحن جميعا مأمورون بأن نكون ربانيين – لا يغير في آيات الله ولا يشترى بآيات الله ثمنا قليلا ، ولا يتأخر عن إعلان الحق والجهر به .
(ج) حارساً على منهج الله يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر :
فمتى تخلى الرباني عن هذه الصفة استحق – واستحقت الأمة – اللعن ، يقول ربنا جل وعلا﴿و تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ (المائدة :62 ،63)
ألم يكن من الواجب على الربانيين أن يقوموا بواحب التنبيه والنصيحة والضرب على يد الظالم والأخذ على يد الفاسد والنهي عن قول الإثم وأكل السحت ؟ لبئس ما كانوا يصنعون ، والصنع أبلغ من العمل ، وكأنَّ الساكتَ على الباطل مع علمه يتحمل أوزارَ كل مَنْ يفعل الباطلَ فيشارك كلَّ آكلٍ للسحتِ وقائلٍ بالإثم في إثمه ، فإثمُه أكبرُ من آثام الناس جميعا ، حين ترى الفاسد ولا تسعى لإصلاحه ، حين ترى الظالم ولا تسعى لرده عن ظلمه ، حين ترى الباطل ولا تسعى لإزالته من الأرض ، حين ترى الحق ولا تسعى لإحقاقه في الوجود – فكلُّ ساع في الباطل أنت شريكٌ له ، وكلُّ قائل بالإثم أنت شريكٌ له ، وكلُّ آكل للسحت أنت شريكٌ له .
يقول سيدنا عبد الله بن عباس (ما في القرآن آيةٌ أشدّ توبيخاً من هذه الآية ) أي قوله تعالى ﴿لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت﴾ (المائدة:62) .
و يحذرنا الله بقوله يقول الله تعالى ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةًوَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ﴾ (الأنفال : 25) ويحذر الرسولُ صلى الله عليه و سلم الأمةَ إذا رأت الفسادَ ولم ترفعْ رايةَ الإصلاح ، إذا رأت الظلمَ ولم تدع إلى العدل ، من أن ينزل بها العقاب العام ،)حين ينزل البلاء لن يأخذ الظالمين وحدهم ، إنما سيشمل الظالمين والساكتين ، يقول r : ” ما من أمة وما من قوم يكون فيهم من يعمل بالمعاصي يقدرون على تغييره فلم يغيروا إلا أوشك الله أن يعمهم بعقاب منه ” .
ويقول صلى الله عليه و سلم :”إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم يا ظالم فقد تُوُدِّع منها” أي صارت أمة لا معنى لها . إذا رأيتَ الأمة تركت فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ورأت الفسادَ ولم تتكلم ، ورأت الظلم وسكتت ، في هذه الحالة فإن الأمة تستحق من الله تبارك وتعالى الْمَقْتَ ، و يقول : ” إنَّ أوَّلَ ما دخل النقصُ على بني إسرائيل أن كان الرجل فيهم يعمل بالمعاصي فيقول له أخوه: اتقِ الله ودَعْ ما تصنع ، ثم لا يمنعه ذلك أن يكون من الغد أكيلَه وشريبَه وقعيدَه، فضرب الله قلوبَ بعضهم ببعضٍ ، ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم ، فقال تبارك وتعالى ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَوَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْاوَكَانُوا يَعْتَدُونَ . كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ (المائدة: 78)
ليستمع هذا من يظن أن الربانية إصلاح للذات و انعزال عن المجتمع،لابد أن يكون لنا معاشرَ الربانيين،معاشرَ أمة سيد المرسلين،دورٌ في عملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر و الدعوة إلى الإصلاح والدعوة إلى تغيير الظلم على مستوى الفرد والجماعة والأمة كلها ، وإلا استحقت الأمة أن تدخل في لعنة الله ، يقول ربنا تبارك وتعالى ﴿فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْوَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِوَكَانُوا مُجْرِمِينَ.وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ ( هود:116،117) لابد للأمة أن تنهي عن الفساد في الأرض، و انتبه لم يقل(وأهلها صالحون) لكن قال(وأهلها مصلحون).
(د) له دور في إصلاح من حوله
له دور في إصلاح بيته وأسرته وجيرانه والناس من حوله ، بِيَدِه إن أمكنه التغيير بيده ،وبلسانه إن أعجزه التغيير أن يكون بيده ، ثم بقلبه إن أعجزه هذا وذاك ، ويتحين الفرص للإصلاح ، يقول على بن أبى طالب رضي الله عنه لأولئك الذين يجبنون عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، خوفا على أرزاقهم أو آجالهم : “أيها الناس إنما أهلك مَنْ كان قبلكم أنهم كان يُعْمَل فيهم بالمعاصي فلا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، أيها الناس إن الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقطع رزقاً ولا يُقَرِّب أجلا .”
كثير من الناس يخشى على نفسه أن يأمر بالمعروف وأن ينهي عن المنكر أو يرفع عقيرتَه بالدعوة إلى الإصلاح خوفاً على نفسه ورزقه وأولاده ، بعض الناس يقول : علىَّ نفسي ، يكفيني أن أكون صالحا في نفسي ، وهؤلاء الظالمون الفاسدون الله يتولى أمرهم .
ويذكر الله عز وجل لنا نموذجاً من أمة انتشر فيها هذا الفهم الخاطئ الفاسد : كان الله حرَّم على بني إسرائيل الصيدَ في يوم السبت ، ثم شاءتْ حكمتُه أن لا يأتي السمك إلى المياه إلا في يوم السبت ، فأرادت بنو إسرائيل أن تعصي أمر الله عز وجل وأن تحتال على أمر الله ومنهجه ، فقاموا بعمل أقنية وسدود بحيث إذا جاء السمك يوم السبت دخل من هذه السدود ثم سدُّوها ليصطادوا يوم الأحد ، ويحتالوا بذلك على رب العزة جل وعلا ، فقامت طائفة قوَّامة بالحق ، قامت الطائفة الربانية التي تفهم ما معنى الربانية ، فقالوا : يا قوم أنتم تحتالون على أمر الله ، وهذا حرام ، فقامت طائفة أخرى وقالوا لهم : لم تتعبون أنفسَكم ، دَعُوا الظالم لربه ينتقمْ منه ، قالوا : معذرة إلى ربكم ، لعلَّ دعوةَ الإصلاح والخير أن تقابلَ قلبا فيه بقية من خير ، لعلَّ ذلك يلامس فطرةً سليمةً في قلوب الظالمين والفاسدين فيرجعون إلى ربهم . ماذا كانت النتيجة في النهاية ؟ أنجى الله الذين قاموا بواجبهم ، وأُخذ الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون ، وفي ذلك كله يقول الله تعالى ﴿وَاسْئَلْهُمْ عَنِ القَرْيَةِ الَتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ البَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاًوَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ .وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْوَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ . فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِوَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ (الأعراف:163: 165) .
لا حياةَ لأمةٍ يرى أفرادُها أنْ لا دورَ لهم في عملية الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بل إن النبى صلى الله عليه و سلم يبين لنا أن المجتمع الذي نحيا فيه كالسفينة ما لم يكن همُّ كل مَنْ فيها الحفاظُ على سلامتها فإنها ستغرق بالجميع ، فيقول صلى الله عليه و سلم ) : “مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا ( أي اقترعوا )على سفينة ، فأصاب بعضُهم أعلاها وبعضُهم أسفلَها ، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مَرُّوا على مَنْ فوقهم ، فقالوا : لو أنا خرقْنا في نصيبنا خَرْقاً ولم نُؤْذِ مَنْ فوقَنا ، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعا ، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا“(في رواية (نَجَّوْا) أي كانوا سببا في نجاة الآخرين .
فالربانيون من أولى مهامهم أن يخرجوا وأن لا يكتفوا بالعبادة الشخصية ، إنما يخرجون إلى البشرية معلمين ومطبقين لأمر الله ، آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر .
(ه) الجهاد والمجاهدة
الربانيون لا يكونون ربانيين حقاً إلا إذا جاهدوا في ذات الله عز وجل أنفسَهم والمنافقين والكفار ، لابد أن يجاهدوا ليكونوا ربانيين ، كما قال الله تبارك وتعالى ﴿وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَاوَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِوَمَا ضَعُفُواوَمَا اسْتَكَانُواوَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِين﴾ )أل عمران : 146) فلا يحمل رسالةَ الأنبياء إلا الربانيون الذين أدركوا أن إصلاحَ البشرية مهمَّتُهم ، ولهذا يخرجون ويقاتلون مع الأنبياء ، ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاوَمَنِ اتَّبَعَنِيوَسُبْحَانَ اللَّهِوَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ ( يوسف : 108) هؤلاء الذين يخرجون على بصيرة يجاهدون في الله عز وجل بكل صور الجهاد ، يجاهدون أنفسَهم ومَن حولهم ، ويَدْعون الناسَ إلى ربهم ، ولا يبالون في سبيل هذا الجهاد بما يتكبَّدون من تضحيات ، ولا بما يواجههم من تهديدات ، ولا بما يكون أمامهم من عقبات ، كما يقول ربنا تبارك وتعالى ﴿وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَاوَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِوَمَا ضَعُفُواوَمَا اسْتَكَانُواوَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِين﴾ أي وصل الحال بالدعوة وأصحابها إلى أن تعرض عدد كبير للقتل ، لكن هذا لم يَفُتَّ في عضد الربانيين الآخرين ، ولم يدفعهم إلى الاستسلام للباطل ، أو السكوت عن الحق ، أو الركون أو التضعضع ، إنما صبروا والله يحب الصابرين ﴿ومَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَاَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَاوَثَبِّتْ أَقْدَامَنَاوَانصُرْنَا عَلَى القَومِ الكَافِرِينَ﴾ (آل عمران : 147) فهم يستمدون القوة والعون من الله ويعلمون أن اللهَ نصيرُهم ، ولذا فهم يلجؤون إليه وقتَ الشدائد كما أنهم في الضَّرَّاء يعتصمون به .
إن الرباني الذي يدعو إلى الخير والمعروف وينهي عن المنكر ويقاوم الشرَّ والفسادَ يجب أن يَثْبُتَ قدمُه في سبيل الله عز وجل ، مهما تكن التضحيات ، بل إن الله تبارك وتعالى عاب على بعض أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم ، أنه عندما أشيع أن النبيَّ قُتِل في غزوة أُحُد ، قال بعضهم : علامَ نقاتل ؟ لقد قتل محمد ! فنزل قول الحق تبارك وتعالى يعيب عليهم ذلك﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْوَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاًوَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾ ( آل عمران : 144) إن حامل راية التوجيه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا سقط وجب على الأمة أن ترفع رايته . هذا هو معنى الربانية .
وإجمالا : فليس الرباني هو مَنْ ينعزل على نفسه في بيته ذاكراً مسبِّحاً تالياً للقرآن ، قائماً لليل ، عابداً لله ، ثم يعتزل الناس ، ولا يكون له شأن بما في الحياة من ظلمٍ أو فسادٍ ، لا يقاوم الفسادَ ، ولا يحارب الظلمَ ، ولا يأمر بمعروف ولا ينهي عن منكر ، هذه هي الرهبانية التي حذرنا منها الله عز وجل ، والتي تقول : دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله ، أما الربانية فهي عبادةٌ وذكرٌ وأورادٌ وتسبيحٌ واتصالٌ برب العالمين ، ثم خروجٌ إلى الحياة لإصلاحها ، وسعيٌ لنشر العدل ومنهج الله تبارك وتعالى فيها ، ومقاومةٌ لرذائل الأخلاق وأسباب الفساد ، هذه هي الربانية والروحانية الحقيقية ، روحانية اجتماعية لا انعزالية ، إيجابيةٌ تحرك صاحبَها إلى فعل الخير وإصلاح النفس والآخرين ، لا روحانيةٌ فرديةٌ تدعو صاحبَها لأن يترك الحياةَ وما فيها والدنيا وما عليها ، فهذا خلافُ منهج الله ورسله ، وهل كان عمل الأنبياء إلا معاناةَ الخلق ، هل كان عملُ الأنبياء أن يأخذوا الرسالةَ ويقعدوا في بيوتهم ، أم أن عملهم كان هو الانتشارَ بين البشرية لإصلاح فسادها ، وتقويم عوجها ، ما من نبي جاء إلا ودعا إلى تقويم العِوَج الموجود ، ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُو َلاَتَنقُصُوا المِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ[﴾ (هود :84) .
هذه هي دعوة الربانيين الذين أمرنا الله تبارك وتعالى أن نكون منهم .
وهي عمل يجمع الصالح إلى الصالح ، واليد المصلحة إلى اليد المصلحة ، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ، الصالحون والمصلحون في حاجة لأن يضع بعضهم يده في يد بعض ، الجاهلية المنظمة المجتمعة تحتاج إلى إسلام رباني منظم مجتمع ليواجهها ، الكافرون المفسدون الذين يعملون ضمن عصابات وجماعات لا يمكن أن يقاوَموا إلا بأمة مجتمعة ، يد بعضها على يد بعض كما قال الله عز وجل : ]وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِوَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ (الأنفال : 73)
سيحل الفساد في هذه البشرية ما لم يجمع الصالح نفسه إلى الصالح والمصلح إلى المصلح ، ويتعاون الجميع على إنقاذ السفينة ويستنجد الجميع بعضه ببعض ، فإنَّ كَدَرَ الجماعة خيرٌ من صَفْو الفرد ، ولَأَنْ تخالطَ الناس وتصبرَ على أذاهم ، وتقومَ بالإصلاح وتتحملَ فيه التضحيات ، خيرٌ من أن تنعزلَ وتَسْلَمَ من شرور الناس ومن أذاهم .
كان اثنان من الصالحين يسيران معا فرأيا أناساً على الفساد ، فقال أحدهما للآخر : تعالَ بنا نسِرْ إلى هؤلاء القوم الفاسدين لندعوَهم إلى الله ، والإقلاع عن الفساد ، فقال الآخر : يا أخي إنما أحب أن يصفوَ لي قلبي ، ولا أريد أن أنشغل بغيري ، وما عليَّ لو قعدتُ أعبد اللهَ تبارك وتعالى ولا يصيبني من أذى هؤلاء الناس شيءٌ ، فقال صاحبُه : لكني والله لا أرى ينجيني من عذاب الله عز وجل إلا أن أذهبَ فآمرَ بالمعروف وأنهي عن المنكر ، وأخالطَ الناس وأصبرَ على أذاهم ، فذلك خير لي من أعتزلَ ولا أصبرَ على أذاهم.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ tقَالَ : مَرَّ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ r بِشِعْبٍ فِيهِ عُيَيْنَةٌمِنْ مَاءٍعَذْبَةٌ ، فَأَعْجَبَتْهُ لِطِيبِهَا ، فَقَالَ : لَوْ اعْتَزَلْتُ النَّاسَ فَأَقَمْتُ فِي هَذَا الشِّعْبِ ! وَلَنْ أَفْعَلَ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ رَسُولَاللَّهِ r . فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِاللَّهِ r صلى الله عليه و سلم فَقَالَ : (لَا تَفْعَلْ ، فَإِنَّ مُقَامَ أَحَدِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ سَبْعِينَ عَامًا . أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَيُدْخِلَكُمُ الْجَنَّةَ؟ اغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ.مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِفَوَاقَ نَاقَةٍ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ). قَالَ الإمام الترمذي : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ .
هذا هو الإسلام وهذه هي الربانية . والله العظيم نسأل أن يجعلنا من الربانيين لا من الرهبانيين ، وأن يكتب لنا التوفيق إلى ما يحبه ويرضاه .وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .