مواقف فى الثقة بنصر الله
الموقف الأول
عندما بدأ محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تبليغ دعوة ربه فوجئ بمعارضة شديدة من مشركي مكة.. استهزءوا به، سخروا منه، ألَّبوا الناس جميعًا عليه، حاربوا أتباعه وعذَّبوهم وساموهم سوء العذاب.
ولم يَسْلم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم من إيذائهم، فعن منبت الأزدي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وهو يقول: “يا أيها الناس.. قولوا لا إله إلا الله تفلحوا”؛ فمنهم من تفل في وجهه، ومنهم من حثا عليه التراب، ومنهم من سبَّه حتى انتصف النهار، فأقبلت جارية بعس (2) القدح الكبير.
من ماء فغسل وجهه ويديه، وقال: “يا بنية.. لا تخَشي على أبيك غيلةً (3) خديعة..ولا ذلةً”، فقلت: من هذه؟ قالوا: زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وهي جارية وضيئة (4).
وأخرج البخاري عن عروة رضي الله عنه قال: سألت ابن العاص رضي الله عنه فقلت: أخبرني بأشدِّ شيءٍ صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم قال: بينما النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم يصلِّي في حِجْر الكعبة إذ أقبل عليه عقبة بن أبي معيط، فوضع ثوبه على عنقه فخنقه خنقًا شديدًا، فأقبل أبو بكر رضي الله عنه حتى إذا أخذ بمنكبيه ودفعه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وقال: ﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ (غافر: من الآية 28).
وقد رأينا مظاهر هذه الثقة متكررة في سيرة رسول الله-صلى الله عليه وسلم- وبخاصة في أشد المواقف حرجًا وخطورة…. فهاهم المسلمون يأتون شاكين إليه ما يقاسونه من صنوف التعذيب، الذي طال أمده، قائلين: “أهكذا الدهر يا رسول الله، ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا” فبم أجابهم؟ إنه ذكَّرهم بما لاقاه سابقوهم على درب الحق، من عذاب أقسى وأنكى، ثم بشرهم بعدها بانتصار الحق الذي هم عليه، فقال “.. والله ليتمن الله هذا الأمر. حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون”
ثقة رسول الله صلى الله عليه وسلم بربه
_عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: (بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عِنْدَ الْبَيْتِ وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌ لَهُ جُلُوسٌ وَقَدْ نُحِرَتْ جَزُورٌ بِالْأَمْسِ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَيُّكُمْ يَقُومُ إِلَى سَلَا جَزُورِ بَنِي فُلَانٍ فَيَأْخُذُهُ فَيَضَعُهُ فِي كَتِفَيْ مُحَمَّدٍ إِذَا سَجَدَ فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْمِ فَأَخَذَهُ فَلَمَّا سَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ فَاسْتَضْحَكُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَمِيلُ عَلَى بَعْضٍ وَأَنَا قَائِمٌ أَنْظُرُ لَوْ كَانَتْ لِي مَنَعَةٌ طَرَحْتُهُ عَنْ ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاجِدٌ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ حَتَّى انْطَلَقَ إِنْسَانٌ فَأَخْبَرَ فَاطِمَةَ فَجَاءَتْ وَهِيَ جُوَيْرِيَةٌ فَطَرَحَتْهُ عَنْهُ ثُمَّ أَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ تَشْتِمُهُمْ فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاتَهُ رَفَعَ صَوْتَهُ ثُمَّ دَعَا عَلَيْهِمْ وَكَانَ إِذَا دَعَا دَعَا ثَلَاثًا وَإِذَا سَأَلَ سَأَلَ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ: [ اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ] ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَلَمَّا سَمِعُوا صَوْتَهُ ذَهَبَ عَنْهُمْ الضِّحْكُ وَخَافُوا دَعْوَتَهُ ثُمَّ قَالَ: (اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ)وَذَكَرَ السَّابِعَ وَلَمْ أَحْفَظْهُ فَوَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ لَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ سَمَّى صَرْعَى يَوْمَ بَدْرٍ ثُمَّ سُحِبُوا إِلَى الْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ )رواه البخاري ومسلم والنسائي
_ فهي عند ذهاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الطائف لعله يجد من يسمع لدعوته بعد أن آذاه أهل مكة، فلم يجد في أهل الطائف ما كان يأمل، بل ردوه ، وأغلظوا له الجواب ومكث عشرة أيام يتردد على منازلهم دون جدوى. ورغم ذلك فقد كانت ثقته بالله أكبر من هذا، وبقي يدعوهم إلى أن طردوه من الطائف، ووقفوا له صفين يرمونه بالحجارة، وزيد بن حارثة يحاول أن يرد عنه الحجارة، حتى شجوا رأسه وأدموا أقدامه إلى أن ألجؤوه إلى بستان لعتبة وشيبة ابني ربيعة،فجاءه ملك الجبال وقال له: (أَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ فَمَا شِئْتَ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الْأَخْشَبَيْنِ) فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا)رواه البخاري ومسلم . فبعد كل هذه المتاعب، والإيذاء الذي أصابه من أهل مكة وأهل ثقيف يدعو الله عز وجل أن يخرج من أصلابهم من يوحّد الله، فهل بعد هذه الثقة ثقة؟! وهو ثابت على الحق ثابت على دعوته لا يلين ولا ييأس؛ لأنه يثق ثقة كاملة بأن نصر الله آت، وأن إظهار الله لهذا الدين لابد منه ولو بعد حين، فأيد الله رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام، وأظهر هذا الدين الإسلامي الحنيف.
واستمر صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم في دعوته، واستمر المشركون في السخرية والتضييق والإيذاء، حتى استقرَّ بهم الرأي على ضرورة قتله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ووضعوا لذلك خُطَّةً مُحكَمةُ، لكن الله عز وجل كان من ورائهم محيطًا ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)﴾ (الأنفال).
عند ذلك كان التوجيه الإلهي للرسول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم بضرورة مغادرة مكة؛ فقد أصبح الوجود فيها خطرًا على حياته صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وعلى الدعوة.
ولكن ألا توافقني أخي القارئ أن أمر الهجرة وتَرْك البلد الحرام وتَرْك المكان الذي تربَّى فيه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وعاش بين ربوعه عشرات السنين وكل ما يحمل من ذكريات.. ألا توافقني أنه أمر شاقٌّ على النفس؟!
بلا شك إنه كذلك، لكنه الرسول القدوة الذي يضحِّي بكل ما يملك ويحب من أجل نَيْل رضا ربه وتبليغ دعوته.
لقد ترك صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم كل شيء وخرج متخفِّيًا مع صاحبه.. خرج متخفيًا وهو خير من وطأت قدماه الثرى.
واختبأ في غار ثور ثلاثة أيام، حتى إذا اطمأنَّ إلى خلوِّ المكان من المشركين خرج من الغار، وقبل أن يولِّيَ وجَهه شطر الطريق إلى المدينة سمح لعينيه بأن تُلقيَ على مكة نظرةَ الوداع، واهتاجت مشاعره صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم؛ فهو لا يدري هل سيراها مرةً أخرى أم لا، فينزل القرآن بوعدٍ قاطعٍ من الله عز وجل لحبيبه بأنه سيعود مرةً أخرى مرفوع الرأس مُمَكَّنًا في هذا البلد الحرام ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾ (القصص: من الآية 85).
تصوَّر مشاعره معي وهو يتلقَّى هذا الوعد في نفسه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وها هو حبيبنا وقدوتنا رسول الله-صلى الله عليه وسلم- مع صاحبه في الغار، وقد أطبقت عليهما جحافل الحنق المحموم، وهما أعزلان، ولا مهرب لهما ولا حيلة، وهنا يهمس الصديق-رضي الله عنه- متحسرًا مشفقًا (يارسول الله لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا). فتنبعث نبرات الثقة من القلب الموقن بمعية الله، (يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن إن الله معنا) وعندئذ تتجلى قدرة ذي العزة والجبروت فيرد قوى الشر والبغي هذه بأوهى الأسباب، بخيوط العنكبوب، ويسجل القرآن هذا الموقف بقوله تعالى: ﴿إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (التوبة:40)
و لمّا ذهب هو وصاحبه أبو بكر الصديق في طريق الهجرة وأدركهما سُراقة بن مالك على فرس، كانت أقدام فرسه تسيخ تأييداً من الله لنبيه وكفاً للأذى عنه.. ولما عجز سراقة عن اقتحام أسوار القدرة الإلهية، غلبت الفطرة على الوثنية؛ فما كان منه إلا أن أظهر نداء الفطرة.. نداء الحق… إنه دين الإسلام، ثم وعده الرسول- صلى الله عليه وسلم- في قوله: ((كيف بك إذا لبست سواري كسرى)) لم يقلها بعد انتصار بدر، أو بعد فتح مكة، إنما قالها وهو مُطارد !! وسُراقة وراءه في الظرف الحرج، والكفار يتربصون به ! قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ….}(الأنفال : 30) يطلبون دم محمد- صلى الله عليه و سلم- وقد وضعوا الجائزة العظيمة لمن يأتي به حياً أو ميتاً، ثم يقول: ((كيف بك إذا لبست سواري كسرى)) إنه أمر غريب وبعيد عن الذهن البشري العادي!! إنه شيء بعيد للغاية لا يُمكن أن يفكر فيه ضعيف الإيمان أبداً في تلك اللحظة.
وما أعظم ثقته – صلى الله عليه وسلم- بخضوع الآفاق لمنهجه الحق في موقفه مع سراقة بن مالك الذي خرج مطاردًا له، وقد أوشك أن يدركه، لولا أن ساخت أقدام فرسه في الرمال مرة بعد مرة، وهنا ينادي سراقة طالبًا الأمان من رسول الله-صلى الله عليه وسلم- فيعطيه ما طلب، ويزيده وعدًا بالفوز بسواري كسرى، عندما تفتح إيوانَه كتائبُ التوحيد في أمد ليس ببعيد.
و لمّا ذهب هو وصاحبه أبو بكر الصديق في طريق الهجرة وأدركهما سُراقة بن مالك على فرس، كانت أقدام فرسه تسيخ تأييداً من الله لنبيه وكفاً للأذى عنه.. ولما عجز سراقة عن اقتحام أسوار القدرة الإلهية، غلبت الفطرة على الوثنية؛ فما كان منه إلا أن أظهر نداء الفطرة.. نداء الحق… إنه دين الإسلام، ثم وعده الرسول- صلى الله عليه وسلم- في قوله: ((كيف بك إذا لبست سواري كسرى)) لم يقلها بعد انتصار بدر، أو بعد فتح مكة، إنما قالها وهو مُطارد !! وسُراقة وراءه في الظرف الحرج، والكفار يتربصون به ! قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ….}(الأنفال : 30) يطلبون دم محمد- صلى الله عليه و سلم- وقد وضعوا الجائزة العظيمة لمن يأتي به حياً أو ميتاً، ثم يقول: ((كيف بك إذا لبست سواري كسرى)) إنه أمر غريب وبعيد عن الذهن البشري العادي!! إنه شيء بعيد للغاية لا يُمكن أن يفكر فيه ضعيف الإيمان أبداً في تلك اللحظة.
وما أعظم ثقته – صلى الله عليه وسلم- بخضوع الآفاق لمنهجه الحق في موقفه مع سراقة بن مالك الذي خرج مطاردًا له، وقد أوشك أن يدركه، لولا أن ساخت أقدام فرسه في الرمال مرة بعد مرة، وهنا ينادي سراقة طالبًا الأمان من رسول الله-صلى الله عليه وسلم- فيعطيه ما طلب، ويزيده وعدًا بالفوز بسواري كسرى، عندما تفتح إيوانَه كتائبُ التوحيد في أمد ليس ببعيد.
الموقف الثانى
ونلحظ هذه الثقة كذلك في موقف آخر حين كان رسول الله-صلى الله عليه وسلم- مستلقيًا في ظل شجرة، في سلام وسكينة، وإذا بعدو يظهر فجأة ممتشقًا سيفه وملوحًا به يريد قتله-صلى الله عليه وسلم- ثم سأل قبل أن يهوي به عليه: (من يمنعك مني؟) فإذا-صلى الله عليه وسلم- يرد بكل اليقين والطمأنينة: (الله). هو باقٍ على حاله.. لم يتحرك قيد شعره، ولم يرتبك لحظة، فإذا بالعدو يرتعد، ويسقط السيف من يده، فيأخذه رسول الله-صلى الله عليه وسلم- ويعلو به رأس هذا الغادر ويسأله (فمن يمنعك مني الآن؟) فلم يجد إلا التعلق بحلمه وعفوه-صلى الله عليه وسلم- ويرد (عفوك يارسول الله!)، فكفَّ عنه-صلى الله عليه وسلم-، ويا للعجب من خُلُقه وحِلْمه-صلى الله عليه وسلم.
الموقف الثالث.. فى صلح الحديبية
وبهذا الصلح دخلت قبيلة خزاعة في عهد المسلمين ودخلت قبيلة بني بكر في عهد المشركين، وقبل أن يوقع الرسول – صلى الله عليه وسلم – على كتاب الصلح إذا بأبي جندل بن سهيل بن عمرو يأتي مسلمًا، فلما رآه أبوه سهيل؛ قام إليه فضرب وجهه، وأخذ بثيابه، ثم قال: يا محمد، قد لجت القضية (أي حسمت) بيني وبينك قبل أن يأتي هذا. قال: صدقت.
فأخذ سهيل يجر ابنه ليرده إلى قريش، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أأرد إلى المشركين يفتنونني في ديني؟ فقال – صلى الله عليه وسلم – : (يا أبا جندل، اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحًا وأعطيناهم على ذلك، وأعطونا عهد الله، وإنا لا نغدر بهم) _[ابن إسحاق] وغضب المسلمون من هذا الصلح، فقد بَدَت الشروط في أعينهم ظالمة، فقال لهم الرسول – صلى الله عليه وسلم – : (أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره، ولن يُضَيِّعني) [البخاري].
الموقف الرابع .. فى يوم الخندق
، فحين أغارت قريش على المسلمين في المدينة في غزوة الأحزاب فحاصروا المسلمين واشتد الكرب حتى غمز المنافقون المسلمين ، وطعنوا في وعد رسول الله بالتمكين فقالوا:كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا لا يأمن أن يقضي حاجته ، لكن المؤمنين كان لهم موقف آخر سطره القرآن وأشاد به ، فقال الله عز وجل: (وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً) (الأحزاب:22) .
وكان النبي في هذا الوقت العصيب يبشرهم بأمر عظيم! قال البراء: لما كان يوم الخندق عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ منها المعاول، فاشتكينا ذلك لرسول ، فجاء وأخذ المعول فقال: { بسم الله، ثم ضرب ضربة، وقال: الله كبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأنظر إلى قصورها الحمر الساعة، ثم ضرب الثانية فقطع آخر، فقال: الله كبر، أعطيت فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الآن، ثم ضرب الثالثة فقال: بسم الله فقطع بقية الحجر، فقال: الله أكبر أعطيت مفاتح اليمن، والله إني لأبصر صنعاء من مكاني }.
والنبي يبشر ويرفع من عزائم الصحابة وكان أحدهم من شدة الجوع يرفع عن بطنه الحجر فرفع رسول الله عن بطنه الشريف حجرين!
الموقف الخامس
ومع مشهد أخر من مشاهد الثقة فى القرأن يتجسد فى المناظرة الضخمة بين الحق المتمثل فى كليم الله موسى عليه السلام والباطل متمثلا فى فرعون وحاشيته مناظرة علنية حشد لها الطاغية كل امكاناته وطاقاته وبدأ المشهد الرهيب بتهكم وسخرية واستعلاء(فمن ربكما ياموسى) قال موسى(ربنا الذى أعطى كل شىء خلقه ثم هدى)
فجاء الرد المجحف من قلب جاحد لم يذق حلاوة الايمان (أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك ياموسى) لم يجد الطاغية امامه الا الكذب ولى الحقائق والصاق التهم ليحول بين الناس والحق (فلناتينك بسحر مثله أجعل لنا موعدا لا نخلفه نحن ولاأنت مكانا سوى) أمر فرعون زبانيته أن يجمعوا له سحرة المدائن وعندما التقى الجمعان ألقى السحرة عصيهم فاذا هى ثعابين تسعى كان المشهد مؤثرا ياخذ الألباب هنا القى موسى عصاه فاذا هى حية تأكل ما يأفكون تأكل كذبهم و أوهامهم هنا جن جنون الطاغية فدبر له الشيطان قتل موسى وصحبه حتى لايلتف من حوله الناس وبدأت المطاردة المثيرة لننتقل بالمشهد الى ساحل البحر موسى وصحبه ومن خلفهم فرعون وجنده ( انا لمدركون) هتف بها أحد اتباع موسى فالكرب شديد والموقف جلل والبحر من امامهم والجند من خلفهم لايملكون سفنا ولا سلاح (كلا ان معى ربى سيهدين) قالها موسى دون أن يعلم متى وكيف ستتحقق النجاة ولكنها الثقة المطلقة فى ان الله سيرعاه ويحميه ثقة تولدت عن ايمان عميق بقدرة الله عز وجل وحكمته فى تصريف الأمور ولم تكن هذه الثقة وليدة المحنة ولكنها ثمرة صلة روحية وثيقة جمعت موسى بخالقه (فأوحينا اليه أن أضرب بعصاك البحر فانفلق كل فرق كالطود العظيم) هكذا فى لمحة خاطفة سطعت شمس الحق لتبدد غيم الباطل فبهت الطاغية وأخذته المفاجأة فأصدر الأمر لجنوده باقتحام البحر فكانت النهاية (فأنجينا موسى ومن معه ثم اغرقنا الأخرين)
الموقف السادس
قصة إبراهيم عليه السلام
:قال عزوجل(قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا ءَالِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ )[68] (قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ[69]) سورة الأنبياء وسبب غضب المشركين هو محاجة إبراهيم لهم، وترى عند قراءة الآيات الذاكرة للحجج التي أقامها عليهم مدى قوة النبي وثقته حين يجادلهم؛ يسفه أصنامهم، وكذلك يكسرها حتى لا يبقي إلا على كبيرها، وفوق ذلك يتهكم عليهم، فكل هذا يدل على الثقة الكبيرة القوية بالله؛ ( يا إبراهيم ألك إلى حاجة .. قال أما منك فلا و أما من الله فعلمه بحالى يغنى عن سؤالى ) فنصره الله، وحوّل النار الحارقة إلى باردة.
الموقف السابع
وأرسل سعد إلى المغيرة بن شعبة وبسر بن أبلي رهم وعرفجة بن هرثمة وحذيفة بن محصن وربعي بن عامر وقرفة بن زاهر التيمي ثم الوائلى ومذعور بن عدي العجلي، والمضارب بن يزيد العجلي ومعبد بن مرة العجلي – وكان من دهاة العرب – فقال: إني مرسلكم إلى هؤلاء القوم ؛ فما عندكم؟ قالوا جميعاً: نتبع ما تأمرنا به، وننتهي غليه ؛ فإذا جاء أمر لم يكن منك فيه شئ نظرنا أمثل ما ينبغي وأنفعه للناس؛ فكلمناهم به. فقال سعد: هذا فعل الحزمة، اذهبوا فتهيئوا، فقال ربعي بن عامر: إن الأعاجم لهم آراء وآداب، ومتى نأتهم جميعاً يروا أنا قد احتفلنا بهم؟ فلا تزدهم على رجل ؛ فمألئوه جميعاً على ذلك، فقال: فسرحوني، فسرحه، فخرج ربعي ليدخل على رستم عسكره، فاحتسبه الذين على القنطرة، وأرسل إلى رستم لمجيئه، فاستشار عظماء أهل فارس ، فقال: ما ترون أنباهي أم نتهاون فأجمع ملؤهم على التهاون، فأظهروا الزبرج، وبسطوا البسط والنمارق، ولم يتركوا شيئاً، ووضع لرستم سرير الذهب، وألبس زينته من النماط والوسائد المنسوجة بالذهب. وأقبل ربعي يسير على فرس له رباء قصيرة، معه سيف له، غمدة لفلفه ثوب خلق، ورمحه مغلوب بقدمعه حجفة من جلود البقر ؛ على وجهها أديم أحمر مثل الرغيف، ومعه قوسه ونبله. فلما غشى الملك، وانتهى إليه وإلى أدنى البسط، قيل له: انزل، فحملها على البساط، فلما استوت عليه، نزل عنها وربطها بوسادتين فشقهما، ثم أدخل الحبل فيهما، فلم يستطيعوا أن ينهوه ؛ وإنما أرواه التهاون وعرف ما أرادوا، فأراد استحراجهم ، وعليه درع له كأنها أضاة ويلمقه عباءة بعيره، قد جابها وتدرعها، وشدها على وسطه بسلب وقد شد رأسه بمعجرته؛ وكان أكثر العرب شعرة، ومعجرته نسعة بعيره ؛ ولرأسه أربع ضفائر؛ قد قمن قياماً، كأنهن قرون الوعلة. فقالوا: ضع سلاحك، فقال: إني لم آتكم فأضع سلاحي بأمركم، أنتم دعوتموني، فإن أبيتم أن آتيكم كما أريد رجعت. فأخبروا رستم ؛ فقال: ائذنوا له؛ هل هو إلا رجل واحد؟ فأقبل يتوكأ على رمحه، وزجه نصل يقارب الخطو، ويزج النمارق والبسط ؛ فما ترك لهم نمرقه ولا بساطاً إلا أفسده وتركه منهتكاً مخرقاً ؛ فملما دنا من رستم تعلق به الحرس، وجلس على الأرض، وركز رمحه بالبسط، فقالوا: ما حملك على هذا؟ قال: إنا لا نستحب القعود على زينتكم هذه فكلمه، فقال: ما جاء بكم؟ قال: الله ابتعثنا، والله جاء بنا لنخرج من شاء من عباده العبادة إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل منا ذلك قبلنا ذلك منه حتى نفضي إلى موعود الله قال: وما موعود الله: قال الجنة لمن مات على قتال من أبي لمن بقي فقال رستم: قد سمعت مقالتكمورجعنا عنه، وتركناه وأرضه يليها دوننا، ومن أبي قاتلناه أبداً ؛ فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا! قال: نعم، كم أحب إليكم؟ أيوماً أو يومين؟ قال: لا بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا. وأراد مقاربته ومدافعته، فقال: إن مما سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل به أئتمتنا، ألا نمكن الأعداء من آذاننا، ولا نؤجلهم عند اللقاء أكثر من ثلاث، فنحن مترددون عنكم ثلاثاً، فانظر في أمرك وأمرهم، واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل، اختر الإسلام وندعك وأرضك، أو الجزاء، فنقبل ونكف عنك ؛ وإن كنت عن نصرنا غنياً تركناك منه، وإن كنت إليه محتاجاً منعناك ؛ أو المنابذة في اليوم الرابع ؛ ولسنا نبدؤك فيما بيننا وبين اليوم الرابع إلا أن تبدأنا ؛ أنا كفيل لك بذلك على أصحابي وعلى جميع من ترى. قال: أسيدهم أنت؟ قال: لا ؛ ولكن المسلمين كالجسد بعضهم من بعض ؛ يجير أدناهم على أعلاهم. فخلص رستم برؤساء أهل فارس، ما تورن؟ هل رأيتم كلاماً قط أوضح ولا أعز من كلام هذا الرجل؟ قالوا: معاذ الله لك أن تميل إلى شئ من هذا وتدع دينك لهذا الكلب! أما ترى إلى ثيابه! فقال: ويحكم لا تنظرو إلى الثبات ؛ ولكن انظروا ؛ ولكن انظروا إلى الرأى والكلام والسيرة ؛ إن العرب تستخف باللباس والمأكل ويصونون الأحساب، ليسوا مثلكم في اللباس، ولا يرون فيه ما ترون. وأقبلوا إليه يتناولون سلاحه، ويزهدونه فيه، فقال لهم: هل لكم إلى أن لما جاء المغيرة إلى القنطرة فعبرها إلى أهل فارس حبسوه واستأذنوا رستم في إجازته، ولم يغيروا شيئاً من شارتهم، تقوية لتهاونهم ؛ فأقبل المغيرة بن شعبة، والقوم في زيهم، عليهم التيجان والثياب المنسوجة بالذهب، وبسطهم على غلوة لا يصل إلى صاحبهم ؛ حتى يمشي عليهم غلوة ؛ وأقبل المغيرة وله أربع ضفائر يمشي ؛ حتى جلس معه على سريره وووسادته ؛ فوثبوا عليه فترتروه وأنزلوا ومغثوه . فقال: كانت تبلغنا عنكم الأحلام ؛ ولا أرى قوماً أسفه منكم! إنا معشر العرب سواء ؛ ولا يستعبد بعضنا بعضاً إلا أن يكون محارباً لصاحبه ؛ فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى ؛ وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض، وأن هذا الأمر فيكم فلا نصفه، نصنعه، ولم آتكم، ولكن دعوتموين اليوم، علمت أن أمركم لا يستقم فيكم مضمحل، وأنكم مغلوبون ؛ وأن ملكاً لا يقول على هذه السيرة، ولا على هذه العقول.
فقال السفلة: صدق والله العربي، وقالت الدهاقين: والله لقد رمى بكلام لا يزال عبيدنا ينزعون إليه ؛ قاتل الله أولينا، ما كان أحمقهم حين كانوا يصغرون أمر هذه الأمة ! فمازحه رستم ليمحو ما صنع، وقال له: يا عربي ؛ إن الحاشية قد تصنع ما لا يوافق الملك، فيتراخى عنها مخافة أن يكسرها عما ينبغي من ذلك ؛ فالأمر على ماتحب من الوفاء وقبول الحق ؛ ما هذه المغازل التي معك؟ قال: ما ضر الجمرة ألا تكون طويلة ! ثم راماهم. وقال: ما بال سيفك رثاً! قال: رث الكسوة ، حديد المضربة . ثم عاطاه سيفه، ثم قال له رستم: تكلم أم أتكلم؟ فقال المغيرة: أنت الذي بعثت إلينا، فتكلم. فأقام الترجمان بينهما، وتكلم رستم، فحمد قومه، وعظم أمرهم وطوله. وقال: لم نزل متمكنين في البلاد، ظاهرين على الأعداء، أشرافاً في الأمم ؛ فليس لأحد من الملوك مثل عزنا وشرفنا وسلطاننا، ننصر على الناس ولا ينصرون علينا إلا اليوم واليومين، أو الشهر والشهرين ؛ للذنوب ؛ فإذا انتقم الله فرضى رد إلينا عزنا، وجمعنا لعدونا شر يوم هو آت عليهم. ثم إنه لم يكن في الناس أمة أصغر عندنا أمراً منكم ؛ كنتم أهل قشف ومعيشة سيئة، لا نراكم شيئاً ولا نعدكم، وكنتم إذا قطحت أرضكم، وأصابتكم السنة استغثتم بناحية أرضنا فنأمر لكم بالشئ من التمر والشعير ثم نردكم، وقد علمت أنه لم يحملكم على ما صنتعتم إلا ما أصابكم من الجهد في بلاد، فأنا آمر لأميركم بكسوة وبغل وألف درهم، وآمر لكل رجل منكم بوقر تمر وبثوبين، وتنصرفون عنا، فإني لست أشتهى أن أقتلكم ولا آسركم.
فتكلم المغيرة بن شعبة، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: إن الله خالق كل شئ ورازقه ؛ فمن صنع شيئاً فإنما هو الذي يصنعه هو له . وأما الذي ذكرت به نفسك وأهل بلادك ؛ من الظهور على الأعداء والتمكن في البلاد وعظم السلطان في الدنيا ؛ فنحن نعرفه، ولسنا ننكره ؛ فالله صنعه بكم ؛ ووضعه فيكم وهو له دونكم ؛ وأما الذي ذكرت فينا من سوء الحال، وضيق المعيشة واختلاف القلوب ؛ فنحن نعرفه ؛ ولسنا ننكره ؛ والله ابتلانا بذلك، وصيرنا إليه، والدنيا دول ؛ ولم يزل أهل شدائدها يتوقعون الرخاء حتى يصيروا إليها ؛ ولو يزل أهل رخاتها يتوقعون الشدائد حتى تنزل بهم ويصيروا إليها ولوكنتم فيما آتاكم الله ذوى شكر، كان شكركم يقصر عما أوتيتم، وأسلمكم ضعف الشكر إلى تغير الحال ؛ ولو كنا فيما ابتلينا به أهل كفر ؛ كان عظيم ما تتابع علينا مستجلبا من الله رحمة يرفه بها عنا، ولكن الشأن غير ما تذهبون إليه ؛ أو كنتم تعرفوننا به ؛ إن الله تبارك وتعالى بعث فينا رسولاً….ثم ذكر مثل الكلام الأول ؛ حتى انتهى إلى قوله: وإن احتجت إلينا أن نمنعك فكن لنا عبد تؤدى الجزية عن يد وأنت صاغر، وإلا فالسيف إن أبيت! فنخر نخرة، واستشاط غضباً، ثم حلف بالشمس لا يرتفع لكم الصبح غداً حتى أقتلكم أجمعين.
فانصرف المغيرة ؛ وخلص رستم تألفا بأهل فارس، وقال: أين هؤلاء منكم؟ ما بعد هذا! ألم يأتكم الأولان فحسراكم واستحرجاكم، ثم جاءكم هذا، فلم يختلوفا، وسلكوا طريقاً واحجداً، ولزموا أمراً واحداً ؛ هؤلاء والله الرجال ؛ صادقين كانوا أم كاذبين! والله لئن كان بلغ من إربهم وصونهم لسرهم ألا يختلفوا، فما قوم أبلغ فيما أرادوا منهم ؛ لئن كانوا صادقين ما يقول لهؤلاء شئ! فلجوا وتجلدوا وقال: والله إني لأعلم أنكم تصغون إلى ما أقول لكم ؛ وإن هذا منكم رئاء ؛ فازدادوا لجاجة.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن النضر، عن ابن الرفيل، عن أبيه، قال: فأرسل مع المغيرة رجلاً. وقال له: إذا قطع القنطرة، ووصل إلى أصحابه، فناد: إن الملك كان منجماً قد حسب لك ونظر في أمرك، فقال: إنك غداً تفقأ عينك . ففعل الرسول، فقال المغيرة: بشرتني بخير وأجر ؛ ولولا أن أجاهد بعد اليوم أشباهكم من المشركين، لتمنيت أن الأخرى ذهبت أيضاً. فرآهم يضحكون من مقالته، ويتعجبون من بصيرته ؛ فرجع إلى الملك بذلك، فقال: أطيعوني يا أهل فارس ؛ وإني لأرى لله فيكم نقمة لا تستطيعون ردها عن أنفسكم. وكانت خيولهم تلقى على القنطرة لا تلقى إلا عليها، فلا يزالون يبدءون المسلمين، والمسلمون كافون عنهم الثلاثة الأيام؛ لا يبدءونهم ؛ فإذا كان ذلك منهم صدوهم ورد عوهم.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كان ترجمان رستم عن أهل الحيرة يدعى عبود.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد، عن الشعبي وسعيد بن المرزبان، قالا: دعا رستم بالمغيرة، فجاء ححتى جلس على سريره، ودعا رستم ترجمانه – وكان عربياً من أهل الحيرة، يدعى عبود – فقال له المغيرة: ويحك يا عبود! أنت رجل عربي ؛ فأبلغه عنى إذا أنا تكلمت كما تبلغي عنه. فقال له رستم مثل مقالته، وقال له المغيرة مثل ومقالته، إلى إحدى ثلاث خلال: إلى الإسلام ولكم فيه مالنا وعليكم فيه ما علينا ؛ ليس فيه تفاضل بيننا، أو الجزية عن يد وأنتم صاغرون. قال: ما صاغرون؟ قال: أن يقوم الرجل منكم على رأس أحدنا بالجزية يحمده أن يقبلها منه … إلى آخر الحديث؛ والإسلام أحب إلينا منهما.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن عبيدة، عن شقيق، قال: شهدت القادسية غلاماً بعدما احتملت ؛ فقدم سعد القادسية في اثنى عشر ألفاً ؛ وبها أهل الأيام، فقدمت علينا مقدمات رستم، ثم زحف إلينا في ستين ألفاً، فملا أشرف رستم على العسكرقال: يا معشر العرب، ابعثوا إلينا رجلاً يكلمنا ونكلمه ؛ فبعث إليه المغيرة بن شعبة ونفراً، فلما أتوا رستم جلس المغيرة على السرير، فنخر أخو رستم، فقال المغيرة: لا تنخر ؛ فما زادني هذا شرفاً ولا نقص أخاك. فقال رستم: يا مغيرة، كنتم أهل شقاء، حتى بلغ ؛ وإن كان لكم أمر سوى ذلك، فأخبرونا. ثم أخذ رستم سهماً من كنانته، وقال: لا تروا أن هذه المغازل تغنى عنكم شيئاً ؛ فقال المغيرة مجيباً له، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم قال : فكان مما رزقنا الله على يديه حبة تنبت في أرضكم هذه ؛ فلما أذقناها عيالنا، قالوا: لا صبر لما عنها، فجئنا لنطعمهم أو نموت. فقال رستم: إذاً تموتون أو تقتلون، فقال المغيرة: إذاً يدخل من قتل منا الجنة، ويدخل من قتلنا منكم النار، ويظفر من بقى منا بمن بقى منكم ؛ فنحن نخيرك بين ثلاث خلال …إلى آخر الحديث فقال رستم: لا صلح بيننا وبينكم.
الموقف الثامن
فها هو موسى-عليه السلام- ومن معه، قد خرجوا فرارًا بدينهم، فاستشاط فرعون غيظًا، وخرج يلاحقهم بقواته…. وحلَّت لحظات الحرج والضيق… فقد لاح خطر العدو المطارد من الخلف، وخطر لجج البحر المغرقة من الأمام، وهنا يصرخ أتباع موسى مذعورين مستسلمين ﴿إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ (الشعراء: من الآية61) فيأتي رد موسى، الموقن الواثق؛ ليبدد المخاوف والظنون؛ وليسكب السكينة والطمأنينة: ﴿قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ (الشعراء:62).
وهنا تظهر بركة هذه الثقة معجزة مبهرة تنجيهم، وتهلك عدوهم ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ*وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ*وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ*ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ*إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ*وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ (الشعراء:63-68) .
الموقف التاسع
أثناء التوجه لفتح الصين توغَّل قتيبة بن مسلم في أماكن مجهولة بجرأةٍ عجيبةٍ، فقالوا له كيف يتوغل في هذه الأماكن؟ فقال: بثقتي في الله، فقالوا له: أما تخشى الموت؟، فقال إذا انتهت المدة لم تنفع العُدة، فقالوا له: “هذا عزم لا يفله إلا الموت”.
الموقف العاشر
وهذا ابن تيمية- رحمه الله- وأثناء خروجه في الجيش الإسلامي مجاهدًا مذكرًا بالله، فقال: أقسم بالله أنتم المنصورون، فقالوا: قل إن شاء الله. فقال: إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا.
وقد كان ابن القيم رحمه الله تعالى يقول : سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين،ثم تلا قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة:24)
الموقف الحادى عشر
غدًا نلتقي في دار الخلافة:
لقد رفع اليهود شعار: “غدًا نلتقي في القدس” بعد أن قرروا إقامة دولتهم في فلسطين، وذلك في مؤتمر “بال” في سويسرا عام 1897 ميلادية، وكان الواحد منهم حينما يلتقي يهودي مثله في أي مكان في العالم يقول له: “غدًا نلتقي في القدس”، ووضعوا هذا الهدف أمامهم.
يلقنونه أبناءهم، ويختمون به اجتماعاتهم، وذلك لمدة خمسين عامًا أو يزيد حتى تحقق لهم ما أرادوا، وهم من هم… هم المغضوب عليهم، المحرومون من توفيق الله ومعيته.
فلماذا لا نفعل ذلك، ونحن الأمة التي وعدها الله بالتأييد والتوفيق إن سلكنا طريقه، وجاهدنا في سبيل إعلاء كلمته؟!
فلنرفع جميعًا هذا الشعار: “غدًا نلتقي في دار الخلافة” ولنرب أبناءنا على ضرورة بلوغ هذا الأمل، ولنذكر به في كل مناسبة، وحين اللقاء وحين الوداع.
فإن تحقق ذلك الأمل في حياتنا فتلك عاجل بشرى المؤمن، وإن لم يتحقق فيكفي أننا مهدنا الطريق له، واختصرنا المسافة على من بعدنا، وليس هذا فحسب بل كيفينا كذلك وعده سبحانه وتعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: “من سأل الله القتل في سبيل الله، صادقًا من قلبه، أعطاه الله أجر شهيد، وإن مات على فراشه” (11) صحيح الجامع (6277).