أوجب الله على المسلمين تدبُّر القرآن الكريم، وإمعان النظر في آياته، وإطالة الوقفة أمامها، والتزود بالعلوم الضرورية من أجل دقة النظر، و صوابية الفهم، وصحة النتائج والدلالات التي يخرج بها من القرآن.
قال تعالى: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 82].
وقال تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد: 24].
وبيَّن لنا أنه أنزل الكتاب لنتدبر آياته، ونخرج من هذا بالفهم والعلم والذكر، وأن هذا التدبُّر وسيلة تكوين اللب الحي، والعلم النافع، والعقلية العلمية المنهجية، وأنه هو الذي يُنشِّط العقل ويُمرِّنه، ويُريِّضه الرياضة العلمية النافعة فقال: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾ [ص: 29].
وتدبُّر القرآن لا ينتهي، فلو توافرت عليه كل العقول – المختلفة في ثقافاتها واهتماماتها – حتى قيام الساعة ما استَنفدَت علومَه ومعانيه ودلالاته ولفتاته وإشاراته ولطائفه. وهذه الآية توحي بذلك، فالقرآن كتابٌ مبارك، والبركة هي النماء والزيادة، وبركة القرآن شاملة لكل الجوانب والمجالات، فهو مباركٌ في مصدره، وفي حامله، وفي من نزل عليه، ومباركٌ في مهمته ورسالته ووظيفته، ومباركٌ في حجمه، وفي معانيه ودلالاته، وفي علومه ومعارفه. مباركٌ بركةً دائمةً شاملةً حتى قيام الساعة.
ولا ينشّط العقل إلا تدبُّر القرآن، ولا يحافظ على حضوره وحيويته ونباهته إلا تدبُّر القرآن، ولا يقوّي التفكير إلا تدبُّر القرآن، لأن التدبُّر – كما يقول الإمام الراغب في المفردات (هو التفكير ف دُبُرِ الأمور)، أي عواقبها.
* تيسير القرآن للفهم
أخبرنا الله بأن كتابه الكريم – الذي أوجب علينا تدبره – ليس ألغازاً ولا طلاسم، وأن تدبره ليس عملية مستحيلة، بل هو على العكس من ذلك، أنه ميسرٌ للذكر والفهم والتدبر، ميسرٌ للحفظ والمراجعة، ميسرٌ للتلاوة والنظر، ميسرٌ للعمل والتطبيق..
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾ [القمر: 17].
مما تجدر الإشارة إليه أن هذه الآية ذُكرت في سورة القمر أربع مرات، وجاءت في التعقيب على بعض قصص السابقين الواردة في السورة، وهي قصص قوم نوحٍ وهودٍ وصالحٍ ولوطٍ عليهم السلام.
وتتسائل الآيات الأربعة عن الذين يُقبلون على هذا القرآن الميسر للذكر والفهم: فأين هم المتذكرون؟ أين المستفيدون من هذا التيسير؟ ولماذا لا يتعامل المسلمون والناس الآخرون معه، ولا يخرجون منه بنتائج نافعة ومفاهيم هادية؟.
والعجيب أن كلمة «مُدَّكر» – التي هي مأخوذة من كلمة «متذكر» اسم فاعل من تذكر – لم تذكر إلا في سورة القمر.
فسورة القمر نصت أربع مرات على أن الله قد يسر القرآن للذكر والفهم.
وسورة القمر أوردت كلمة «مدَّكر» ست مرات، وكلها وردت في سياق الاستفهام الإنكاري ﴿ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾ وكلها فيها إنكارٌ على الذين لا يتذكرون القرآن ولا آياته، الذين لا يستفيدون من هذا التيسير القرآني للذكر والفهم. وكأنها تريد أن تقول لهم: إن القرآن ميسرٌ للذكر والفهم والحفظ، وإنه إذا لم يستفيد الناس من هذه المزية القرآنية الفريدة فإنهم هم الخاسرون والمسؤولون عن هذا.
إنهم لم يتذكروا، ولو تذكروا لاستفادوا. إن التذكر هو وحده سبيل الاستفادة من تيسير القرآن لذلك، فأين المتذكرون؟ وهل من مدكر؟.