آل فرعون.. الأمس واليوم (٣)

بقلم د. محمود خليل
يقول المثل المصرى «لكل فرعون هامان»، سواء كان هذا الـ«هامان» وزيراً أو نائباً أو مستشاراً للفرعون، أو حتى مجرد لقب يخلع على شخص يلتصق بالفرعون، كما أشار بعض المفسرين. فالمهم أن يكون للفرعون أى فرعون- ذراع يمنى قادرة على تنفيذ سياساته والبطش بأعدائه. ومن عجائب القرآن الكريم التى لا تنفد أن اسم فرعون كان غالباً ما يذكر مقروناً باسم هامان. وكأنهما رأسان فى طاقية واحدة!، وربما يكون ذلك هو السر فى المثل الشعبى المصرى الذى توارثته الأجيال. فالفرعون لابد له من أداة «متفرعنة» تسير فى ركابه . هذه الأداة اسمها «هامان».

فأخص خصائص الوزير المتفرعن أنه يمثل أداة للحاكم ومطرقة يقرع بها رؤوس من يرفضون توجهاته وسياساته. وقد تعجب كثيرون من التصريحات التى رددها بعض وزراء المحروسة وقالوا فيها إنهم مجرد سكرتارية للرئيس. وحقيقة الأمر أنه لا محل للتعجب فى هذا الكلام، فهم بالفعل كذلك. والقرآن الكريم يحكى لنا أن فرعون لما استمع إلى حديث موسى عن الإله الواحد الأحد نادى هامان وطلب منه أن يبنى له صرحاً ليرى إله موسى، «وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيرى فأوقد لى يا هامان على الطين فاجعل لى صرحا لعلى أطلع إلى إله موسى وإنى لأظنه من الكاذبين». فهامان هو الأداة التى تحقق رغبات الفرعون وتنظر إلى أحلام سيادته كأوامر واجبة النفاذ فى الواقع.

ويظل الفرعون طيلة حياته واثقاً أشد الثقة فى تلك الفصيلة البشرية الهامانية ولا يأمن لغيرهم بحال من الأحوال ويصم أذنيه عن أى كلام غير «هامانى». وعندما خرج إليه- من آله- رجل مؤمن (يكتم إيمانه) يدعوه وقومه إلى الإيمان بالحق وتصديق رسالة السماء وألا يغتروا بما لهم من ملك وقوة يمكن أن تهلك وتبيد فى لحظة لم يستمع إليه لا الفرعون ولا أحد من قومه «يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين فى الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا، قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد». فالفرعون لا يسمع إلا صوت نفسه ولايقرب من الرجال إلا كل من هو «عنق» مثل قرينه هامان. ومن العجيب أن القرآن استخدم وصف «رجل» فى الحديث عن ذلك الشخص الذى تجرأ ونطق لسانه بالحق فى مجلس الفرعون الذى يحتشد بـ«الهامانات» من هواة «الطرح»!

ولأن القرآن الكريم أصدق الحديث فقد حرص على الإشارة إلى أن هذا الرجل كان يكتم إيمانه خوفاً من بطش الفرعون ليقدم لنا ذلك النموذج الخالد للمثقف الذى يتحرك من أجل الإصلاح بقدر كبير من التخفى والاستتار. وهو لا يرفض أن يكون جزءاً من تركيبة السلطة التى يحكمها الفرعون وينفذ مخططاتها من يلعب دور «هامان». ومهما كانت درجة إيمان هذا المثقف «الرجل» ومستوى صدقه فإنه لا يقوى على إقناع غلاظ العقول والقلوب بالحقيقة الساطعة مثل الشمس. ولا يكون أمامه فى النهاية سوى أن يفوض أمره إلى الله « فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمرى إلى الله إن الله بصير بالعباد فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب».

لقد رضى الرجل المؤمن «نموذج المثقف» بدور المراقب الذى يبصر الأخطاء فى قومه ويحاول أن يدلهم على الحقيقة، فى مقابل «هامان» الوزير أو الغفير أو الكاهن أو ممثل الشعب الذى يقبل بدور الأداة التنفيذية، ولا يرى فى الحياة حقيقة سوى رأى ورؤية من وضعه فى المنصب، لأن تلك هى الضمانة الوحيدة لتحقيق المكتسبات والمغانم. بل يمكن أن يسعى المثقف ذاته إلى الجلوس فى مقعد «هامان» ويبحث هو الآخر عن وظيفة «المستشار» إذا لم يفلح فى «الاستوزار»!. وقد كان القرآن حريصاً على استخدام وصف السادات والكبراء عند الحديث عن حاشية فرعون.

فهؤلاء جميعاً يقعون فى الفئة الهامانية المدافعة عن الفرعون الذى يطعمهم ويسقيهم من شهده، وإذا نازعه فرعون صغير فإنهم يبادرون إلى الدفاع عن «كبيرهم» بكل ما أوتوا من قوة، ويقفون صفاً واحداً فى مواجهة مجموعة «الهامانات» الجدد التى تلتف حول «الصغير». وكل هامان يدافع عن فرعونه ليس من أجل الصالح ولكن من أجل المصالح!

فإذا صح أن لكل فرعون هامان فيصح أيضاً أن يكون لكل فرعون كبير فرعون صغير يمكن أن ينازعه ملكه ويغدره فى لحظة ما. ومهما حاول الكبير التحصن وحماية نفسه بتحويل كل من حوله إلى «هامانات» تعمل بإرادته وتنفذ ما يريد فإن الخطر قد يدهمه من حيث لا يتوقع ولا يحتسب، «وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف فى قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم».

وقد حدث شىء قريب من ذلك لفرعون مصر، حيث كان السبب فى هلاكه وزوال ملكه أقرب الناس إليه وهو نبى الله موسى الذى رباه فى حجره وكان له بمثابة الأب «قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين». فكانت نهايته على يد من رباه، وتلك حكمة كبرى لابد أن يتوقف أمامها كل ذى عقل. فقد شاء الله تعالى أن يكون موسى الذى ربى على يد فرعون وامرأته سر هلاكه وزوال ملكه، وأن يكون موسى «السامرى» الذى رباه جبريل عليه السلام سر هلاك بنى إسرائيل وضلالهم بعد أن علمهم عبادة العجل، فحكم عليه نبى الله موسى أن يعيش عمره منبوذاً من الجميع «قال فاذهب فإن لك فى الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذى ظلت عليه عاكفاً لنحرقنه ثم لننسفنه فى اليم نسفا».

هكذا تبقى الفرعنة حالة غير مرتبطة بزمان أو مكان بل بشروط معينة إذا توافرت فى بيئة ما تحول حاكمها إلى فرعون، وشعبها إلى جماعة من المتفرعنين، ووزراؤها إلى هامانات، ومثقفوها إلى حفنة من المغلوبين على أمرهم، ليعيش هؤلاء جميعاً ردحاً من الزمن هانئين مطمئنين حتى يأتيهم الله من حيث لم يحتسبوا «والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون».