أعلام التربية و السلوك/ العز بن عبد السلام

أبو الخير محمد حبو حبيب

نسبه: هو أبو محمد عزالدين عبدالعزيز بن عبدالسلام بن أبي القاسم بن الحسن بن محمد بن مهذّب السُلمي مغربي الأصل، دمشقي المولد، مصري الوفاة،

شافعي المذهب، ملقب بسلطان العلماء، واسم الشهرة هو العزّ بن عبدالسلام. ولد سنة 577هـ وقيل 78 وتوفي سنة/ 660/هـ

نشأته:

نشأ العزّ في أسرة فقيرة مغمورة، ولم يطلب العلم إلا على كبر. كان يبيت في زاوية الباب الشمالي للجامع الأموي بدمشق. وفي ليلة ذات برد شديد احتلم. فقام مسرعاً ونزل في البركة فحصل له ألم شديد من البرد. وعاد فنام فاحتلم ثانية فنزل في البركة، لأن أبواب الجامع مغلقة. ولما طلع منها أغمي عليه من شدة البرد. ولما صحا سمع نداء يهتف به: يا ابن عبدالسلام أتريد العلم أم العمل؟
فقال عزالدين: العلم، لأنه يهدي إلى العمل. فأصبح وأخذ «التنبيه» وهو متن متداول في الفقه الشافعي فحفظه في مدة يسيرة، وأقبل على العلم فكان أعلم أهل زمانه ومن أعبد خلق الله تعالى.

طلبه للعلم:

حيث إن العزّ طلب العلم على كبر، فقد جدّ واجتهد في حفظ المتون ودراسة الكتب والتردد على كبار شيوخ عصره، ليعوّض ما فاته في صغره، كما أن كبر سنه وذكاءه أعاناه على تحصيل العلم الكثير وهضمه وإدراك مسائله العويصة.
كانت دمشق في عصره منتجعاً للعلماء من الشرق والغرب نظراً لتوسطها، فاجتمع فيها جهابذة العلماء البارعين في فنون العلم، وقد تردد عليهم شيخنا العز بن عبدالسلام، فنهل من علمهم الصافي الفياض وتأثر بأخلاقهم الفاضلة وسلوكهم في الحياة فانصقلت مواهبه، وتميزت شخصيته الجامعة بين الفقه والأصول والتفسير واللغة والتصوف متأثراً بورع وزهد الإمام فخرالدين بن عساكر وفقه القاضي عبدالصمد المرستاني.

سافر إلى بغداد عاصمة الخلافة وكعبة العلم آنذاك فوصلها سنة 597هـ وتردد إلى علمائها ونهل من علمهم. ولم يمكث فيها طويلاً. كان يواصل التحصيل والتلقي من الشيوخ حتى بعد أن صار شيخاً كبيراً تهابه الملوك وتخشى مخالفته. فبعد أن رحل إلى مصر عام 639هـ كان يحضر حلقات الشيخ أبي الحسن الشاذلي الصوفي المعروف، ويجلّه ويستفيد منه في علم الحقيقة.

كما أن أبا الحسن الشاذلي كان يوقر العزّ ويستفيد منه في الفقه. وهذا شأن العالم المخلص فإنه يواصل تحصيل العلم ولا يشغله عنه شاغل.

الزاوية الغزالية هي الزاوية الغربية للجامع الأموي، ونسبت إلى الإمام الغزالي رحمه الله لكثرة اعتكافه فيها وتدريسه، وقد تولّى التدريس فيها العز بن عبدالسلام من قبل الملك الكامل بعد وفاة الشيخ جمال الدين محمد الدولعي سنة 635هـ.

صدام العزّ مع الملك الصالح إسماعيل:

تحالف الملك الصالح إسماعيل حاكم دمشق مع الصليبيين ضد أبن أخيه نجم الدين أيوب حاكم مصر، وسّلم للصليبيين مدينة صيدا وقلعة الشقيف ومدينة صفد، وسمح لهم بشراء الأسلحة من دمشق. فأفتى العز بحرمة هذا البيع فقال: «يحرم عليكم مبايعتهم لأنكم تتحققون أنهم يشترونه ليقاتلوا به إخوانكم المسلمين». فأمر الصالح باعتقاله وبعد فترة أفرج عنه فذهب إلى بيت المقدس ووافق ذلك وصول الصالح إسماعيل مع عساكره وحلفائه من الصليبيين إلى بيت المقدس في طريقهم إلى مصر. فلما علم بالعزّ أرسل إليه أحد خواصه يطلب منه أن يصالحه. فلما اجتمع الرسول بالشيخ شرع في مسايسته وملاينته ثم قال له: بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وماكنت عليه وزيادة، أن تنكسر للسلطان وتقبّل يده لاغير. فقال له العزّ: والله يامسكين! ما أرضاه أن يقبل يدي فضلاً أن أقبل يده. ياقوم! أنتم في وادٍ، وأنا في واد. والحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به. فقال: إذن فقد أمر الملك باعتقالك. فقال: افعلوا ما بدالكم، فاعتقله في خيمة بجانب خيمة الملك. فبقي العزّ رهن الاعتقال راضياً بقضاء الله صابراً على ابتلائه، محتسباً للأجر شاغلاً وقته في قراءة القرآن الكريم وذكر الله. وكان الملك يسمعه، فقال يوماً للفرنج: (تسمعون هذا الشيخ الذي يقرأ القرآن؟ قالوا نعم. قال: هذا أكبر قسوس المسلمين. وقد حبسته لإنكاره عليّ تسليمي لكم بعض حصون المسلمين، وعزلته عن الخطابة بدمشق وعن مناصبه، ثم أخرجته فجاء إلى القدس. وقد جددت حبسه واعتقاله لأجلكم. فقالت له ملوك الفرنج: (لو كان هذا قسيسنا لغسلنا رجليه وشربنا مرقتهما).

وبقي العز رهن الاعتقال حتى جاءت الجيوش المصرية والتقت مع عساكر الشام فمالوا جميعاً على عساكر الفرنج فهزموهم وأسروا منهم عدداً كبيراًَ. ونجىّ الله العز من الاعتقال فاتجه إلى مصر فوصلها سنة 639هـ فرحب به الملك الصالح نجم الدين فولاّه الخطابة والقضاء فبدأ العز نشاطه في مصر بإقامة السنة ومحاربة البدعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونشر العلم. وهكذا امتحن العزّ فصبر واحتسب ثم نصره الله بظهور الحق وذهاب الباطل وأرضاهم عنه لأن العزّ قد أسخطهم لرضا الله. ومن أسخط الناس لرضا الله رضي عنه وأرضى عنه الناس، ومن أسخط الله لرضا الناس سخط الله عليه وأسخط عليه الناس.

بيعه لأمراء المماليك:

حينما تولّى العز القضاء بمصر لاحظ فيه أمراً مخالفاً للشرع، وهو أن المماليك الذين اشتراهم الملك نجم الدين ودفع ثمنهم من بيت مال المسلمين، واستعملهم في خدمته وجيشه، وفي تصريف أمور الدولة، يتصرفون بالبيع والشراء، وتصرفهم هذا باطل شرعاً لأن المملوك لا ينفذ تصرفه. فأخذ العز لايمضي لهم بيعاً ولاشراءً. وقد ضايقهم ذلك وعطّل مصالحهم، فراجعوه في ذلك فقال: لا بد من إصلاح أمركم بأن يعقد لكم مجلس فتباعوا فيه، ويرد ثمنكم إلى بيت مال المسلمين، ثم يحصل عتقكم بطريق شرعي فينفذ تصرفكم. فلما سمعوا هذا الحكم أزدادوا غيظاً وقالوا: كيف يبيعنا هذا الشيخ ونحن ملوك الأرض. ورفعوا الأمر للملك فغضب وقال: هذا ليس من اختصاص الشيخ ولا شأن له به. فلما علم العز بذلك عزل نفسه عن القضاء وقرر الرحيل عن مصر لأنه لا يطبّق فيها شرع الله. فحمل أمتعته على حمار وأهله على حمار واتجه إلى الشام فتبعه العلماء والصلحاء والتجار والنساء والصبيان، فصار الأمر أشبه بمظاهرة ضد الحكومة. وجاء من همس في أذن الملك الصالح نجم الدين أيوب قائلاً: متى رحل الشيخ ذهب ملكك. فخرج الملك مسرعاً ولحق بالعز وأدركه في الطريق وترضّاه، وطلب منه أن يعود وينفذ حكم الله. وحاول نائب السلطنة وهو الرجل الثاني في الدولة أن يترضى الشيخ لعله يتراجع عن رأيه، ولكن الشيخ أصرّ على تنفيذ حكم الشرع، فإزداد الأمراء غضباً واتفقوا على التخلص من الشيخ بالقتل. فذهب إليه نائب السلطنة مع جماعة من الأمراء فطرق بابه، ففتح الباب ابنه عبداللطيف، فراعه منظر نائب السلطنة إذ رأى سيفه مسلولاً، والغضب يعلو وجهه والشرر يتطاير من عينيه فدخل على والده وقال: انج بنفسك إنه القتل. فرد عليه الشيخ بقوله: هدئ نفسك يابني! فأبوك أقل من أن يقتل في سبيل الله. ثم خرج كأنه قضاء الله قد نزل على نائب السلطنة فحين وقع بصره على النائب يبست يد النائب وسقط السيف منها وارتعدت فرائصه وبكى، وسأل الشيخ أن يدعو له، وقال ياسيدي ماذا ستفعل؟ قال: أنادي عليكم وأبيعكم.

قال : ففيم تصرف ثمننا؟ قال: في مصالح المسلمين. قال من يقبضه؟ قال: أنا فتم له ما أراد، ونادى على الأمراء واحداً واحداً، وغالى في ثمنهم وقبضه وصرفه في وجوه الخير.
وهذا مالم يسمع به عن أحد قبله ولا بعده رحمه الله تعالى ورضي عنه.

هذا الموقف العظيم قد خلّد ذكر العزّ، وأقام مناراً للحق، وأخضع الملك والأمراء المتكبرين على الشعب لحكم الله، وحقق المساواة بين الناس، حيث يقف الحاكم والمحكوم سوياً عند شرع الله. لا شك أن العزّ بتقواه وزهده وورعه صار له من السلطان والقوة والمهابة ما يستطيع به أن يغير المنكر بيده، ويجابه الملوك بقول الحق ولا يخشى في الله لومة لائم لذا نجد تلميذه ابن دقيق العيد قال عنه: (إنه أحد سلاطين العلماء) إنه نموذج رائع للعالم الصوفي الصادق فهل من يتأسى!؟

وفاته:

بعد عمر مديد حافل بالتضحيات والجهاد في سبيل نصرة الإسلام توفي العزّ بن عبدالسلام في العاشر من جمادى الأولى سنة ستين وستمائة للهجرة. رحمه الله وجعل الفردوس الأعلى مثواه، ورزق المسلمين بعلماء صوفيين أمثاله لا يخشون في الله لومة لائم يبيعون دنياهم من أجل أخراهم همهم رضاء الله ونفع المسلمين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.