إن السواد الشديد في النفق المعتم الذي يسجن راية الحق، يصحبه دوما بصيص من ضوء يشي بفرجة قريبة تنتهي إليها خواتيم هذا النفق. وآهات الليالي الباردة وصرخات الجراح المثخنة لهما الأساس لصرح متين تشيده تلك الأجساد المرتعشة في الشتاء، وهاتيك البطون الخاوية والأمعاء التي نسيت معني الشبع..!
إن حدثا جللا يجري علي أرض تلك البلاد الطيبة منذ ثورة يناير وحتي الآن؛ فإذا كان من اليسير تصور كنه الضغوط التي يمكن أن تمارس علي الإنسان حتي يعلن التنازل عن شيء من كرامته وكبريائه، وإذا كان من السهل سرد الذرائع والتبريرات الكثيرة لذلك، ومن ثم فليس من الصعب إقناع الجمهور العام بها بل إن هذا الجمهور الآن هو الذي أصبح يطالب بهذا الترخص إشفاقا منه لما يسمعه ليل نهار من ويلات وتأوهات، فالطاقة البشرية لها وسع في تحمل تلك المخططات الممنهجة التي يمارسها الانقلاب علي مؤيدي الشرعية وعلي المعتقلين من تعذيب وتهديد بالأهل، ومن الحرمان من الطعام والرِي والدفء، وغير ذلك من تلك القائمة الطويلة التي لا تكاد تنفذ، حتي أصبح الانقلاب الآن يصدر خبرته فيها إلي الآخريين ممن أرادوا أيضا الفتك بشعوبهم والنيل من كرامة وعزة ذوي العلم وأصحاب الفضل..


و القضية الآن أنه ووسط كل هذا لا ينبغي لنا أن نغفل عن هؤلاء الصابرين المحتسبين، والذين لم يفتروا ولم تخور عزائمهم أو قواهم منذ الثورة وإلي الآن، فلم يقبلوا منذ البداية بريق المناصب وإغراءات السلطة والحكم، وقد دانت لهم وكان باستطاعتهم البقاء عليها للأبد إذا ما قبلوا و أذعنوا منذ البداية وأعلنوا الولاء والإلتحاف بهذا العلم الأمريكي، أو آثروا المهادنة مع ابنه المدلل الصهيوني، ولكنهم رفضوا؛ وكانت الخطة الرامية لامتلاك الغذاء والدواء والسلاح..ثم كان ما كان، ففُتحت لهم السجون، ونُصبت لهم المشانق وأُلقيت علي ظهورهم كل سهام البطش والإتهام..
فماذا كانت تعني إرادات الشعوب إذا قبل الدكتور مرسي التنازل منذ اليوم الأول، أو حتي بعد ذلك وعلي مدار ما يقرب الآن من ست سنوات. في أي خضم متلاطم كان سيرمي معني الإنتخاب الحُر الذي حدث لأول مرة في تاريخ مصر، وألقي في رقبته تلك الأمانة وذاك التحدي. فقد آثر ألمه وحرمانه وحبسه منفردا علي أن يلقي العبء من فوق كاهله. وبتلك التضحية وعدم الإستسلام لأفكار الرخصة والمحدودية في السعة البشرية مازالت تكتمل ملامح أول ديمقراطية مصرية حقيقية؛ تلك التي نظّر لها الليبراليون كثيرا، وعندما رأوها بناء شامخا قارب علي الإنتهاء؛ حيث بدأت معالمها وسماتها في النضج وإلقاء الثمر؛ إذ نكص حينها أغلبهم عن إيمانهم بها، ونادوا بالعسكر والدبابة..
وماذا كانت تعني القدوة ومواقع المسئولية والقيادة إذا ما رأي المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين -تلك التي تتحمل النصيب الأكبر من تبعات الانقلاب ومن العمل في سبيل نجاح الثورة المصرية- ماذا إذا رأي أنه قد بذل ما فيه الكفاية وقد استشهد ابنه وتجرع مرارة الفقد والحرمان منه، فليتنازل لهم إذن عما شاءوا، وليخرج يقضي ما بقي له من عمر يحاول أن يمسح دمع أحفاده اليتامي ويعوضهم ولو بالقليل عن فقد أبيهم، وماذا إذا قرر الدكتور البلتاجي أن يفعل الشيء نفسه ويجمع حوله ما بقي من أبنائه يواسيهم علي فقد شقيقتهم الوحيدة، ويدفع عنهم ما يصيبهم من بلاء مستمر بسبب شموخه ومواقفه هو..بل لنقل أن اعقتال وتعذيب ابنة المهندس خيرت الشاطر، لهو أثقل من جبال الأرض علي قلب الأب، فهو معذور إذن إذا تراجع ولو ظاهرا، حتي يحرر ابنته ويرفع عنها ما تجده من عنت مبعثه ليس سوي انتسابها إليه..
والحقيقة أن تلك العزيمة وذاك الثبات لم تتوقف حدودهما عن عند بعض الرموز أو القيادات، ولكنهما من أكثر السمات والملامح السائدة في هذا العدد الوافر من المعتقلين الذين ندر أن تجد مثلهم في التاريخ المصري. فهذا الرجل الخمسيني الذي أوسعوه تعذيبا وتهديدا بأهله وعرضه في مقار الأمن الوطني، لم ينطق ببنت شفة يريحهم فيها ويعطيهم مبتغاهم من الإعتراف بما لم يفعله، وهذا الصحفي الشاب بسيط الحال كثير العيال، قد حاروا في كيفية الضغط عليه حتي يوقع علي إستمارة لطلب العفو تشير ضمنا بأن ملكيته لآلة تصوير تحمل الحقائق لمن يريد أن يراها إنما هو جريمة كانت تستحق ما حدث له من إيقاف ومقاضاة؛ لكنه رفض، وآثر السجن حرا، مطمئنا لما يحمله في قلبه من ضمير مهني لا يعتذر عن وعي ناضح يعمل من أجل صناعته وتأسيسه..
ليس من أهداف تلك السطور إذن أن تتّبع الرؤي الشرعية لما تصح فيه الرخص أو تجب فيه العزيمة وإنما هو محض تأمل ليد العزيمة الحاملة لنا جميعا، ومعنا ما وقرّ في قلوبنا من مباديء وأحلام وطموح. إن القبول الشرعي أو العرفي بوجود الرخصة في مثل تلك الأهوال التي تعصف بالرجال، لا ينبغي أن يجعلنا لا نري من يصنع بصبره المجد والعزة، فالبعض صار يمر علي مثل تلك المواقف وكأنه من فرط قبوله ومناداته بالرخصة يتعمد إغفال ما بها من بطولة أو محل فخر، في حين أن مثلها هو ما تستمر معه معاني الثورة قائمة حاضرة في الذهن الجمعي المصري والعالمي إلي الآن..


ورغم أن الأمثلة السابقة لهي خير إجابة علي كون العزيمة هي ما يصنع الدعوات والأمجاد..فبغيرها لانهارت الشرعية ووُئدت أول تجربة ديمقراطية في مصر، وبدونها لما وجد الشباب من يتأسون بهم ويتعلمون علي أيديهم في درس تطبيقي عملي كيف يكون الصبر علي المكاره مهما اشتدت وتزاحمت..
ولنمضي إذن مع تأمل غاية تلك “العزيمة” وأفعالها لبعض الوقت..ولنحاول أن نتصور مصير الدعوات إذا كانت جميعها سرية لا تجد من يجهر بها نظرا لهذا الخوف من الملاحقة والتعذيب، فإذا كانت بعض المباديء يمكن لأصحابها العيش بها في الخفاء، فماذا عن مبدأ مثل الحرية أو الكرامة، وماذا عن حق جمعي مثل أن تكون للشعوب إراداتها المستقلة، وماذا عن حق وطني في دفع الاحتلال ورفض سرقة ثروات الشعوب، كيف يمكن لمثل تلك المباديء أن تظل سرية؛ في حين أن كنهها إنما هو في حد ذاته كامن في الإعلان عنها لأنه يعني ممارستها وتطبيقها. فماذا إذا ما تراجع كل من أوذي من جراء هذا التطبيق وتلك الممارسة؛ إن ذلك لا يعني سوي توقف المبدأ بالكلية وإعلان انهزامه وانحساره أو تقوقعه لحين إشعار آخر..
من ناحية أخري إذا كان الأمر يقتصر علي مجرد إيمان عقدي سوف يغلق عليه المرء باب قلبه وفقط، فليكن؛ ولكن ماذا عن إيمان هو في حد ذاته جمعي ينادي به الفرد ليناله الجميع، عن منهج متكامل لا تتوقف حدوده عند فرد أو أسرة أو عائلة؛ فعندها لابد لمن يتصدي لحمل هذا النداء أن يتحمل حتي تصيب دعوته آذانا وقلوبا آخرين، وأن يظل ظاهر الصوت جهورا بندائه هذا ولا يتوقف مهما كان الإيذاء؛ حتي يتيقن أن الجميع قد سمع، وأن هذا الذي سمع قد وعي، وأن هذا الذي وعي قد أدرك وبدأ هو الآخر في التبني والحركة والعمل. وبدون ذلك مات النداء من أول صفعة، ولما نجح في الوصول إلي تلك الأسماع والأفئدة الممتدة عبر القرون، فتلبية مثل تلك النداءات قد يتأخر بعمق السنين، ومن ثم لابد أن يظل حيا علي بعض الألسنة تصدح به حتي يرثه جيل لاحق، يستمر معه الصدح، وهكذا حتي تتسع رقعة الإجابة والتي يمكن لها أن تتباطيء فتتجاوز أجيالا وليس جيلا واحدا أو إثنين..


إن عالم القيم عندما يتحرك يتأكد؛ وإلا لقي حتفه قابضا ذراعيه وقدميه هلعا أمام تلك تلك الآلات الضخمة للمجتمع المادي الشره، هذا الذي يبحث داخل الإنسان عن تلك “الحاجة” والفاقة الدائمة والمستمرة فينميها ويزيد في تأججها ليتحول إلي هذا المخلوق الإستهلاكي العاجز دوما عن إشباع ما يستجد له من حاجات مبعثها هذا التأجيج للفاقة تبعا لهذا القدر غير المتناهي من المنتجات التي يتميز بها العالم الرأسمالي الإمبريالي، يريدون بنا هذا التيه وسط ترهات الفاقات والحاجات والسلع؛ وأن نكون عبيدا باستمرار لتلك المنتجات التي تحقق لخزائنهم هم التقدم والسبق، وتلحقنا نحن بركبهم تابعين أذلاء معوزين. وسط كل هذا فما نملكه بيقين للمواجهة هو تلك القيم والمباديء التي ترجع في الأساس لمعني الحق وقضاياه العادلة، فإذا ما فرط جميعنا ولو ظاهرا في مثل تلك القيم الرصينة، فلن يبقي لنا مكان سوي في المؤخرة، سائرين رغما عنا تابعين لعوالم القوي المادية بما لها من قوانين وقواعد وعلاقات، فتظل هي المسيطرة وصاحبة اليد، تفرض نموذجها ونمط حياتها علي كل من قبل ليس فقط الانضواء تحت تلك الراية ولكن أيضا من آثر الصمت، وانزوي عاقدا قلبه علي ما به دون أن يبحث عن تمدده في الحياة. إن النموذج العالمي الجديد بعد أن عجز عن القضاء علي الإسلام وما يعبر عنه من قيم حضارية وعمرانية آثر أن يكون هدمه له عن طريق تفريغه من الداخل، والإبقاء علي تلك الصورة الشكلية؛ كمثل هؤلاء الفرحين بصورتهم الجماعية بعد آداء صلاة الجمعة ناسين معني تلك الجمعة وذاك الإجتماع وما يرمي إليه في المقاصد الشرعية، وهذا التفريغ من جانب يلتقي معه في مصب واحد ذاك الصمت وهذا الإستسلام، ومن ثم كان التعبير الدائم عن القيمة قولا وحركة وتطبيقا، هو الضمان للحافظ عليها من الضمور أو الشلل، وعليه فمهما كان أهل تلك القيم قلة أو كثرة ومهما كان موقعهم في طور غلبة أو مطاردة أو ضعف، فإن تعبيرهم عن أنفسهم بجلاء ضمان حقيقي لاستمرار وجود هذا النموذج المعاكس لما يريده النظام العالمي، ومن ثم يظل عدم الاستقرار للأخير قائم وحرج..
وعلي هذا..فهؤلاء القابضين علي جمر آلامهم وجراحهم في أقبية السجون والمعتقلات، لهم منا خالص التحية والسلام لما يكتبونه بأسطر من نور من صفحات حية نابضة بالقيم والعمران..