وقد صفع القرآن أولئك الذين يعظون الناس ولا يتعظون، وينهونهم ولا ينتهون فقال: {أتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ}.

يقول صاحب الظلال عند تفسير هذه الآية: “ومع أن هذا النص القرآني كان يواجه ابتداء حالة واقعة من بني إسرائيل، فإنه في إيحائه للنفس البشرية، ولرجال الدين بصفة خاصة، دائم لا يخص قوما دون قوم ولا يعني جيلا دون جيل.

إن آفة رجال الدين – حين يصبح الدين حرفة وصناعة لا عقيدة حارة دافعة – أنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، يأمرون بالخير ولا يفعلونه، ويدعون إلى البر ويهملونه، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويؤولون النصوص القاطعة خدمة للغرض والهوى، ويجدون فتاوى وتأويلات قد تتفق في ظاهرها مع ظاهر النصوص، ولكنها تختلف في حقيقتها عن حقيقة الدين، لتبرير أغراض وأهواء لمن يملكون المال أو السلطان!  كما كان يفعل أحبار يهود!.

والدعوة إلى البر والمخالفة عنه في سلوك الداعين إليه، هي الآفة التي تصيب النفوس بالشك لا في الدعاة وحدهم ولكن في الدعوات ذاتها  وهي التي تبلبل قلوب الناس وأفكارهم، لأنهم يسمعون قولا جميلا، ويشهدون فعلا قبيحا، فتتملكهم الحيرة بين القول والفعل، وتخبو في أرواحهم الشعلة التي توقدها العقيدة، وينطفئ في قلوبهم النور الذي يشعه الإيمان، ولا يعودون يثقون في الدين بعدما فقدوا ثقتهم برجال الدين.

إن الكلمة لتنبعث ميتة، وتصل هامدة، مهما تكن طنانة رنانة متحمسة، إذا هي لم تنبعث من قلب يؤمن بها. ولن يؤمن إنسان بما يقول حقا إلا أن يستحيل هو ترجمة حية لما يقول، وتجسيما واقعيا لما ينطق. عندئذ يؤمن الناس، ويثق الناس، ولو لم يكن في تلك الكلمة طنين ولا بريق.. إنها حينئذ تستمد قوتها من واقعها لا من رنينها، وتستمد جمالها من صدقها لا من بريقها.. إنها تستحيل يومئذ دفعة حياة، لأنها منبثقة من حياة. (انتهى من الظلال:1/ 114)

فلابد للدعاة أن يترسموا خطى الدعوة في كل شأن من شئونهم في أقوالهم وأفعالهم، في حياتهم الخاصة والعامة لا يفرقون بينهما، فهم صادقون مع أنفسهم كأفراد، وفي بيوتهم كأزواج وآباء، وفي مجتمعاتهم كعمال أو أرباب عمل أو موظفين، ورضوان الله على علي بن أبي طالب حين قال: “من نصب نفسه للناس إماما فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تهذيبه بسيرته قبل تهذيبه بلسانه، ومعلم نفسه ومهذبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومهذبهم”.

غير أننا نقول: إنه لا يمكن للداعي أن يكون قدوة وأسوة فيما يقول ويعمل، وأن يكون قرآنا يتحرك إلا إذا وثق صلته بالله، واستمد العون منه، وأصبحت {إياك نعبد وإياك نستعين} هي منهاجه ونبراسه، حينئذ يهديه الصراط المستقيم، ويعينه على لأواء الطريق، فيرى فيه الناس صدق ما يقول، فيفتح الله به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا.