الأستاذ : مصطفى السباعي

صفحات من جهاد متواصل

مقدمـة :
• من حق العظيم أن نتعرف على مسلكه الحياتي لنتمكن من تلمس خطـاه.
• الشعوب تحب التعرف على رجالاتها ، رغم أنه لا قداسة في الإسلام للرجال إلا أنه بنشر هذه الكلمات ندرك مصداقية الفرد ومدى انصياعه ونزوله على الحق والتزامه بهموم أمته وقضاياهم المصيرية.
• إنه رجل تصدر موكب الدعوة الإسلامية المعاصرة وشهد له معاصروه بأنه كان عظيماً.
• والهدف كما قال السباعي”رحمه الله” : “نعتقد أن من حق الجيل الذي أتى بعدنا أن يطلع على تجاربنا ونقدم له النصح والموعظة ..” إنها هديتنا للشباب المسلم المعاصر.
# إن هذه المحاولة هي محاولة قاصرة للإحاطة بجوانب هذا التاريخ العظيم ، وهي الأولى من نوعها لتاريخ حياة هذا الرجل الأمة.
فسجل حياته الذي لم يتجاوز التاسعة والأربعين يشهد بأنه كان الداعية الفذ المعطاء ويشهد إنتاجه كذلك بأنه كان مثمراً تعجز عن مثله العباقرة.

ولادتـه ونشأتـه :

ـ ولد عام 1915م في مدينة حمص في سوريا من أسرة علمية عريقة وأغناها بالعلم والعلماء أبواه وأجداده تولوا الخطابة بالجامع الكبير .
ـ تأثر بأبيه العالم المجاهد الشيخ حسني السباعي .
ـ رافقت نشأته ظروف قاسية تمر بها البلاد من جهاد ضد المستعمر الفرنسي وعملاءه.
ـ درس الفقه وحضر مجالس العلماء مع فقهاء حمص مما كان لها أثرها في تكوينه العلمي ، وقد دفعه أبوه بعد ذلك وشجعه لدراسة علوم الشريعة وبخاصة دراسة الفقه المقارن.

طلبــه للعلـم :

حفظ القرآن وتلقى مبادئ العلوم الشرعية على أبيه حتى دخل المدرسة الابتدائية ثم دخل المدرسة الثانوية الشرعية وأتم دراسته فيها عام 1930م بنجاح باهر ونباهة متوقدة ، وكان مولعاً بالمطالعة والشعر والأدب.
سافر إلى مصر والتحق بالأزهر قسم الفقه عام 1933م وانتسب بعدها لكلية أصول الدين وقدم أطروحته العلمية “السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي” وهذا الكتاب الذي سيظل من أمضى الأسلحة في الدفاع عن السنة ومكانتها .

مباشرته التدريـس :

أدرك أهمية التدريس في تربية النشء وإعداد الأجيال لمسئوليتها في التحرير واستعادة فلسطين. كان يدرس اللغة العربية والدين في مدارس حمص ثم دمشق. وأسس هناك المعهد العربي الإسلامي الذي أصبح له فروعاً شتى في مختلف المحافظات وكان هو المدير الذي تخرج على يديه عدداً كبيراً من الطلاب الذي كانوا خيرة ما أنتجته البلاد. ووقع عليه الاختيار ليكون أستاذاً في كلية الحقوق جامعة دمشق عام 1950م.
وبطموحه العلمي وشعوره بالمسئولية أنشأ كلية للشريعة الإسلامية رغم العراقيل والصعوبات وكان أول عميداً لها عام 1955م. إن هذا العمل يدل على أنه بمثابة أمه وحده. وعمل أيضاً على إنشاء موسوعة للفقه الإسلامي تهدف إلى إحياء إحياءه وصياغته صياغة جديدة.
وأيضاً فقد عنى بمناهج تدريس الشريعة بجامعة دمشق لإضفاء الروح التوجيهية التي حرص عليها لتخريج الدعاة وليس الفقهاء فحسب.
وكم كانت همته عالية وما كان له من حيوية وإخلاص واندفاع لأداء كل هذه الواجبات رغم ما يعانيه من آلام ، وكان يقول : “خير لي أن أموت وأنا أقوم بواجبي نحو الله من أن أموت على فراشي فالآجال بيد الله وأن ألمي من حرمان الطلاب من دروس التوجيه أشد وأقسى من آلامي الجسدية وحسبي الله وعليه الاتكال “.

مناصب سياسـية :

كان السباعي ـ رحمه الله ـ ابن العالم الإسلامي قاطبة ، ونال ثقة أهل دمشق فانتخب عضواً عنها في برلمان 49 ـ 1954م وعبر بصوت مدوي عن أماني الشعب والأمة ، والتفت حوله القلوب فانتخب رئيساً للبرلمان وعضواً بارزاً في لجنة الدستور العامة وأحد الأعضاء التسعة الذين وضعوا مسودة الدستور وضمنوها مواد إسلامية رائعة.
ولم تُغرِه المحاولات والعروض المستميتة للدخول في الوزارات المتعاقبة، وآثر العمل الشعبي والبقاء مع الجماهير عن الانشغال بالمناصب والمغانم.

بداية الكفاح والانطلاق للعمل العـام :

أثرت الظروف السيئة المحيطة بهذا الشاب اليافع على نشأته ، فكان متحمساً مستشعراً بمسئولياته وكان أعماله أكبر من عمره فقام بتأليف جمعية سرية لمقاومة التبشير الذي أنشئ عن طريق الاستعمار الفرنسي وبخاصة المدارس التي تنفث سمومها في أبناء الطبقة الراقية وتحبب إليهم الثقافة والعادات الإفرنجية وتعمل على إبعادهم عن عقيدتهم وثقافتهم الأصيلة.
وازدادت جرأته فصار يدعو من على المنابر إلى المظاهرات بل وقادها في أغلب الأحيان مما أزعج الاستعمار الحاكم فاعتقل لأول مرة عام 1931م بتهمة توزيع منشورات نارية ضد سياسة فرنسا في المغرب، وكان وقتئذ ابن 16 عاماً فقط.
وأعيد اعتقاله ثانية عام 1932م وألقي في السجن لعدة أشهر ثم سافر إلى مصر للدراسة بالأزهر عام 1933م .
هناك شارك بل قاد العديد من المظاهرات ضد الاحتلال البريطاني مما دعا السلطات الاستعمارية إلى إيداعه السجن عام 1934م ثم ثانية عام 1940م عندما أيد ثورة رشيد عالي الكيلاني .
وأعيد إلى سوريا بعد أن قام الانجليز بتسليمه من مصر إلى سلطات الانتداب في فلسطين واعتقل هناك أربعة أشهر إلى أن وصل سوريا بداية عام 1941م.
وقد قبضت عليه سلطات الاستعمار الفرنسي وأودعته السجن لمدة تزيد عن عام ونصف ذاق خلالها أبشع ألوان التعذيب.

كفاحـه للقضية الفلسطينية :

لقد شهدت الدنيا بأسرها مصداق تحركه للقضية الفلسطينية وبذله وتضحيته في سبيلها وهو الذي قرن القول بالعمل فمن خطب حماسية نيره يفتح أمامها أبواب الجنة والشهادة ومقالات في كافة الصحف ومحاضرات في أنحاء البلاد رغم الأحكام العرفية السائدة.
لكنه لم يعبأ وظل يشعل الاجتماعات والتجمعات والمساجد والأندية والبرلمان أيضاً .

قيادته للمقاومة المسلحة ضد الفرنسيين :

في مايو عام 1945م قاد السباعي المقاومة المسلحة ضد الاستعمار الفرنسي في حمص وأطلق الرصاصة الأولى بادئاً المقاومة وأظهر هو ورجاله من البسالة والشجاعة ما أذهل الأعداء وكبدهم الخسائر الفادحة وهكذا اشتعلت البلاد كلها حتى تم دحر الأعداء المستعمرين.

البدء بالدعوة وبعث الفكـرة الإسلامية :

لم يكن في الشام كلها أي تيار إسلامي واضح المعالم ولكن كانت هناك بعض الدعوات الدينية والطرق الصوفية التي تكتفي بالدعوة إلى مكارم الأخلاق دون روح حقيقية تبعث الأمة من جديد. وأحس بذلك المجاهد الكبير ـ رحمه الله ـ فساهم في بدء الأمر بتأسيس عدد من الجمعيات في حمص ثم الرابطة الدينية بحمص ثم شباب محمد والشباب المسلمين في دمشق إلى أن سافروا إلى مصر عام 1933م.
واتصل المجاهد السباعي حينئذ بالإمام الشهيد حسن البنا وساهم خلال وجوده في مصر بدفع هذه الحركة وتدعيم أسسها إلى أن أفزع الاستعمار البريطاني منه وقاموا بترحيله، وفي دمشق أعلن ـ رحمه الله ـ عام 1942م قيام جماعة الإخوان المسلمين في اجتماع حضره الأستاذ سعيد رمضان ، وبويع عام 1949م مراقباً عاماً لها مدى الحياة فانتشر في سوريا التيار الإسلامي المتوقد الحيوي فأصبح لها صوت مسموع مهاب استقطب خيره الشباب المؤمن.

إلى ميدان الجهـاد وخط النار :

في عام 1948م تم تقسيم فلسطين وتدويل القدس وثارت الشعوب العربية ودفعت الحكومات لدخول المعركة ضد اليهود الغاصبين وهنا دعا السباعي إلى التطوع لإنقاذ فلسطين واندفع قائداً الركب في مقدمة شباب وكتائب الإخوان المسلمين ضربوا أروع نماذج البطولة وفي أرض المعركة تم لقاء كتائب إخوان سوريا بكتائب إخوان مصر وكذلك التقى السباعي بالبنا ورسما خطة المعركة التي استمرت حتى تمت الهدنة المشئومة التي أبعدت المجاهدون رغماً عنهم من أرض المعركة إلى بلادهم.
ولم ينس السباعي القضية الفلسطينية فجعلها حية في ضمير الجماهير ودعا إلى تخصيص أسبوع من كل عام باسم “أسبوع الخطر الصهيوني” قاد فيه العمل على إعداد الشعب للجهاد ، كما طالب بتدريس القضية الفلسطينية في مناهج التعليم وقد نفذ فعلاً .
واستمر هكذا يلقي الخطب ويكتب المقالات مما كان له أثراً بالغاً في جمع التبرعات السخية.

كفاحه في ميدان الصحافـة :

أنشأ السباعي ـ رحمه الله ـ جريدة “المنار” عام 1947م حتى تم إيقافها عام 1949م على يد حسنى الزعيم ، وقد كانت تعالج مشاكل الأمة وقضاياها ببيان مشرق وأسلوب مثير وصراحة نادرة مما جعل أعداء الجريدة تنفذ دوماً عند عرضها أول ساعة.

وفي عام 1955م أسس مع إخوانه جريدة “الشهاب” حتى توقفت عند قيام الوحدة مع مصر عام 1958م بعد أن قامت بواجبها نحو قضايا الأمة العربية والإسلامية خير قيام.
وفي نفس العام 1955م حصل على امتياز إصدار مجلسة “المسلمون” بعد احتجابها من مصر وظل رئيساً لتحريرها حتى سنة 1958م حيث غير اسمها إلى “حضارة الإسلام” وجعلها مدرسة للفكر الإسلامي الأصيل فوضح معالم الطريق دون حيدة عن طريق الحق.

مواقف الرجولة والكرامة :

(1) دعا لمؤازرة الشعب المصري ضد المستعمر البريطاني عام 1952م وعرض تطوع آلاف من شباب الإخوان في سوريا للذهاب للقناه ولكن قوبل ذلك بالقبض عليه وزجه في السجن قرابة 14 شهراً وقام حينئذ رئيس الجمهورية الشيشكلي بحل جماعة الإخوان المسلمين وتعريضها للأذى والتنكيل .
(2) في عام 1956م وقف إلى جانب إخوانه في مصر ضد العدوان الثلاثي وحول الجامعة إلى ما يشبه الثكنة العسكرية وظل مرتدياً زي المقاومة الشعبية طيلة فترة العدوان.
(3) أُبعِد عن سوريا أواخر عام 1952م إلى لبنان نظراً لرفضه الولاء لحزب التحرير الذي أسسه رئيس الجمهورية أديب الشيشكلي ، ولكنه أنشأ حركة إسلامية واعية في لبنان والتف حوله الشباب وساروا على نهجه حتى اليوم ، كما أنه التقى بالأستاذ الهضيبي آنذاك في لبنان وبعد عودة الهضيبي إلى مصر واعتقاله من قبل السلطات المصرية ألف الإخوان في البلاد العربية مكتباً تنفيذياً لإدارة شئون الجماعة تولى الدكتور مصطفى السباعي رئاسته.
(4) أوفد إلى العديد من المؤتمرات والرحلات العالمية :
• ففي عام 1951م رأس وفد سوريا إلى المؤتمر الإسلامي العالمي بباكستان.
• وفي عام 1954م رأس وفد سوريا إلى المؤتمر الإسلامي المسيحي في لبنان ، وألقى خطابه المشهور عن الإسلام والشيوعية فأحبط محاولات الدول الاستعمارية الغربية للتستر وراء هذا المؤتمر.
• وفي عام 1956م أوفد من قبل الجامعة السورية إلى الغرب للاطلاع على مناهج الدراسات الإسلامية فيها فزار تركيا وإيطاليا وبريطانيا وغيرها وناقش هناك العديد من المستشرقين الذين تأثروا به وعاهدوه على التعاون معه قبل نشر مؤلفاتهم عن الإسلام .
• وفي عام 1957م سافر إلى موسكو وهناك وضح لهم موقف المسلمين من التيار الشيوعي في بلادهم وفضح أساليبهم وكشف مؤامراتهم.

كفاحه في ميادين الخدمة الاجتماعية :

لم تخل حياته من إسهام كبير في كافة ميادين الحياة الاجتماعية فمن حرص على العمال وحقوقهم والمدافعة عنهم أمام مجلس النواب وإنشاء مدارس خاصة لهم إلى العناية بأهل القرى والريف والدعوة لتنمية قراهم وإيصال الكهرباء والماء لها إلى مساعيه لتأسيس المعهد العربي بدمشق كما أنه شارك في تأسيس العديد من اللجان لجمع الإعانات وكفالة المحتاجين ، كما أنه زار الديار المقدسة ثلاث مرات آخرها بعد أن اشتد عليه المرض عام 1964م ولكن الله من عليه بتحسن صحته هناك.
لقد كانت فترة مرضه الطويل الذي استمر ثماني سنوات مثالاً لرجل من أولي العزم يصبر على ما لا يطاق ويتحمل ما لا يمكن تحمله من آلام ورغم ذلك كانت هذه الفترة من أخصب فترات حياته إنتاجاً فكرياً وعلمياً وأدبياً واجتماعياً وألف كتاباً “هكذا علمتني الحياة” خلالها وهو في مستشفى المواساة عام 1962م.

وفــاته :
توفى ـ رحمه الله ـ يوم السبت 3 أكتوبر 1964م بمدينة حمص وشيع في موكب مهيب تاريخاً زاخراً بالمآثر الخالدة وصفحات لا تطوى من الجهاد.

رثــائه :

يقول العلامة الكبير محمد أبوزهرة :”إنني لم أر في بلاد الشام أعلى من السباعي همة وأعظم منه نفساً ، وأشد منه على الإسلام والمسلمين حرقة وألماً “.

كما رثاه الشاعر محمد الحسناوي :

فيـك الأبـوة والقيادة والتقـى والعلم والإخلاص للرحمن
فيـك الجهاد شجاعـة وريادة لله كم أضناك من إحسان
أولست من هز المنابر والعروش وزلزل الطاغوت بالإيمان