الأمل واليقين في مواجهة اليأس والقنوط

“ولكن حقائق اليوم هي أحلام الأمس , و أحلام اليوم هي حقائق الغد”

         … إن التيارات الجارفة الهدامة في البلد قوية , مما يجعل اليأس يدب إلى القلوب و القنوط يستولي على النفوس , و حتى لا يجد القراء الكرام هذا الشعور.., أحببت أن تكون هذه الكلمات مفعمة بالأمل , فياضة باليقين في النجاح إن شاء الله , و لله الأمر من قبل و من بعد, و سأحصر الموضوع في نظرتين إيجابيتين :

نظرة اجتماعية

يقول علماء الاجتماع إن حقائق اليوم هي أحلام الأمس , و أحلام اليوم هي حقائق الغد , و تلك نظرة يؤيدها الواقع و يعززها الدليل و البرهان , بل هي محور تقدم الإنسانية و تدرجها مدارج الكمال , فمن ذا الذي كان يصدق أن يصل العلماء إلى ما وصلوا إليه من المكتشفات و المخترعات قبل حدوثها ببضع سنين , بل إن أساطين العلم أنفسهم أنكروها لأول عهدهم بها , حتى أثبتها الواقع و أيدها البرهان , و المثل على ذلك كثيرة , و هي من البداهة بحيث يكفينا ذلك عن الإطالة بذكرها .

نظرة تاريخية

وإن نهضات الأمم جميعاً، إنما بدأت على حال من الضعف يخيَّل للناظر إليها، أن وصولها إلى ما تبتغي ضرب من المحال.ومع هذا الخيال، فقد حدثنا التاريخ أن الصبر والثبات والحكمة والأناة وصلت بهذه النهضات الضعيفة النشأة، القليلة الوسائل، إلى ذروة ما يرجوه القائمون بها، من توفيق ونجاح، ومن ذا الذي كان يصدِّق أن الجزيرة العربية وهي تلك الصحراء الجافة المجدبة تنبت النور والعرفان، وتسيطر بنفوذ أبنائها الروحي والسياسي على أعظم دول العالم؟

ومن ذا الذي كان يظن أن أبا بكر صاحب القلب الرقيق الليِّن، وقد انتقض الناس عليه، وحار أنصاره في أمرهم، يستطيع أن يخرج في يوم واحد أحد عشر جيشاً، تقمع العصاة وتقوِّم المعوج ، وتؤدب الطاغي وتنتقم من المرتدين، وتستخلص حق الله في الزكاة من المانعين؟

ومن ذا الذي كان يصدق أن هذه الشيعة الضئيلة المستترة من بني علي و العباس تستطيع أن تقلب ذلك الملك القوي الواسع الأكناف ما بين عشية وضحاها, وهي ما كانت في يوم من الأيام إلا عرضة للقتل و التشريد و النفي والتهديد؟

ومن ذا الذي كان يظن أن صلاح الدين الأيوبي يقف الأعوام الطوال ، فيردّ ملوك أوروبا على أعقابهم مدحورين ، مع توافر عددهم وتظاهر جيوشهم، حتى اجتمع عليه خمسة وعشرون ملكاً من ملوكهم الأكابر؟

هل هناك طريق أخرى؟

و ثم نظرتان سلبيتان تحدثان النتيجة بعينها و توجهان قلب الغيور إلى العمل توجيها صحيحا .

أولاهما : أن هذه الطريق مهما طالت فليس هناك غيرها في بناء النهضات بناء صحيحا و قد أثبتت التجربة صحة هذه النظرية .

و ثانيتهما : أن العامل يعمل لأداء الواجب أولا , ثم للأجر الأخروي ثانيا , ثم للإفادة ثالثا , و هو إن عمل فقد أدى الواجب , و فاز بثواب الله ما في ذلك من شك , متى توفرت شروطه , و بقيت الإفادة و أمرها إلى الله , فقد تأتي فرصة لم تكن في حسابه تجعل عمله يأتي بأبرك الثمرات , على حين إنه إذا قعد عن العمل فقد لزمه إثم التقصير , و ضاع منه أجر الجهاد و حرم الإفادة قطعا , فأي الفريقين خير مقاما و أحسن نديا ؟ و قد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في صراحة و وضوح في الآية الكريمة : (وَ إِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ , فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ) (الأعراف:164-165).

قصة أمة تتكون

ضعف

نحن الآن أمام جبار متكبر يستعبد عباد الله و يستضعفهم و يتخذهم خدما و حشما و عبيدا و خولا , و بين شعب من الشعوب الكريمة المجيدة استعبده ذلك الطاغية الجبار , ثم أراد الله تبارك تعالى أن يعيد لهذا الشعب المجيد حريته المسلوبة و كرامته المغصوبة و مجده الضائع و عزه البائد , فكان أول شعاع من فجر حرية هذا الشعب إشراق شمس زعيمه العظيم (موسى ) على الوجود طفلا رضيعا :

(نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ , إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ , وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِين وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ) (القصص:3-5).

زعامة

و نحن بعد هذا أمام هذا الزعيم و قد بلغ أشده و استوى , و تولته العناية الإلهية , بعد أن أنفت نفسه الظلم و عافت الضيم , ففر بنفسه و هرب بحريته , حيث اصطنعه الله لنفسه و حمله عبء رسالته , و أسند إليه خلاص شعبه , فآب مملوءا بالإيمان مؤيدا باليقين , يواجه ذلك الجبار فيطلب إليه أن يعيد إلى شعبه حريته و يترك له كرامته و يؤمن به و يتبعه . و ما أروع ذلك التهكم المر اللاذع حين يحكي القرآن الكريم قول الرسول العظيم (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إسرائيل) (الشعراء:22).

أيها الجبار المتحكم في عباد الله لا عبادك , هل من النعمة التي تذكرنا بها و الجميل الذي تسديه إلي أن تستعبد شعبي و تحقر أمتي و تمتهن قومي ؟ إنها صيحة الحق دوت من فم النبي الكريم فزلزلت عرش الجبار و هزت ملكه :

(فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ , أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إسرائيل , قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ , وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ , فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (الشعراء:16-21).

صراع

و نحن الآن نشهد غضبة القوة على الحق كيف تثور عليه و تنتقم منه و تعذب أهله و تقهر مناصريه , ثم كيف يصبر أهل الحق على كل ذلك , و كيف يعللهم رؤساؤهم بالآمال الحلوة و الأماني العزبة حتى لا يجد الخور إلى نفوسهم سبيلا :

(وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِـي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ , قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (الأعراف:127-128) .

إيمان

و ما أروع أن نشهد ذلك النموذج الخالد من الثبات و الصبر , و الاستمساك بعروة الحق , و الاستهانة بكل شيء حتى الحياة في سبيل الإيمان و العقيدة من أتباع هذا الزعيم الذين آمنوا بدعوته , و قد تحدوا هذا الجبار في استهانة و استماتة :

(فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا , إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (طه:72-73) .

انتصار

فإذا رأينا كل ذلك رأينا عاقبته في القسم الخامس و ما أدراك ما هي ؟ فوز و فلاح و انتصار و نجاح و بشرى تزف إلى المهضومين , و أمل يتحقق للحالمين , و صيحة الحق المبين تدوي في آفاق الأرض :

(يَا بَنِي إسرائيل قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ) (طه:80)