هل هناك علاقة بين الإبداع والمحنة؟

بقلم/ سكينة إبراهيم

تشير الدراسات الحديثة إلي أن الإبداع ليس مردافا للذكاء الخارق أو العبقرية التي لا يمكن مضارعتها؛ وإنما هو في أحد أهم معانيه نمط من التفكير يمكن للكثيرين تعلمه ومن ثم ممارسته والإنتاج من خلاله. وهذا مما لا يخالف المعني اللغوي الذي يذهب إلي أنه “اختراع علي غير مثال” (لسان العرب: 229)، لأن هذا المعني اللغوي إنما يشير إلي المُنتج، وليس إلي مستويات ذكاء؛ من ثم فالتعريف يحدو بنا إلي البحث عن كيفية الوصول إلي هذا الإنجاز المخالف للتقليد والمثال، وذلك بالتركيز علي فهم ماهية “العملية الإبداعية” نفسها والتي تثمر هذا الفعل..

فقد أكد أحد الباحثين في رسالته للماجيستير عام 2011 ((خراز الأخضر : دور الإبداع في اكتساب المؤسسة ميزة تنافسية)) “1” أن :” الإبداع توليفة تندمج فيها العمليات العقلية والمعرفية ونمط التفكير والشخصية والدافعية والبيئة” كما رأي أن: “الإبداع قدرة موجودة لدي جميع الأفراد كالذكاء وأنه يتوزع وفق منحني التوزيع السوي للقدرات العقلية..”.

وهذه التعريفات تعني في الأساس أن “الإنسان”-أي إنسان- هو حجر الزاوية في العملية الإبداعية، كما تعني أيضا أن المنتج الإبداعي إنما هو رهن بعدد من العمليات العقلية والمعرفية التي يتوجب علي الفرد القيام بها، وبذل الجهد فيها وليس مجرد ملكات أو مواهب فطرية -مع عدم إغفال دور تلك الملكات بالطبع-..حيث أشارت دراسة أخري ((برافين جوبتا :الإبداع في القرن الحادي والشعرين)) إلي أن: ” الإبداع إنما يتطور من خلال عملية مخططة كما أنه منظومة يمكن التنبؤ بها” “2”..

 

ويهمنا هنا كيفية عمل ترابط بين هذا الإبداع وبين المحنة؛ ويكمن هذا بداية في أن النظريات التي حاولت أن تقدم نماذج عملية لمراحل الإبداع قد ركزت علي أن أولي المراحل الإبداعية هو “وجود المشكلة” أو الإحساس بها، وعادة ما تفسر “المشكلة” بأنها هي القضية محل البحث، فإذا كانت المشكلة هي “محنة” حقيقة كان الأمر أدعي لاستفزاز كل الكوامن والطاقات العقلية الإنسانية من أجل التعامل معها والتفكير الغير تقليدي للمواجهة، وهذا يعني أن العبء الأول إنما يقع علي طبيعة تلقي الفرد للمحنة التي تواجهه؛ فإذا ضاق بها صدره وفزع منها للوهلة الأولي، مخالفا الوصية الشرعية بالصبر عند الصدمة الأولي “3”، حينها سوف يُغم عليه عقله و يعجز عن التعاطي معها أو التفكير في تجاوزها، أما إذا قابل الإنسان المحنة بصبر وروية استطاع حينها الانتقال إلي المرحلة الثانية في العملية الإبداعية وهي استدعاء مهارات التفكير والإدراك التقليدية، ثم الانتقال منها إلي المهارات الغير تقليدية، والأخيرة تلك هي التي تتطلب جهد، قراءة، دراسة وتعرض لتجارب وممارسات تاريخية وخبرات حياتية متنوعة مع إعمال أية مواهب خاصة. وهذا يعود بنا إلي أن البطل الأول في الإبداع المواجه للمحنة هو الإنسان نفسه بما يتشبع به في الأساس من المشكلة أو المحنة بحيث تملأ عليه تفكيره شعورا ومعارفا، فتبيت هي “همه”، بمعني أنها جل ما يشغله. ثم تأتي بعد ذلك مراحل الفراغ من التفكير النمطي، يليها بناء معارف خاصة للانتقال للمرحلة الغير تقليدية..

*****

يجدر بنا الآن الانتقال من مرحلة تقبل المحنة والتعامل معها، إلي المرحلة التي يعمل فيها الإبداع علي إنتاج الفعل المقاوم نفسه، ومن التجارب التاريخية الهامة في ذلك؛ تلك الظروف التي أنتج فيها “جان جاك روسو” نظريته في العقد الإجتماعي؛ حيث عاش “روسو” حياة التشرد والفقر، وعاني مثل غيره من نظام الإقطاع والطبقية في المجتمع الفرنسي، ثم قرأ عن إحدي المسابقات في الكتابة والتأليف فقرر الإشتراك فيها، وتقديم منتج مختلف، وبالفعل فقد فاز مؤلفه عن “العقد الإجتماعي” بالجائزة الأولي في تلك المسابقة وتشجع بعدها “روسو” علي الاستمرار في احتراف الكتابة والتأليف والتنظير للمجتمع الجديد المنشود، وبعيدا عن مناقشة ما جاء في تلك النظرية من آراء ربما نختلف معها؛ إذ أن الطبيعة التعاقدية المفترضة بين الدولة والمواطنين لحفظ الحقوق تجعل لمن يمكنه التعاقد علي شيء أن يتنازل عنه أيضا، في حين أن هذه الحقوق نفسها في الرؤية الإسلامية هي فروض وواجبات علي الأفراد والدولة ((محاضرة للدكتور محمد عمارة)) في آن واحد ولا يمكن لأحد التذرع بملكيتها من أجل التنازل عنها، وهما معا “الدولة والفرد” تحت سيادة الشريعة التي تحكم علي كلاهما، وعلي أية حال فـ “روسو” كان يريد حفظ حقوق الأفراد ويرفض الحق المقدس للملوك، والمهم في قصة أطروحة العقد الاجتماعي، أن هذا المؤلف والمنظر الكبير قد أمضي بقية عمره وهو علي حال أقرب للنفي والنبذ، حيث كانت أحد مؤلفاته -“إيمل” والذي أنكر فيه الوحي مع إعترافه بوجود إله-، سببا في الحكم عليه والسعي في طلبه من أجل اعتقاله، مما جعله يمضي ما يزيد عن ثلاثة عشر عاما هي الأخيرة من عمره مطاردا هاربا من بطش السلطات، ثم ما لبثت الثورة الفرنسية أن انطلقت بعد وفاة “روسو” بنحو احدي عشر عاما، فاتخذت من “العقد الاجتماعي” إطارا مرجعيا ودستورا لها، واحتفت بهذا المؤلف المطارد الشريد ولكن بعد وفاته..ومازالت تلك النظرية تُدَرس في كافة جامعات ومعاهد العالم. في حين أنها كانت وقت إنتاجها ليست أكثر من مجرد أطروحة جاءت من أسفل الهرم الطبقي، و استجابت للمشكلات المحيطة بشكل مختلف “4”..

لقد كان إنتاج نظرية فكرية حالة من حالات المقاومة للوضع الإجتماعي والسياسي المحيط، حتي وإن لم يؤدي إنتاجها المباشر إلي التغيير الإجتماعي العاجل، لكن أوانها قد جاء بعد ذلك بسنوات..

*****

ولسنا نبحث هنا عن منتجات غير عادية، ولكن هناك من الأفعال ما يبدو بسيطا لكنه اتبع آليات الإنتاج الإبداعي؛ فمبادرة “الحُباب بن المنذر” واقتراحه تغيير موقع المسلمين في موقعة “بدر” كانت فعلا ابداعيا، كما كانت الوقيعة بين قريش واليهود التي استخدمها “نعيم ابن مسعود” إبان غزوة الخندق أيضا فعلا إبداعيا..

إن المناظرة بين نبي الله تعالي “إبراهيم” -عليه السلام- وبين الكافر الذي أراد محاجته، والتي جاءت في قوله تعالي:” أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ”.[البقرة: 258] إنما كانت مجرد المحاورة والرد غير المتوقع فعلا إبداعيا مقاوما استخدم المنطق والحجة وباغت بهما حتي انتصر..

والحقيقة أن القرآن الكريم به ما هو أكبر من مجرد نماذج أو أمثلة للإبداع المقاوم، بل فيه تأكيد علي أهمية المواجهة مهما كانت حالة الضعف التي عليها أصحاب الحق، فقط ستكون لتلك المواجهات آليات وأساليب أخري تحتاج إلي الحكمة وإلي التفكير وبذل الجهد، فقد أوحي الله تعالي لأم موسي أن تلقي بوليدها في اليم، وبالطبع فقد كانت يد العناية الإلهية هي التي تدبر الأمر وتقدر له، لكن هذا لا يفوت علينا إدراك أن العناية الإلهية التي كانت قادرة علي إنقاذ الطفل الضعيف وأهله، قد وضعت لنا عددا من القواعد الهامة تحملها لنا تلك القصة، أولها هو الإصرار علي المواجهة وليس الفرار منها مهما كان الوضع أو صعوبته، أما الأمر الثاني فهو استخدام وسائل وحيل ربما تكون هي الأنسب في ظروف معينة، بحيث تحقق الغرض في المقاومة والرفض للظلم، وفي الوقت نفسه تراعي الظرف وتحسن تقديره بحكمة، ما يمكنها بعد ذلك من التأهب للمستقبل وصناعته.

وهو ما يتأكد بشكل أكثر وضوحا في قصة السفينة والرجل الصالح الذي خرقها حتي ينجي أصحابها من الملك الظالم كما في قوله تعالي:” أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا “.[الكهف: 79]، فوجود قوم من المساكين بما تحمله هذه الكلمة من معاني الضعف و الفقر والحاجة؛ فكل هذا لم يكن مبررا للتخلي عن السفينة وتركها للظالم بذريعة الضعف والمسكنة، وإنما كان هناك فعلا مقاوما ملائما للموقف وهو إعابة السفينة حتي تمر من يد الظالم فيمكنهم بعد ذلك إصلاحها والإنتفاع بها، فدلنا ذلك علي المواجهة وعدم الإستسلام مهما كانت الظروف، كما دلنا في الوقت نفسه علي إنتخاب فعل مقاوم يلائم الظرف حتي يحقق المأرب منه..

 

** الهوامش:

  • خراز الأخضر :”دور الإبداع في اكتساب المؤسسة ميزة تنافسية”، رسالة ماجيستير متاحة إلكترونيا، كلية العلوم الاقتصادية والتجارية وعلوم التيسير، جامعة أبي بكر بلقايد، الجزائر، 2011م، ص 28.
  • برافين جوبتا ترجمة د. أحمد المغربي-الإبداع في القرن الحادي والشعرين-دار الفجر للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، ط 2008، ص 13.
  • جاء في الحديث الشريف:”إنما الصبر عند الصدمة الأولى” رواه البخاري ومسلم.
  • أنظر:جان جاك روسو، ترجمة عادل زعيتر:” العقد الاجتماعي-مباديء الحقوق السياسية”، دار العالم العربي، القاهرة، الطبعة الخامسة، 2010