استدعى المندوب السامي الفرنسي- في الجزائر- الشيخ عبد الحميد الجزائري، أحد علماء الجزائر المجاهدين، وقال له: إما أن تُقلع عن تلقين تلاميذك هذه الأفكار، وإلا أرسلت جنوداً لإغلاق المسجد الذي تنفث فيه هذه السموم ضدنا، وإخماد أصواتك المنكرة.

فأجاب الشيخ عبد الحميد: أيها المسيو الحاكم، إنك لا تستطيع ذلك.

واستشاط المسيو غضباً، وقال: كيف لا أستطيع؟.

قال الشيخ:

إذا كنتُ في عُرسٍ علّمتُ المحتفلين، وإذا كنتُ في مأتمٍ وعظتُ المعزِّين، وإن جلستُ في قطارٍ علّمتُ المسافرين، وإن دخلتُ السجن أرشدتُ المسجونين، وإن قتلتموني ألهبتُ مشاعرَ المواطنين، وخيرٌ لك أيها المسيو ألا تتعرض للأمة في دينها ولغتها.

موقفه مع أحد ضباط المخابرات الكبار:

وكنا مع الشيخ عبد الحميد بن باديس في مكتب التربية والتعليم سنة 1939، والحرب قائمة، وقد طلب الإذن أحد ضباط المخابرات الفرنسية على مستوى الشمال الإفريقي، فأذن له بالدخول فدخل، وحي وصافح الجميع. ثم جلس وعرف نفسه فرحب به الشيخ بما تقتضيه اللياقة عادة،
ثم دار الحديث بينهما حول الكتب التي تدرس للطلبة، وكان الشيخ يجيبه، ثم تطرق السائل إلى الحديث عن علماء المسلمين بصفة خاصة بالأندلس، يريد بذلك أن يعرف ما عند الأستاذ من الإطلاع على التراث العربي في الأندلس.

فاستوى الأستاذ في المجلس، وأفاض في الحديث عن العلوم، والمعارف، والمؤلفات، والمؤلفين، وعن الحضارة التي ازدهرت في ربوع الأندلس، والتي منها استفادت أوروبا، وخرجت من ظلمات الجهل، والتخلف بفضل ما قرأوه من هذه المؤلفات بعد ترجمتها. وقد ضرب لذلك أمثلة كثيرة، لما أخذته أوروبا عن العرب والعربية !

وكان الرجل مندهشا لما يسمع من الشيخ، معجبا باطلاعه الواسع. ثم علا صوت الشيخ في شيء من الحدة قائلا: هذا هو اللسان الذي تريد فرنسا أن تقطعه بعد ما استفادت منه أكثر من غيرها، أهذا هو الجزاء؟فظهر على الضيف شيء من الخجل والحياء وقال: إن فرنسا لا تنوي شرا نحو اللغة العربية، وهي تعرف فضلها، ولكن المسألة لا تعدو أكثر من أن تكون سوء مفاهمة.
وما جئت إلا لأحدثكم في هذا الموضوع، وعسى أن تنقشع الغيوم بينكم وبين الإدارة. ثم سكت ونظر إلى الشيخ طويلا !فهم منه الشيخ، أنه يريد أن يضيف شيئا آخر فقال: وماذا بعد؟فقال: أريد أن أتحدث إليكم على انفراد !فانتفض الشيخ وقال: إن هؤلاء إخواني وشركائي، وليس لي شيء أختص به دونهم !فبهت الذي كفر، وطلب الإذن بالخروج، وخرج !

آخر موقف ختم به حياته:

كان آخر موقف للإمام الأستاذ ابن باديس – رحمه الله – هو ذلك الموقف المشرف، الذي ختم به حياته المليئة بالأعمال الصالحة…فقد كانت آخر محاولة الإدارة الاستعمارية: زيارة (والي قسنطينة) للأستاذ في مرضه الذي توفى فيه. وكان في دار والده.وفي هذه الزيارة عرض (الوالي) عليه: أن يصرح بأنه نادم على زج جمعية العلماء في السياسة كما يقال، وأنه لا يحمل حقدا لفرنسا !وهنا حاول الأستاذ القيام، وقال في غضب: أخرجوني من هنا، أو أخرجوه ! فقام (الوالي) وخرج يتعثر في أذيال الخيبة والهزيمة !ولفظ الإمام أنفاسه في ذلك اليوم، فمات رحمه الله، ولم تنل الإدارة الاستعمارية أدنى تنازل عن حربه ومقاومته لها !