تتميز التربية عندنا بأنها واقعية، إنها تتعامل مع الكينونة الإنسانية كلها، وتعترف بالتفاوت الطبيعي بين الأفراد، وهي تقر التدرج، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن المُنبَتَّ لا أرضًا قَطَعَ ولا ظَهْرًا أبقَى)).

وليس من التربية في شيء الظن بأنك تملك آلة تتعامل مع مادة خام هي فرد من المجتمع، فتخرجه لنا بعد إجراء مسلسل العمليات التربوية عليه أخًا من الإخوان هذا المنظور الآلي الهندسي يصلح لآلات تنتج مثلاً المسامير القلاووظ بمقاسات محددة، أو آلات تنتج صواميل بمقاسات أخرى، مثل هذه الآلات إذا ألقمتها حديدًا من ناحية أخرجت لك المسمار أو الصامولة النمطية المطابقة للمواصفات من الناحية الأخرى، وكلما زودتها بالحديد الخام كلما أنتجت لك ذات المنتج، أما في عملية الإنتاج التربوي عندنا فالأمر مختلف فالعملية التربوية تتعامل مع البشر وما فيهم من تفاوت.

والعملية التربوية عندنا في الحقيقة هي أقرب للنموذج الزراعي منها للنموذج الصناعي، والمربي عندنا يسلك أساليب الفلاح ويسير سيرته أكثر مما ينهج نهج العامل الفني أو المهندس أو الصانع، فالعملية التربوية أشبه بالزراعة منها بالصناعة.
الفلاح حين يريد الزراعة لا يرضى بأية أرض أو حقل، لكنه يختار من الحقول المتاحة أو الأراضي الموجودة أرضًا ذات خصوبة، والمربي أيضًا يختار الحقل الذي يعمل فيه حقلاً خصبًا مناسبًا، والفلاح حين يبذر البذور ينتقي البذور الجيدة، ينتقي البذرة القوية الممتلئة، ينتقي المشدودة اللامعة، ويستبعد البذور المكسورة وما شابهها، فهذه الأخيرة قد تصلح لطعامه أو طعام ماشيته، لكنها لا تصلح للتربية والإنبات، والبذور الصالحة هي التي تسمَّى البذور المنتقاة، والمربي كذلك، بعد أن يدقق في اختيار الحقل يتقن انتقاء بذوره التي سيبذل وقته وجهده في تعهدها بالتربية. والفلاح لا يرمي بالبذرة في الأرض ثم ينساها، لكنه يتعهدها بالري ويتعهدها بالسماد الذي هو الغذاء، والمربي أيضًا لا بد له من أن يتعهد الأفراد بالري الذي هو الروحانيات، والغذاء الذي هو الفهم والعلم والإرشاد، وكما أن الفلاح يوقن تمام اليقين أنه ليس كل بذرة جيدة زرعت فسقيت الماء وزودت بالسماد سوف تنبت بالضرورة، وكما أنه يُرجِع الإذن بالإنبات إلى خالق الأرض والسماوات، فتراه عندما يرجع إلى بيته يدعو الله عز وجل أن يشمل الزرع بعنايته وأن يأذن بنباته، فكذلك المربي، المربي عندنا لا يكون مربيًّا حتى يخلو إلى ربه عز وجل ثم يدعو لبذوره بظاهر الغيب، ثم ليعلم أن التربية مثل الزراعة، ستنبت فيها بعض البذور ولن تنبت أخرى، ومن لم يفعل ذلك فقد يكون ممن يجمعون لحزب أو فكرة أو مذهب، لكنه أبدًا لن يكون مربيًا في حركة إسلامية صميمة ترتكز على الربانية. وعندما تنبت النباتات التي أذن الله تعالى لها بالإنبات، فإن الفلاح يحوطها من كل جوانبها، وتراه يعزل عنها كل الحشائش الضارة التي تظهر من حولها لتشاركها في غذائها أو لتحرمها منه، وكذلك المربي يحوط من يرعاهم، وينقي الوسط من حولهم في أيامهم الأولى، حتى تصح البدايات ويصل الري والزاد، ومع كل ذلك يجد الفلاح نباتات قوية وأخرى ضعيفة، وكذلك المربي عندنا عليه أن يهيئ نفسه لقبول هذه الحقيقة، أن الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة، المربي عليه أن يُكيِّف نفسه مع الواقع، وعليه أن يتقبل أن يظهر عنده أفراد أقوياء وأفراد ضعفاء، رغم اشتراكهم في الحقل والري والزاد والعناية والرعاية.
والنباتات القوية أيضًا تتفاوت، وكذلك الأفراد في مسيرتهم التربوية، فبعض النباتات تزهر وينتشر أريجها وبعضها لا يزهر، وكذلك الأفراد بعضهم يظهر في الدعوة وبعضهم لا يظهر، وبعض الزهور تنعقد ثمارًا بينما يتساقط البعض الآخر من الزهور دون أن يثمر، وكذلك الأفراد الذين ظهروا كالزهور في هذه الدعوة، بعضهم يتساقط وبعضهم يتماسك، حتى يكون ثمرة من ثمار الدعوة، فلا يجزع المربي لتساقط المتساقطين، وحتى الثمار في عالم النبات، بعضها يكون حلو الطعم وبعضها لا طعم له، وأيضا ثمار الدعوة من الأفراد تتفاوت، وفي عالم الزراعة إذا أخذت الثمار الحلوة فلابد من أن توالي تقليبها وتهويتها وتحريكها، وإن غفل الإنسان عن ذلك فإن العطب قد يتسرب إلى الثمار الحلوة التي لا يتم تحريكها، لذلك ترى الفاكهي دائمًا مشغولاً بتقليب الثمار التي يعرضها، وكذلك المربي لا يغفل عن تحريك الثمار التي أنعم الله بها عليه. وكما في النموذج الزراعي عندما يستخرج الفلاح من الثمار الجيدة بذورًا ليعيد دورة الإنبات مرة أخرى، فإنه يجد دائمًا أن هناك من البذور بذورًا تنتج وأخرى لا تنتج، وهذا بالضبط ما يراه المربي، يرى أفرادًا تحمل الدعوة وتنتج فيها وتجلب إليها العناصر، ويرى أفرادًا آخرين لا يستطيعون ذلك، عندها يعرف أن الناس في هذه الدعوة إما منتجون لها أو هم خادمون لأهدافها، والناس في هذه الدعوة إما حاملون لها أو محمولون عليها، ناس يحملون الدعوة، وآخرون تحملهم الدعوة. أليست التربية في دعوتنا قريبة الشبه جدًّا من الزراعة؟!