هذه العبادة العظيمة التي غفل عنها الكثيرون هي التفكر والتأمل، إعمال الخاطر في الشيء، النظر والتثبت فيه، تدقيق النظر في آيات الله المسطورة في كتابه والمنثورة في كونه، والمنثورة في خلقه بغرض الاتعاظ والتذكر، وأخذ العبرة ومعرفة الحكم، التدبر والتأمل والتفكر.

هي من أرقِّ العبادات وأجملها، ذات قيمة علمية عالية وراقية.. فهي صفاءٌ للنفس والروح والقلب.. تشعرك بجلال الله وعظمته وعزّته.. فالتفكر هو حب لله.. هو اتصال مباشر بين العبد وربه، وشرط هذه العبادة ألاّ تصبح عادة.. فهناك من الناس من يألف خلق الله وآياته في الكون فتصبح هذه العبادة عنده عادة.
فتعالوا معنا إذن لنركب زورق التفكر فنخوضُ عُبابَ البحر لنحظى بنفيس ذخائر هذه العبادة، ونستخرج لآلئها البراقة، ونتعرف على قيمتها ومليح عِبرها، وقبلها سنحلق قليلًا في فضاء لغتنا الحبيبة لنتعرف على الفرق بين كل من التأمل والتفكر والتدبر،

التفكر يُوصِل إلى محبة الرحمن، وإرضاء الديان، وانشراح الصدر وصلاحه، وفوزه ونجاحه، التفكر يورث المحبة والخوف والرجاء، والخشية والاستحياء، به تحيا القلوب، وتُستر العيوب، ويزول المكروب، التفكر فيه نجاح الأمور، وصلاح الدور، والأنس والسرور.

هي عبادةٌ عظيمةٌ مجهولة، وعند البعض مفقودة، عبادةٌ قلبية وهي معك في جميع تقلباتك الحياتية، عبادة لا تحتاج إلى عناء، ولا وقت ولا مكان، ولا زمان، هي معك في إقامتك وسفرك، في صحتك ومرضك، في شبابك وهرمك، في ليلك ونهارك، حتى وأنت على فراشك فهي معك.

عبادةٌ أعظم مقوٍ للإيمان ورادعةٌ عن العصيان، وجالبةٌ لمحبة الرحمن، وطاردةٌ للوساوس والشيطان، سبحان الله عجيبةٌ غريبة وهي بهذه المثابة، عجِّل لنا أيها الخطيب فالنفوس تشتاق وتطيب، والأبصار تُطل وتغيب علَّ الله أن ينفعنا ويُجيب.

 هي عبادة لا تأخذ من وقتك، ولا مالك، ولا يومك، إنها عبادة التفكُّر في مخلوقات الله وآياته يُسميها العلماء العبادة الصامتة.

التفكُّر هو: التأمل وإعمال الخاطر في الشيء، فهو تصرف القلب في معاني الأشياء لدرك المطلوب.

التفكُّر من أعظم العبادات القلبية، بل هو المغذِّي لأعمال القلوب والجوارح، ومحرِّك القلوب والجوارح للمصالح ودرء القبائح، فهو داءٌ وسلاحٌ ناجح.

 يقول ابن القيم -رحمه الله-: “أصل الخير والشر من قِبل التفكُّر فإن الفكر مبدأ الإرادة، التفكُّر والنظر وأخذ التأمل والمعتبر تكرر في القرآن على أوجهٍ متنوعة متعددة، وموارد مختلفة”.

 قال الغزالي -رحمه الله-: “كثر الحث في كتاب الله على التدبر والاعتبار والنظر والافتكار، ولا يخفى أن الفكر هو مفتاح الأنوار، ومبدأ الاستبصار، وهو شبكة العلوم، ومصيدة المعارف والفهوم، وأكثر الناس قد عرفوا فضله ورُتبته، لكن جهلوا حقيقته وثمرته ومصدره“. انتهى.

 نعم كثيرٌ من الناس يعرف فضل التفكُّر وما يُثمر، لكن جهلوا الحقيقة والأثر، فأصبحت عبادةٌ مجهولةٌ مفقودة.

 فقد قال ابن القيم: “وأحسن ما أُنفِقت فيه الأنفاس التفكُّر في آيات الله وعجائب صُنعه“.

ومما يجدر التنبيه عليه: أن التفكر في كل شيءٍ مطلوب إلا التفكر في علام الغيوب، فذلك ممنوعٌ مرهوب.

 وقد كانت عبادة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حينما كان يتعبد في غار حراء التفكر والتدبر، فيخلو بنفسه، ويتفكر في مخلوقات ربه، وكان من هَديه عند الاستيقاظ من نومه يتلو آيات ربه، ويتفكر في عظمة خالقه.