التوازن والمرونة ومنزلق التطويع

د. محمد عبد الرحمن *

حول التوازن بين التكوين والحركة أو بين الفرد والجماعة

تميزت دعوة الإمام الشهيد بتحقيق هذا التوازن والإحاطة الكاملة لمتطلبات الدعوة والحركة سواء على مستوى الأفراد أو الجماعة ككل، فيقول موضحاً ذلك: “إن هذه الدعوة لا يصلح لها إلا مَن حاطها من كل جوانبها” .

ومع اهتمام الإمام الشهيد بالتربية وتكوين الأفراد وإصلاح حالهم وتقدير متطلبات نموهم، فإنه لا يحولهم إلى رموز جامدة منغلقة، أو أن يتم تكوينهم في حجرات مغلقة، وإنما انطلق بهم في المجتمع لإبلاغ الدعوة وإرشاد الأمة إلى معالم الإسلام وأخلاقه، وجعل المسجد هو أصل الانطلاقة وعاد به إلى دوره الأول في الإسلام، مع عدم إهماله لوسائل الدعوة الأخرى ومؤسسات المجتمع المتنوعة كميدان للدعوة والإصلاح وجعل من واجبات الأخ في مراتب العمل أنه مع إصلاح نفسه وتكوين البيت المسلم، عليه في نفس الوقت التحرك داخل المجتمع وإرشاده وإصلاح المفاهيم والسلوكيات وكسب المتعاطفين ونشر الدعوة، ولم يجعل ذلك أمراً لاحقاً أو مرحلة مؤجلة لحين استكمال التكوين.

وأوضح الإمام في ذلك أن محاور الدعوة من التعريف بها والتكوين لأنصارها والتنفيذ لوسائلها وحركتها، لا تنفصل عن بعضها البعض بل تسير متعاونة متساندة، إن أي نشاط أو فعالية لاكتمال الفائدة منها يجب أن تتحقق فيها هذه الجوانب الثلاث “التعريف” فنحدد الرسالة الدعوية التي يحملها هذا النشاط..”والتكوين” فنحدد مستهدفاً في التكوين والتربية يتحقق بها الأفراد في حركتهم ونشاطهم ونعالج السلبيات التي تظهر عندهم..”وفي التنفيذ” إتقان العمل واكتساب الخبرة والمهارة في تنفيذ هذا النشاط.

ولهذا كان التركيز على الأفراد يسير متوازياً مع بناء الجماعة وحركتها في المجتمع، ووجودها في ساحة التأثير والإصلاح والتغيير حتى تؤول لها الريادة وتقترب من تحقيق أهدافها الشاملة التي أشار لها ركن العمل في رسالة التعاليم.

ولم يكن هذا مجرد تصور نظري بل حوله الإمام الشهيد إلى برنامج عملي وخطة متكاملة متعددة المراحل تسير عليها الجماعة في توازن بين الداخل والخارج، بين متطلبات التربية وواجبات الإصلاح والحركة في المجتمع ومواجهة الأحداث وقيادة الأمة فيها.

وها هو الإمام منذ الأيام الأولى للدعوة – وهي في مهدها – يمارس الإصلاح والدعوة بالمجتمع في نفس وقت تربية وتكوين الأفراد، وتشهد بذلك دار التائبات بالإسماعيلية، والحركة الدعوية الواسعة بين عمال شركة قناة السويس، ثم كذلك نراه في حركة الجماعة بالمجتمع وإيقاظ الأمة ضد الاحتلال الإنجليزي وتجاه قضية فلسطين والخطر اليهودي، والمساهمة الفعالة في مواجهة هذا الخطر، وتقديم الشهداء والتضحيات في سبيل ذلك.

إن دعوة الإخوان ليست دعوة سرية أو دعوة انغلاقية أو دعوة محدودة التأثير والمكان أو محدودة المقاصد والأهداف، وإنما هي تحمل مشروعاً إسلامياً متكاملاً على منهج النبوة لنهضة الأمة الإسلامية في العالم أجمع.

وتأتى أوقات وأحداث على الجماعة، فتشهد إقبالاً متزايداً من الناس أو فرصاً مواتية لنشر الدعوة والتحرك بها من مجال إلى آخر أرحب، أو من مستوى لمستوى أعلى، يحدث ذلك أحيانًا بغير ترتيب وإعداد داخلي كامل مسبق ويصبح مطلوبا في حينها تطوير الدعوة لمواجهتها، واستيعاب هذا الإقبال أو الاستفادة من تلك الفرص والمجالات، وليس القعود والتردد بحجة أن هذا لم يكن جاهزاً في التخطيط السابق، أو أن الأفراد لم يستكملوا الاستعداد الداخلي اللازم، ومواجهة المتغيرات والمستجدات.

فالفرصة لا تنتظر متردداً أو قاعداً، طالما أن ذلك يسير في الاتجاه العام للدعوة ويحقق لها المصلحة.

وقد تأتي أحداث تفرض نفسها على الجماعة بحكم وجودها وقيادتها للمجتمع، مما يتطلب مواقف وفعاليات قد تكون أكبر من حجمها أو إمكاناتها الحقيقية، وفي هذه الحالة تتحمل الجماعة مسئوليتها ولا تتخلى عن واجباتها تجاه الأحداث، لكن مع تحديد دقيق للمستهدفات والتكاليف والإجراءات المطلوبة،والتفرقة بين الممكن والمستحيل،وعدم خروج ذلك عن الخطة العامة ومسار الدعوة في أساسه.

أما التحجج بعدم الانشغال بذلك لحين استكمال تكوين الأفراد وتربيتهم، فهذا تصور ناقص للدعوة يخرجها من ساحة التأثير ويضعف دورها داخل المجتمع، وهو أيضاً لا يحقق التكوين التربوي الصحيح للأفراد بإبعادهم وانغلاقهم في هذه الأحوال، كما أنه تصور يخالف المسار الدعوى العملي في حياة الإمام الشهيد.

ومن الخطأ أيضاً في هذا المجال أن ينغمس الأفراد في الحركة والنشاط ومواجهة الأحداث والمواقف دون وضوح رؤية عندهم، واستيعاب لأهداف دعوتهم وحركتهم، وقدرة على الاستفادة من الواقع المحيط ومن المستجدات لصالح خطتهم ومسيرتهم، أو أن تشغلنا الحركة والنشاط عن التركيز والتكوين التربوي للأفراد واكتساب العناصر الجديدة للصف، بل تستفيد من كل ذلك في تعميق وتحقيق هذا التكوين المنشود، ولا تصرفنا الحركة مع المستجدات عن خطتنا الرئيسية بل نحول نتائجها لصالح الدعوة.

وإن الميزان الضابط لهذا التوازن، يكون بيد مؤسسات الجماعة وقيادتها وليس وفق رؤية شخصية أو مرجعية فردية .

وبالنسبة لتساؤل قد يطرحه البعض، هل تشكل الجماعة وسيلة أم غاية؟ فإن الرؤية الواضحة المنطلقة من الباعث للدعوة تؤكد أن الجماعة ليست وسيلة ولا غاية، وإنما هي فريضة واجبة لتحقيق التكليف الشرعي وهي تظل قائمة ما دام التكليف الشرعي الباعث على إنشائها لم ينتف، ويخطئ البعض حين يظن أن التكوين التربوي للأفراد مرحلة وأن العمل مع المجتمع مرحلة تالية قد دخلنا إطارها وفعالياتها، فالعمل مع النفس والمجتمع وحدة واحدة ووجهان لعملة واحدة لا ينفصلان، يسيران معاً ويتبادلان التأثير، فإيمان الفرد وإبلاغه الرسالة للناس واجب عليه حتى ولو فقه آية واحدة من كتاب الله، ومراتب العمل التي أشار إليها الإمام الشهيد من تكوين وإصلاح الفرد والبيت والمجتمع، هي مراتب متوازية مترابطة وليست مراحل تنتقل فيها الدعوة من مرحلة إلى أخرى، لكن الفعاليات والوسائل المستخدمة قد تشهد اتساعاً أو ضيقاً أو تطويراً حسب المناخ والأحوال والظروف التي تمر بها الجماعة في أي محور من المحاور.

ومن الأمور الهامة في الفهم والعمل وخاصة من يشارك بدرجة كبيرة في فعاليات إصلاح المجتمع، ألا ينسى الجماعة وأهدافها والعمل على تقوية دعائمها وترسيخ أساسها والارتفاع ببنائها، وأن يقدمها عند اختياراته ويجعلها المرجعية في مسار حياته وحركته. فهي الركيزة الأساسية لأي إصلاح نريد منه أن يصب في تحقيق الأهداف الكبرى، وهي القاعدة الصلبة التي تقود وتوجه وتصمد في مواجهة الضغوط والمعوقات، وتضمن عدم الانحراف والزوغان عن الطريق المستقيم،ولا يجوز لمن يعمل في صفها أن يقول لقد تجاوزنا مرحلة الجماعة والتركيز عليها إلى مرحلة المجتمع.

إن أي ذوبان للجماعة أو إضعاف لبنائها أو إهمال لكيانها ونموها أو إضعاف لدورها القيادي في الدعوة بأي حجة من الحجج، لهو بمثابة ضربة موجهة إلى الأهداف الإسلامية الكبرى وإلى المشروع الإسلامي لنهضة الأمة واستعادة كيانها ودورها القيادي في العالم.

بهذا التوازن بين التكوين والحركة، بين الداخل والخارج- أو بين متطلبات الفرد ومتطلبات الجماعة في ساحة التأثير والحركة تشق الدعوة طريقها، وبهذه القدرة على استيعاب المتغيرات والمستجدات وترقب الأحداث واقتناص الفرص تسير الجماعة نحو تحقيق أهدافها دون خلل أو ضعف أو توقف أو انحراف عن الأصول والأهداف الأساسية للدعوة.

كما يلاحظ أن تنظيم جماعة الإخوان والأسس التي أرساها الإمام الشهيد في تكوينه كانت بفضل الله من القوة والإحكام ما جعلها تصمد طوال هذه السنين وتعبر العديد من الأزمات وتتحمل كل هذه الضغوط والمؤامرات،وقد جعل هذا الشهيد سيد قطب عند كتابته عن الإمام البنا يصف ذلك بعبقرية البناء.

فالإمام الشهيد لم يكن يحمل مثل غيره من المصلحين أفكاراً ومناهج ويقف عند ذلك بل حول هذه الأفكار إلى أرض الواقع وإلى تكوين منظم يحمل الدعوة ويستمر عليها لتحقيق أهدافها وكان في ذلك متأسياً برسول الله  في سيرته ومنهجه حيث أرسى عرى الإيمان في القلوب وجمعها على عرى الأخوة والترابط ونظمها ووظفها في حملها للدعوة والجهاد في سبيلها

كما أكد الإمام الشهيد على أهمية ذلك حيث أشار في رسالة المؤتمر الخامس أن مصدر قوة الجماعة يقوم على قوة العقيدة والإيمان مع قوة الرابطة والتنظيم ووضع لذلك أركاناً للبيعة وضوابط للعمل ومنهاجاً للتربية.

وعندما استعصى على الأعداء من أصحاب المشروع الغربي الصهيوني ومن تابعهم من أنظمة، القضاء على هذا التنظيم أو إضعافه بالسجن والتشريد وبالقتل والتعذيب وحملات التشويه وتلفيق التهم، بدأت تظهر أطروحات تدعو إلى تجاوز هذا الجانب وعدم الاهتمام بالارتباط التنظيمي ولو مرحلياً في مواجهة واقع الضغوط المحيطة، ودعموا ذلك ببعض الإغراءات للأفراد وبمساحة أوسع من العمل والظهور كل هذا بهدف القضاء على مصدر قوة الجماعة وجوهر تكوينها.

لقد فشلوا قبل ذلك في دعم تمردات أو خروج بعض الأفراد على الجماعة، وظنوا أن هذا سيشق صفها ويخرج معهم العشرات والمئات، إذا بهم قد تعلقوا بأوهام وبغصن جاف وإذا بالجماعة قائمة مستمرة لم تتأثر ولم تهتز مهما علا شأن هؤلاء الأفراد.

إن من يفصل بين الفكرة والرسالة وبين العمل الجماعي المنظم يخالف بذلك أصلاً من أصول الدعوة ويسلك طريقاً غير مكافئ للواقع أو قادر على التغيير، وسيبقى عمله ناقصاً وحركته مبتورة .

إن توظيف الأفراد ومن يساهمون في الدعوة إلى الإسلام، وكذلك في وضع الخطط والبرامج لمواجهة الأحداث والضغوط والأزمات لا يمكن أن يتم إلا من خلال جماعة منظمة وتوجيه وارتباط تنظيمي قوي ( تتحقق فيه أركان البيعة ) لعناصرها التي تعمل وتؤدي ذلك الدور في هذا المجال، إن مفهوم تجميد التنظيم أو إضعاف نموه واستيعابه للأفراد والكفاءات، أو تقليل الارتباط به وإطلاقه العنان للأفراد كل “حسب رأيه وهواه”، كل هذه صور لإضعاف الدعوة وتحطيم الجماعة، وبعض من نادى بذلك كانت تعبيراً عن ضعفه وعدم تحمله للضغوط والتضحيات، فكانت قعوداً أو هروباً من الجهاد وتبعاته وإن غلفها بمثل هذه الادعاءات .

بين مفهوم المرونة ومنزلق التطويع

إن مفهوم المرونة يكون في التعامل مع الواقع وليس في المبادئ والمفاهيم الأساسية، فالجماعة تقابل أي مرونة موجودة في الواقع المحيط بها بمرونة مثلها، وهي لا تحاول الصدام مع الواقع السياسي، لكن تحاول التكيف معه والاستفادة منه، دون أن تقدم تنازلات في مبادئها الأساسية.

لكن عندما يصبح الواقع حولها مغلقاً بالكامل، وتتعرض للتضييق والحصار الشديد، فإن الجماعة لا تركز على تقديم المرونة لأنها لن تجد استجابة، وبالتالي لا يكون لتلك المرونة وظيفة، ولهذا تتجه الجماعة إلى عملية تأكيد ثوابتها ومنهجها، وتحدد الحدود الفاصلة بينها وبين المشاريع الأخرى، وبهذا تصبح مرحلة الحصار هي مرحلة التأكيد على الثوابت، ومهما طال أو قصر الحصار، فإن التمسك بالأهداف وعدم اهتزازها وتقوية البناء الداخلي يشكل حالة نجاح واضحة.

وعندما تأتي مرحلة الانفتاح بدرجاته المختلفة سواء بعوامل مباشرة أو غير مباشرة من الجماعة، أو من فعل الآخرين وتطور الأحداث، فإنها من المرونة والقدرة على استيعاب الواقع المتغير لتحقيق إنجاز التكيف مع الواقع ما دام به مساحة لقبول الحركة الإسلامية، وبالتالي فإن أسلوب الخطاب الصادر يتغير واتخاذ خطوات في الحركة والمواقف تتناسب مع الواقع الجديد دون الخروج على المبادىء والأهداف أو إضعاف للصبغة والرسالة.

وهذا التناوب والتغير الدورى من التضييق والحصار إلى الانفتاح والهدوء وتكراره ليس شيئاً جديداً في مسيرة الجماعة ولا تنزعج له، وإنما تحسن التعامل معه، ولا يؤثر على رؤيتها أو يحبط عزيمتها أو تتعلق بآمال وواقع متغير قد تفاجئ بعدم استمراره.

هناك فرق بين المرونة في المواقف وردود الأفعال، وبين الخضوع لأسلوب التطويع والاحتواء، والذي يبدأ بتطويع الخطاب الدعوي تحت حجج ومبررات شتى منها التعلق بأوهام المكاسب الزائلة أو الاهتزاز من تهديد أو ضغط ما.

وهذه البداية لا تقف عند هذا الحد، بل تنزلق تدريجياً بنفس الحجج الواهية نحو تطويع المواقف والأعمال لتصل في النهاية إلى تطويع المبادئ والأفكار.

وتشير الآيات القرآنية إلى جانب من هذا الأمر، عندما تنفيه عن المجاهدين الربانيين أتباع الأنبياء : وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ  [ آل عمران : 146]

فهي تنفي عنهم هذه المراحل المتدرجة التي تؤدي في النهاية إلى الهزيمة، فالوهن يكون أولاً في القلب، ثم يمتد ويظهر أثره في الأعمال والجوارح ليحل بها الضعف والتباطؤ والتخاذل، ثم ينتهي الأمر إلى الاستكانة والاستسلام والتخلي عن المبادئ والأهداف.

وحول دعوى البعض أن المرونة تقتضي تغيير الأهداف،ما دام المحيط الخارجي أو العوامل المؤثرة متغيرة، وبالتالي يجب مراجعة الرسالة وتعديلها بما يتلاءم مع الواقع،فإننا نرد على هذه الرؤية التي قد تصلح لحزب سياسي محدود أو دعوة أرضية: أن دعوة الإخوان دعوة إسلامية ربانية، وتحمل مشروعاً إسلامياً على منهاج رسول الله وهو مشروع مستقل وليس رد فعل لأي مشروع آخر.

وليس لها أو لأي كائن أن يغير في ثوابت ومبادئ وأهداف دعوة الإسلام وهدي القرآن، وإنما التطوير في الوسائل والإجراءات، وبالتالي فإننا على مدار السنين نرى نفس الأهداف العملية من تربية الصف الرباني القدوة الملتف حول قيادته المتمثل فيه الصفات الإسلامية التربوية في أعلى درجاتها، وكذلك في حمله رسالة الإسلام للمجتمع وإرشاده وتربيته وإنهاض الأمة الإسلامية لتؤدي دورها ورسالتها في إعلاء كلمة الله.

ولأن الجماعة صاحبة رسالة، تتعلق بها الأمة، فقد تأتي أحداث ومواقف أساسية تتطلب إعلان رأي الجماعة المستند لرأي الإسلام.

وقد يكلفها هذا الكثير من التضحيات أو يتسبب في التضييق عليها.

وإذا جاز لغير الجماعة أن يسكت أو يخضع مكرهاً مضطراً، فإن ذلك لا يجوز للجماعة التي تحمل لواء الدعوة وتقود الجماهير بل تعلن رأي الإسلام وموقفها في وضوح وحسم وفق الآداب والضوابط الإسلامية.

لقد طلب من الإخوان أن تسكت على اتفاقية كامب ديفيد ومعاهدة السلام مع العدو الصهيوني مقابل السماح لهم بالحركة، فرفض الإخوان ذلك، وأعلنوا موقفهم الرافض لها على أساسٍ شرعي، ونزلوا للجماهير لتوعيتها وتبيان مخاطرها ونالهم من ذلك أذىً كثيراً من اعتقال وتضييق ومطاردة حتى يومنا هذا ونتذكر في هذا موقف الإمام أحمد بن حنبل في مواجهة بدعة “خلق القرآن” حيث إنه كان عالماً يتبعه العامة وجمهور الناس.

كذلك فإن عوامل النجاح والفشل لمشروع الجماعة وفق الرؤية الإسلامية، يمتلكها الصف وتنبع من داخله، وأما المتغيرات الخارجية والضغوط والضربات مهما اشتدت فهي مجرد معوقات تؤثر على سرعة الإنجاز أو ترفع حجم التضحيات.

يقول في ذلك القرآن الكريم: لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ [آل عمران:111]، وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ

[ الأنفال:64] ، وبالتالي فإن المخططات التي تواجهها الجماعة، وتصاعد المشروعات المعادية لها ولدعوتها، تواجه ذلك كله بالتمسك بعوامل النصر والثبات وتماسك وتقوية الصف والبناء التربوي الإيماني والاستمرار في حمل الدعوة وترسيخ أركان البيعة، واللجوء لله عز وجل أولاً وآخراً، فهذا هو طريق النصر ومعيار النجاح في التصدي لكل الضغوط والأزمات، ولا يعنى هذا ترك التدبير أو عدم استفراغ الجهد البشري، فهذا واجب أساسي، لكن العامل الحاسم هو ما أشرنا إليه.

يطرح البعض إما للتساؤل أو للمشاركة في حملات التشويه ضد الجماعة، مصطلح الصفقات، وهل هو جائز في الجماعة،وهل المواقف التي تتخذها تقع ضمن هذا الإطار ؟؟

إن “الصفقة” في المفهوم التجاري يعني عملية بيع وشراء بين طرفين مما يحقق الربح والمصلحة في ظن كل منهما.

وفي المفهوم السياسي تعني الصفقة بين طرفين هو تنازل طرف أو تراجعه عن بعض مواقفه أو أفكاره مقابل مكسب يناله من الطرف الأخر وبالتالي ذلك يحمل معنى التنازل عن حقوق وواجبات متعلقة به أو المخالفة لما يقوم عليه الطرف من مبادئ ومناهج .

وهذا الأمر بهذا التعريف في عرف ومبادئ الدعوة الإسلامية غير جائز، وكم عُرض على الجماعة طوال تاريخها من إغراءات رفضتها،وتعرضت لضغوط وتضحيات كبيرة تحملتها في سبيل الثبات على مبادئها وأهدافها، وبالتالي فإن إطلاق وصف الصفقة على حركة الجماعة ومواقفها وتعاملها مع الأحداث ومع الآخرين بأنه صفقة، فيه تجاوز وعدم تثبت وخلط في الأمور يحمل معه أسلوب الافتراء.

فأولاً: إن المرجعية عند الجماعة في حركتها ومواقفها وتعاملها مع غيرها هو أحكام الشرع، فما أجازته وأباحته يقع في دائرة الاختيار، وما منعته وحرمته لا يجوز تخطيه والأخذ به.

وثانياً: أن الجماعة لديها مؤسساتها الشورية ولا يجوز لأفراد أن يتجاوزوا في قولهم وقراراتهم دون الرجوع لهذه المؤسسات الشورية القائمة على ضوابط الدعوة.

ثالثاً: أن مبدأ الغاية تبرر الوسيلة ، مرفوض عند الجماعة، ومخالف لضوابط الشرع، فالغاية والوسيلة داخلة وخاضعة لأحكام الشرع.

رابعاً: إن الجماعة تتعاون مع الآخرين وتتواصل معهم، وفق مبدأها “ نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه “.

وهذا يعني أن مساحة التعاون تكون في الجزء المشترك بينها وبين غيرها من الأطراف والاتجاهات ، ولا يعنى أي تنازل من الجماعة عن مبادئها وأهدافها.

خامساً: أن الجماعة لها أسلوبها المميز في اتخاذ المواقف والتعامل مع الآخرين ، فهي تحرص على عدم تجريح الأشخاص والهيئات ولا تعارض لمجرد المعارضة ، ولا تتهم النوايا، منضبطة بالخلق الإسلامي الرفيع، وتقول للذي أحسن أحسنت ولو كان مخالفاً ومعادياً لها، وتقول للذي أساء أسأت ولو كان من أفرادها، وبالتالي فإنها عندما لا تجاري الأحزاب والأفراد في هجومهم أو أسلوبهم المخالف لذلك لا يعني هذا أنه نتيجة لصفقة.

سادساً:إن اتخاذ الجماعة للمواقف،والأحداث والمشاركة مع الغير وحجم الخطوات التي تتحرك بها والتفاوض مع الآخرين أو الاتصال بهم ، كل ذلك يخضع لمبادئ الدعوة ولإمكانيات الجماعة ومصلحتها المعتبرة شرعاً، ليس من منطلق إغراء أو من منطلق خوف من التضحية ويكون ذلك في إطار وفق خطتها ورؤيتها، فالمشاركة في تشكيل ما أو عدم المشاركة جائز شرعاً وخاضع لهذه الضوابط وعمل هدنة بين فصائل المقاومة وبين العدو الغاصب جائز شرعاً ولا يسمى صفقة والمفاوضة مع أي طرف لتحقيق مطلب شرعي أو لدفع معوقات وتخفيضها أو للتعاون على أمر نافع، جائز شرعاً طالما انضبط الأمر بالحكم الشرعي، لكن لا يحق في هذه الممارسة أن تكتم حقاً أو تتنازل عن مبدأ أو تسكت على ظلم أو تزين للآخرين الخلل والفساد.

وهي إذا عاهدت ووعدت صدقت، ولا يتم هذا التعاون بضوابطه مع الآخرين في الخفاء أو من وراء ظهور مؤسساتها.

وأخيرا نذكر قول الإمام الشهيد في رسالة المؤتمر الخامس:”أحب أن أقول لإخواننا من دعاة الأحزاب ورجالها: إن اليوم الذي يستخدم فيه الإخوان المسلمون لغير فكرتهم الإسلامية البحتة لم يجئ بعد ، ولن يجئ أبدا ، وإن الإخوان لا يضمرون لحزب من الأحزاب – أيا كان – خصومة خاصة به”