بقلم/ سكينة إبراهيم
(1)
أنهي الجد “نوح” صلاة الجمعة في الجامع الكبير؛ ثم جلس لما بعد صلاة العصر حتي يحين موعد درسه الأسبوعي لشباب منطقته والذين لا يفرغون من أعمالهم التطوعية إلا في مثل تلك الساعة من هذا اليوم المبارك، وقد صارت أعمالهم تضطرهم إلي السفر خارج المحافظة لأنهم انتهوا هنا من زراعة وتشجير تلك الحديقة الغناء التي يتنزه فيها أعضاء دار الإعاشة ممن لا مأوي لهم، كما أتموا توصيل المياه اللازمة لمحل إقامة أبناء السبيل ممن يأتون لإنهاء بعض مطالبهم في تلك المدينة. وقد ألحّ رواد المسجد كعهدهم كل جمعة علي الشباب أن يقبلوا منهم بعض التبرعات المادية والعينية لمشروعاتهم التي يعملون عليها؛ إلا أن الشباب مازال يعتذر عن قبولها مؤكدا لهم أنهم متبرعون بالجهد فقط في حين أن الدولة هي الراعية لكل تلك الأعمال، ومن ثم فليس بمقدورهم وضع جنيها من الخارج؛ خاصة أن الدولة لا تدخر مالا لدعم تلك الميزانية الضخمة الخاصة برعاية أهل الضعف وذوي الحاجة. وقبل المغادرة وإنهاء الدرس اقترح الجد “نوح” علي الشباب أن يضموا إلي سجل مشروعاتهم مقترحا بتأسيس نادٍ أهلي لاجتماع الأجداد والشيوخ؛ ممن لازال علي قيد الحياة منذ بداية تلك الألفية الثالثة والتي قاربت علي الإنتهاء الآن؛ بحيث يكون هدف ذلك النادي الحديث عن ذكريات تلك الثورة المجيدة التي حدثت في بداية هذا القرن وما تبعها من أحداث جليلة، كتبت بما فيها من أفراح وأتراح ما نحياه نحن الآن من عزة ومجد؛ حيث ندخل القرن الرابع الميلادي ونحن دولة دائنة وليست مدينة، وليس بيننا فقير أو ذو حاجة إلا مكفولة له سبل الحياة الكريمة..أُعجب الشباب بالفكرة وضموها إلي هذا السجل الطويل من المقترحات التي تأتيهم من أهالي المنطقة كل أسبوع فيدونها ويشرعون تباعا في تنفيذها واحدا تلو الآخر..


كانت الفكرة قد ألّحّت علي خاطر الجد “نوح” بعد أن طلب منه أحفاده أن يفتح لهم خزانته الخاصة، ويطلعهم علي “ألبوم” صوره؛ هذا الذي يحتفظ به في صندوق حديدي، ويخشي من إصابته دوما بأي أذي، فقد اقتنع بالفعل أن من حق هذا الجيل أن يطالع عن قرب ما عاصره أجداده من أحداث؛ خاصة إذا رواها لهم الأقربون الذين عايشوها؛ فينقلون مع الأحداث الوجدان والمعاني والمشاعر التي مازالت تنتفض بداخلهم كلما مرت بخاطرهم تلك الذكريات؛ فتثمر بذلك التجربة في عقول وقلوب الأجيال الناشئة، وتلتهب قواهم أكثر في الحفاظ علي هذا التاريخ الذي سطره لهم الأجداد ببطولات نادرة..


ابتسم الجد “نوح” وهو في طريقه إلي منزله؛ حيث ارتاح جدا للفكرة التي اقترحها، وكأنه قد رأي معها علاقته بأحفاده بشكل مختلف أكثر حيوية، ومن ثم أقبل عليهم بسعادة شديدة كي يطلعهم علي ماجهلوا من تاريخ أسرتهم؛ وقبل أن يشرع في النداء عليهم؛ أقبل عليه حفيده الأول”مرسي” وقبّل يده وجلس بين يديه داعيا لجده الحبيب بالعافية والبركة في العمر، فقد أنهي لتوه درس القرآن، ومن ثم جلس في حديقة المنزل في انتظار جده بشغف. كان “مرسي” قد أوشك علي إتمام حفظ القرآن الكريم كاملا علي يد الشيخ “صالح” والذي له ما يقرب من سبعين عاما يختم الشباب علي يديه القرآن، فهو صديق مقرب من الجد “نوح” وقد قارب عمره المائة مثله ومثل كل قرناء زمانهم؛ حيث كانوا جميعا أبناء جيل معمرين وفي الوقت نفسه رزقهم الله تعالي الصحة و العافية وحسن التركيز والفهم والعمل، ومن ثم فمن الشائع أن تري غيرهم كثيرين وقد ناهزوا التسعين ومازالوا يؤدون أعمالهم بنشاط ودأب. ولأن للجد “نوح” منزلة خاصة لدي الشيخ “صالح”؛ فقد وافقه علي عقد مجلس قرآن في بيته الكبير، بعد أن خصص الجد “نوح” لذلك جناحا متسعا، يطل مباشرة علي بستان المنزل، وينتعش بأصوات البلابل المغردة التي تعشعش أعلي الأشجار الوارفة التي تتدلي علي شرفته..
فرح الجد “نوح” بما سمعه من حفيده “مرسي 1” بحسب ما كان الشيخ المُحفظ يسميه مميزا له عن غيره من أبناء الحلقة، والذين كان أكثرهم يحمل هذا الاسم الأكثر انتشارا وشيوعا في البلاد. وقد استبشر الجد خيرا باقتراب إتمام حفيده لحفظ كتاب الله تعالي كاملا، وأخذ يثني علي تفوقه الدائم وذكائه المتقد. وفي تلك الأثناء حضر “عبد البديع” الحفيد الثاني، هذا الفتي دائم النشاط والذي لا يمل عن صحبة شباب المنطقة ممن هم أكبر منه سنا، ولكنه لا يجد نفسه مبتهجا إلا في مساعدتهم في أي نشاط أو مهمة خيرية يعملون عليها؛ فقد نسي مع حداثة سنه معني اللعب، وانشغل في جل وقته بزراعة الأشجار في الصباح الباكر، وجني التمر وتعليبه في الظهيرة، وأخيرا المرور علي المنازل وإهدائها وجبات ساخنة من مطعم المدينة المركزي، فقد كان في نظره أطيب طعاما من مطعم الحي الأصغر منه حجما..
مرّ ما يقرب من الساعة، وقد بدأ الجد في القلق علي حفيده الثالث “البلتاجي”، وأخيرا طلب ممن حوله الاتصال به والإطمئنان عليه، وهنا أخبره “عبد البديع” بأن “البلتاجي” أمامه ما يقرب من ربع ساعة أخري حتي يخرج من غرفة العمليات، انتفض الجد “نوح” وكاد قلبه أن ينخلع، لولا أن أكمل “عبد البديع” موضحا أن”البلتاجي” قد صار الآن من أمهر مساعدي الأطباء داخل غرف الجراحات الحرجة؛ وهنا تذكر الجد كيف بدأت مهارة “البلتاجي” تظهر في الطب رغم صغر سنه، إلا أنه أخذ يدرس ويتعلم في نظم التعليم المتخصصة التي لا تتقيد بسن ولا تشترط سوي الكفاءة والآداء الجيد، ومن ثم هو الآن يمارس تدريبه في فرع الجراحة الحرجة، ولا يكاد يترك أي عملية في مستشفي الحي المركزي إلا ويحضرها ويساعد فيها..
وهنا أقدم “البلتاجي” راكضا، معتذرا لجده علي هذا التأخير غير المقصود، ومن ثم فقد اكتمل الأحفاد الآن في حلقتهم بجوار جدهم الحبيب، وقد آن أوان تنفيذه لوعده لهم بفتح خزانته الخاصة، واطلاعهم علي “ألبوم” صوره..
*
أخرج الجد “نوح” من بين يديه صندوقه الحديدي، وقد شرع في فتحه أمام أحفاده، وهنا حدق الفتية بعيون لامعة، منتظرين بشغف تصفح هذا الألبوم والذي يكاد عمره أن يقترب من المائة مثل جدهم تماما؛ وضع الجد الألبوم علي المنضدة وبدا مستعدا للتجاوب مع تساؤلات أحفاده وأفكارهم؛ كانت صفحة الغلاف الأمامي تضم صورة شبيهة بذلك المنزل العامر الذي يعيشون فيه جميعا، فقد حوت هذا البناء المتناسق المتعدد الغرف والشرفات، يحيط به من كل ناحية تلك الرياض الخصبة بأزهارها النادرة، وأشجارها المثمرة، وفي المنتصف منها يجري جدول المياه العذب الرائق نادر الوجود فيما عداه من منازل أخري، هذا بخلاف أن موقع هذا البناء الجميل يأتي متوسطا للمدينة، مطلا علي كافة زواياها الهامة، وكأنه بانوراما سحرية تأخذ من يصعد أعلاها في رحلة خلابة يسافر فيها النظر ليطالع كل جميل..
“نعم إن هذا الألبوم هو قصة هذا البيت وما مر عليه من أحداث قبل أن نسكنه الآن آمنين مطمئنين”؛ هكذا أجاب الجد علي سؤال لم يطرحه أحفاده ولكنه لمحه في أعينهم عند نظرهم إلي صورة الغلاف..


(2)
بدأ أبطال المستقبل يتصفحون الألبوم مع جدهم الطيب؛ وقد أدهشهم أن يروا الصورة الأولي ليست فوتوغرافية، وإنما هي لوحة زيتية صغيرة يقف فيها شامخا رجلا تبدو عليه علامات العزة والفخار والثراء أيضا، و فيه ملامح تشبه إلي حد كبير الجد “نوح”. وهنا أخذ الجد يحدثهم عن هذا الرجل فقال:كنت مضطرا للاحتفظ بتلك اللوحة كما هي مرسومة بالزيت، لأنها رُسمت في عصر لم تكن فيه آلات التصوير قد اختُرعت بعد، إنها صورة جدكم الكبير، الشيخ “مصراوي”، وهو أول من بني لنا هذا القصر وأسسه بحيث يسع كافة عائلته علي امتداد العقود، فقد اهتم أن تكون له عائلة متحابة مترابطة، في حين كان الفراق بين الإخوة وقطع الأرحام سائدين وبشدة في عصره، ومن ثم فقد اختار هذا المكان الجميل وقرر أن يجتهد في بنائه وتأسيسه كي يوقفه علي أبناء عائلته؛ بحيث لا يصبح إرثا يمكن بيعه أو تقسيمه إلي حصص يتم التنازل عنها كليا أو إجمالا، وإنما يصير موقوفا ليعيش فيه أبناؤه وأحفادهم هكذا تباعا إلي يوم الدين..
نظر الفتية بعضهم إلي بعض وقد تلاقت ابتساماتهم الفرحة، فخرا بجدهم الأول، وسعادة بأن يتعرفوا علي نياته الطيبة التي جمعتهم هكذا يدا واحدة منذ عقود..
تصفحوا بعد ذلك عدة صور أخري؛ ثم توقفوا عند واحدة كان يقف فيها بعض الرجال الأشداء، ويمسكون في أيديهم معاول يحاولن بها هدم أعمدة البيت، وهو ما يظهر في الصورة بوضوح؛ حيث تُطل ملامح شروخ بادية علي بعض أجزاء الأعمدة، وفي المقابل تظهر علامات التيه والفرح علي وجوه هؤلاء الأشداء..
“مَن هؤلاء يا جدي، ولماذا تحتفظ بصورتهم رغم ما يظهر علي محياهم من علامات الشر والرغبة في النيل من هذا البيت الكبير”..هكذا تسائل “البلتاجي” مستفسرا. قال الجد: هؤلاء كانوا اخوة لنا يشاركونا البيت ويتقاسمون معنا خيراته الوارفة التي تجلبها علينا مزرعته الغنّاء، ولكنهم طمعوا في المزيد وفي الإستئثار بخيره إلي أنفسهم، وزادوا علي ذلك بأن قبلوا -دون استشارة بقية اخوتهم- عرضا لشرائه كأرض فناء فارغة، لمن اشترط عليهم ذلك، متناسين بذلك أنه وقف من جدهم الكبير، ومتغافلين عن موقف بقية اخوتهم الرافضين للبيع، المُصرين علي البقاء تحت ظل الوقفية مجتمعين دوما غير متفرقين..ثم أخذ الجد يتصفح أمامهم سريعا عددا من الصور جميعها يحمل زوايا مختلفة للموقف ذاته، حتي وصل إلي صورة تبدو علي العكس منها تماما؛ فقد كانت لقوم اجتمعوا حول نفس الأعمدة التي كادت أن تُهدم، وهم يرممونها ويضيفون إليها “الخرسانة” والحديد حتي بدا عليها أنها صارت أكثر صلابة وقوة، في حين بدا هؤلاء القوم مجهدين تعلو حبات العرق جبينهم، تكاد الصورة تتحدث إلي مطالعيها وتخبرهم بأن عملا عظيما انتهي هنا منذ قليل..
حدق “مرسي” في الصورة مليا، ثم قال: “يبدو لي يا جدي أنك أنت هو ذلك الشاب الواعد الذي يمسك بيد الآخرين ويرفعها محييا، فمن المؤكد أن تلك الصورة هي لكم جميعا عندما تمكنتم من السيطرة علي الموقف وإيقاف الهدم، ومن ثم بدأتم في الترميم متآلفين متحابيين”. قال “الجد”: الحق ما قلت يا بني، فهذا أول موقف يُمتحن فيه فهمي وإدراكي لمعني البيت الكبير، وأبدأ معه سريعا وأنا غض الشباب لم أفارق الصبا إلا قريبا، أبدا في ممارسة مسؤوليات هامة و مشتركة كان يجب أن أؤديها جنبا إلي جنب مع غيري من أبناء عمومتي واخوتي..ورغم ما بذلناه من عمل متواصل؛ إلا أننا كنا نعيش تلك اللحظات بقلب ملؤه الحماس والأمل، فقد صار البيت بالنسبة لنا معني قبل أن يكون حوائط وجدران تضمنا، وبات لمعيشتنا معا والبر والرحم الذي يجمعنا دور في إحياء ذواتنا وإلتفات صغيرنا وكبيرنا عن نفسه الخاصة، واتجاهه نحو الجميع..
بدت علي وجه “عبد البديع” علامات من الحيرة والقلق؛ فقد كان سبقهم وتصفح في الألبوم متجاوزا صورا يقوم فيها جده مع آخرين بحرث الأرض وزراعتها، وتنقية جدول المياه، وأخري وهم يقومون بتوزيع الثمار والمحاصيل علي الفقراء من العاملين في القصر، وغيرهم من المقمين فيه ولا يجد أبناءهم عملا أو تجارة يتكسبون منها، تصفح تلك الصور سريعا أثناء حديث جده، ثم انزعج وتراجعت رأسه عن النظر عندما وقعت عينيه علي تلك الصورة التي تبدو مظلمة للغاية، وبالكاد يظهر فيها جده واخوة جده وأبناء عمومتهم يجلسون في مكان مكفهر مخيف، وكأنّ عاليه سحاب أسود سيمطر فوق رؤوسهم دنس وقذيً، وتبدو الجدران كما لو كانت أفواه جماجم مخيفة تبتلعهم بينها..
انتبه الجد لانزعاج حفيده؛ فربت علي كتفه، ثم تنهد من أعماق قلبه وقال: أما هذه الصورة فقد كانت لنا أيضا، ولكن بعد أن تكالب علينا نفر من اخوتنا وأوسعونا ضربا بالفؤوس والعصي حتي قتلوا منا البعض، ثم اقتادوا بقيتنا إلي أسفل القصر الذين يعرفون سره مثلنا تماما، فقيدونا هناك ومنعونا من الحركة، وتظاهروا أمام الجميع أننا تركنا البيت مختارين بعد أن ضبطونا نسرق ما ليس لنا بحق، وبهذا الإفتراء علينا نجحوا أن يظهروا بملامح الطهارة والبراءة أمام كافة الجيران والسائلين عنا، وكل ذلك من أجل أن يتموا عملية الهدم التي عجز عنها السابقون، فقد كانت الفكرة قد أعجبتهم، وقرروا تنفيذها، ولكن بعد أن خططوا لذلك جيدا، متذكرين أن لهذا القصر قبو محكم الغلق، له باب مدخله من الحديقة، يطل علي سرداب طويل يقع أسفل غرف القصر..
صور متتابعة أخذ ينظر إليها الفتية وجلين، من هول ما يرونه من قتامة المكان وما يبدو عليه جدهم واخوته من هزال وضعف شديدين، قال الجد: كان هذا القبو مسكنا لقوارض الأرض، وطوارق الليل الهائمة بحثا عن رزقها في الشوارع والطرقات نهارا، ثم تأتي ليلا لتبيت في هذا المكان وقد خبروا أسراره وحفروا فيه أماكن لسكناهم ولاختبائهم..وما إن رأونا إلا وقد ظنوا أنهم قد حازوا صيدا ثمينا، وبالفعل فقد أمضينا ليالي عسيرة نعاني فيها معهم، كأن نستيقظ ليلا مثلا علي إثر صرخة من أخ لنا وقد قضمه كلب في قدمه، أو شرعت الفئران في فقع عيني آخر بقواطعها..
“ولكن يا جدي اسمح لي -هكذا قال البلتاجي- فتلك الصورة لهذا الكلب الضخم، لا يظهر فيها أثر للتك الغلظة والشراسة التي تتحدث عنها”. صحيح بالفعل يا ولدي؛ فهذا هو “قدمير الوفي” الخاص بنا، وقد أسميناه علي هذا الاسم المتناقل عن كلب أصحاب الكهف لما لمسناه فيه من سمات الصداقة الحقيقية التي نسمع بها عن هذا المخلوق الوفي عندما يصحب البشر ممن يحسنون إليه ويقدمون إليه ما يحتاج من طعام وماء خاصة إذا شعر أنهم في ذلك يتقاسمون معه الفتات مما يلقي إليهم، وهكذا فقد تحولت كافة تلك الطوراق وبمرور الوقت إلي أصحاب أوفياء لنا، حتي الفئران والحشرات والهوام، كأن معجزة خارجة عن نطاق فهمنا وتصوراتنا قد حجبت شرهم عنا، وبتنا ننام في هدوء و مليء جفوننا رضا ويقين..


(3)
أسرع الأحفاد يقلبون صفحات الألبوم علي عجل، حتي تختفي عن أنظارهم تلك الصور شديدة الألم، كثيفة الظلمة…صاح بهم الجد: علي رسلكم..علي رسلكم..
إن تلك الصفحات التي تقلبونها هي أهم ما في هذا الألبوم، وللرغبة في النظر إليها والتوقف عندها قد جمعتكم ووافقتكم في فتح دفتر صوري وعرضه عليكم..
“ولكن كيف هذا يا جدي، وقد انتابتنا جميعا الآن مشاعر الحزن الشديد لتلك الحال الرثة التي كنتم عليها.. ؟”تساءل الأحفاد جميعا السؤال هذا نفسه وكأنهم ينطقون في في فم واحد..قال الجد: أريدكم أن تحدقوا قليلا في تلك الصور التي لا تريدون رؤيتها، ثم أخبروني عن ملاحظاتكم قبل أن تحدثوني عن هذا الحزن الشديد وما اعتراكم من اشفاق وأسف. اجتمعت العيون الستة وقد أمعنت النظر في الصور المتتابعة التي تصور القبو وساكنيه؛ وفجأة صاح “مرسي” مؤكدا:”لقد وجدتها يا جدي..وجدتها..”، أعقبه “عبد البديع” و”البلتاجي” مرددين نفس ما قال.وهنا ضحك الجد إِعْتِزازا بأحفاده، وقال:”كنت علي يقين أنكم ستفعلوا يا أبنائي”… إننا كذلك ونحن نسكن هذا القبو، وبعد أن هدأت قلوبنا وعقلوبنا من إثر الصدمة؛ صرنا نبيت الليل نفكر ونخطط، وعلي حين غرة، وكما حدث لكم الآن، تأملنا سقف القبو جيدا؛ فإذا بأضواء خافتة تنبعث من بين زواياه تظهر بوضوح في هدأة الليل أكثر منها في أي وقت آخر، وبعد أن أدركنا ذلك بيقين، فقد أخذنا من فورنا نفكر بصوت جماعي، حتي وصلنا إلي حقيقة أن الأبواب كما تٌغلق..تُفتح، وأن هذا الضوء الخافت الذي يتسلل لنا في عتمة الليل، إنما هو الإشارة والعلامة، فإذا كان باب القبو الذي دخلنا منه يطل علي سرداب في نهايته الحديقة، فلماذا لم نتذكر من قبل أن هذا القبو نفسه يقع أسفل القصر مباشرة، ومن ثم فربما كان هناك المخرج يقع في هذا السقف الذي يشي ضوءه بذلك، وبالفعل إلتقطنا طرف الخيط، وأخذنا من فورنا نتأمل السقف جيدا، من كافة الجهات والجوانب، حتي لمحنا أثرا لمقبض حديدي يخفيه الجير والدهان المتساقط، ومن ثم فلم يبقي علينا سوي الصعود لأعلي للإمساك بالمقبض، ولكن هذا الأمر كان لابد له من تفكير طويل، فمن ناحية كانت قاماتنا جميعا أقصر من أن تطال السقف، كما أن الإمساك بالمقبض وفتحه يعني احتمالين في آن واحد، فإما أن تكون فتحته إلي داخل القصر، أو إلي القبو، وإذا كان الأخير فربما أحدث هذا الفتح صدمة مباشرة في رأس من سيصعد إلي السقف وربما أسقطه هذا أرضا وأصابه بكسور أو إعياء. “وماذا فعلتم يا جدي عندها”..هكذا سأل الأحفاد..قال الجد: لم يكن أمامنا سوي هذا الخيار، ومن ثم فقد استخرنا الله تعالي وأخلصنا له النيات، ثم صعد بعض الإخوة أحدهما فوق ظهر الآخر، حتي نجحوا في الوصول إلي السقف، وقد سبق هذا فترة تدريب تؤهلهم كي يتجاوزوا لطمة الباب المباشرة إذا انفحت علي رؤوسهم، وخاصة الأقرب منهم لأعلي، وبالفعل وصل الأخ الأول للمقبض، وقد تصبب عرقا وهو يعالجه ويزيح ما اعتراه من أثر التقادم، ونحن جميعا نشارك معهم بالدعاء والتكبير، وعلي حين فجأة انفتح المقبض، ولكن مساحة الباب التي توقعناها أقل بكثير من الحقيقة، فقد كان السقف جله هذا الباب، ومن ثم فقد كان اندفاعه و ارتطامه قويا مدويا، وقد لقي الكثير من اخوتنا ربهم تحت هذا الباب بعد أن نجحوا في فتحه. وعلي الجانب الآخر فقد فوجئنا أيضا أن السقف كان يمثل أرض غرفة المعيشة الرئيسة في القصر، وكان الوقت الذي تمت فيه المهمة، قد صادف مأدبة غذاء فاخرة اجتمع عليها الخائنين الذي مكروا بنا للاحتفال بقرب تحقيق مآربهم، ومن ثم فقد مارت الأرض من تحت أقدامهم وسقطوا من حيث لم يظنوا أو يحسبوا، وقد كان مشهدا مهيبا لا يمكن لي أن أنساه ما حيت، فقد اندفعت طوارق الأرض وخاصة تلك الكلاب الوفية التي كانت قد صاحبتنا، اندفعت تنهش في أجساد هؤلاء الخائنين الساقطين علي الأرض، فقد راعهم مشهد إصابة إخوتنا واستشهادهم، وقد رأوا أن هؤلاء الساقطين من أعلي هم السبب في ذلك، ومن ثم فقد اندفعوا أفواجا تنهش في أجسادهم انتقاما لأصدقائهم من بني الإنسان..وقد تم كل هذا كلمح البصر، وقد كنا حينها منشغلين بإسعاف المصابين من اخوتنا، ولم نتمكن من استنقاذ أيا من الخائنين من بين أنياب الكلاب والفئران..


وعند صورة الشهداء الأخيرة، أغلق الجد ألبوم صوره، ولم ينبت ببنت شفة بعدها؛ بل ترك الدفتر في يد أحفاده يتأملوه؛ لأنه كان علي ثقة أنهم سيصلون بذكائهم وفطرتهم السليمة إلي المعاني المختبئة خلف كل صورة، ولكن الأمر يحتاج منهم بعض الوقت والمثابرة بل والنقاش، وقبل كل شيء الإستعانة بالله والتوكل عليه، ومن ثم فقد تركهم يتحدثون سويا، وذهب ولسانه يعج لهم وللشهداء بالاستغفار والدعاء..