رأيتها بعد الظهر تستحم، وترتدي ملابسها الجديدة، ظننت أنها ستأتي لتجلس معنا، لتناول طعام الغذاء، وعندما جهزنا المائدة، بحثنا عنها في أرجاء المنزل، فلم نجدها، ثم خرجنا إلى الشارع لنسأل عنها، وبعد ساعة سمعنا مكبرات الصوت تنادى، بأن هناك عملية استشهادية للقسام، فتبين بأن منفذة العلمية هي أمي “الحاجة فاطمة النجار”   ….. زياد ابن الشهيدة

بثيابها التقليدية، وحطتها البيضاء، وتجاعيد الزمن على وجهها، وبكلمات مؤثرة، قالت السيدة “فاطمة النجار”، وهي تحمل رشاشاً، وخلفها يافطة، كتب عليها كتائب الشهيد عز الدين القسام:

(أقدم نفسي لله، وفداء للوطن وللأقصى، وأتمنى أن يتقبل الله مني هذا العمل، وأقدم نفسي للمعتقلين والمعتقلات، وأسأل الله أن يفك أسرهم، ويتقبل منا جميعاً، كل التحية إلى أبي العبد هنية رئيس الوزراء، ومحمد الضيف القائد العام لكتائب الشهيد عز الدين القسام، وإلى الشهداء أجمعين، وأسأل الله عز وجل أن يجمعنا مع الشهداء في جنات النعيم، وأسأل الله أن يهدي أولادي وبناتي إلى المساجد، وأرجو من عائلتي توزيع الحلوى عند سماع نبأ استشهادي).

فمن هى “الحاجة فاطمة النجار” ؟

الميلاد والنشأة :

ولدت الاستشهادية فاطمة عمر محمود جمعة النجار في 25 يونيو/ حزيران من عام 1936م، في مدينة حيفا، وقضت من عمرهــــا 70 عاماً، من التضحيات, وهي أم لــسبعة أبناء وبنتين وشقيقة لأربع أخوات، وجدة لــ 81 حفيداً، اثنين منهم شهداء، أحدهما يدعى عادل (18 عاماً)، استشهد خلال اجتياح بلدة جباليا في عام 2002م، والآخر يدعى شعبان الذي نفذ عملية استشهادية في معبر بيت حانون “إيريز”، في التسعينات.

و كانت عضواً فاعلاً في الجمعية الإسلامية للشابات المسلمات، في جباليا البلد، كانت تحفظ القرآن الكريم، وسعت دائماً إلى تحفيظه، وعقد الندوات الدينية في المساجد، والمشاركة الدائمة في كافة الجنازات، لشهداء البلدة وخارجها، كانت تحرص كل الحرص، على تربية أبنائها وأحفادها التربية الإسلامية، فكانت تحثهم على الصلاة في المساجد منذ صغرهم، كما ربتهم على حب الوطن، فكانت الأم الحنون في بيتها، فجسدت موقفاً وحدوياً بينها وبين أبنائها، حيث أنها كانت من أشد المنتمين، إلى كتائب الشهيد عز الدين القسام، ومع ذلك كان لديها من الأبناء والأحفاد، من ينتمي إلى فصائل أخرى، فمثلت البيت الفلسطيني الواحد، الذي يضم الفصائل المتعددة، على الساحة الفلسطينية، كانت الحاجة فاطمة النجار، الأم والجدة، التي تنبض بالحنان، لأولادها وأحفادها، فتقوي الجانب الايجابي في حياتهم، من خلال متابعتها لهم في كل الأمور، وتحفيظهم القران الكريم، وإقامة الصلاة معهم، وخاصة صلاة الفجر والعشاء، وكانت تصطحبهم معها إلى المسجد، لتأدية الصلوات المعتادة، فكان أن أثمرت هذه الشجرة الطيبة ستة من الحفاظ للقران الكريم، وهم ما يزالون ماضين في المشوار.

شاهدت الحاجة أم محمد بأم عينها، المذابح والمجازر، التي يقوم بها العدو الصهيوني، والظلم الواقع على أهل فلسطين، من تدمير للحجر، والشجر، والبشر، مما جعلها دوماً تفكر في الانتقام، من هذا العدو الجبان، فبدأت تبحث عن الطريق، التي يمكن أن توصلها إلى ذاك الدرب، حتى أصبحت حمامة من حمامات المسجد العمري الكبير بجباليا، وكانت إحدى المحافظات على صلاة الجماعة، إضافة إلى التزامها بصلاة التراويح في شهر رمضان، ودروس العلم والتربية في المساجد.

محطات جهادية في حياة الشهيدة:

كان للحاجة فاطمة النجار، سجل حافل بالجهاد والتضحية، في الانتفاضة الأولى في الثمانينات، وقد أنجبت رجالاً لهم سجل جهادي أيضا،ً لقد كان بيتها الذي يسكن فيه ما يقارب من العشرين فرداً، مسكناً للمجاهدين والمطاردين، ومأوىً لهم، فقد ساعدت المجاهدين، وقدمت لهم الطعام والشراب، ووفرت لهم المسكن، وكان على رأس أولئك المجاهدين القائد عماد عقل، والشهيد صهيب نبهان، والشهيد حسن حمودة، والعديد من قيادات القسام، كانت تعارك العدو عند إقدامه على اعتقال أحد أبنائها، وتمنعه من اعتقاله، واستمر هذا الوفاء، والعطاء المتواصل، من الحاجة فاطمة، حتى أقدمت قوات العدو في الانتفاضة الأولى، على هدم بيتها المكون من طبقتين، حتى أحالته إلى ركام، واعتقلت ابنيها صابر وجهاد، وحكم عليهما بالسجن لمدة عشر سنوات، وطورد بقية أبنائها، ومن تبقى منهم كان نصيبه السجن أو الإصابة، فلم يفت ذلك في عزيمتها وإرادتها، بل واصلت المسيرة في طريق العزة والكرامة.

وفي انتفاضة الأقصى المباركة عام 2000م، شاركت الحاجة في فعاليات الانتفاضة المختلفة، فكانت دوماً السباقة للمسيرات والفعاليات والمهرجانات، التي تنظمها حركة حماس، إلى جانب مشاركتها في فعل الخير، وتميزت بمشاركتها مئات المدنيين الفلسطينيين، الذين شكلوا دروعاً بشريّة، على أسطح وداخل عدد من المنازل، التي هدّد الجيش الصهيوني بقصفها، مما جعل قوات الاحتلال، تتراجع عن تدمير هذه المنازل، كما تعززت فكرة تنفيذ عملية استشهادية في داخلها، وهي ترى الشهداء والجرحى، انتقاماً وثأراً لدمائهم التي روت تراب فلسطين الغالية.

مسيرة فدائيات الحصار:

شاركت الحاجة فاطمة النجار، في حملة فدائيات الحصار، التي قادتها النائب في المجلس التشريعي، الأستاذة جميلة الشنطي، مع نساء شمال غزة، في عملية فك الحصار، عن المجاهدين في مسجد النصر، في بيت حانون، فخرجت فاطمة النجار من الفجر، وكانت تتقدم المسيرة، وتنادي بالتقدم والثبات، وتقول: والله إنها لإحدى الحسنيين، إما النصر وإما الشهادة، وتدعو الله أن تنال الشهادة هناك، في ميدان المواجهة والصمود، لكن الله سبحانه وتعالى لم يكتب لها ذلك، وادخرها لتكون أول جدة فلسطينية عربية تفجر نفسها في هذا العدو المجرم، كانت أول من اقتحم مسجد النصر، هجمت على الجرافة الضخمة، التي تقدمت لإعاقة النساء، فما كان من الجرافة إلا أن حملتها ورفعتها، ثم قذفت بها إلى الأرض، وأكرم الله الفدائيات في هذه الحملة بفك الحصار، وإخراج المجاهدين بسلام، لكن رغم فرحة الحاجة فاطمة بالنصر، والنجاح الكبير في فك الحصار عن المجاهدين، إلا أنها كانت حزينة، لأنها كانت تتمنى أن تنال الشهادة في هذه العملية الفدائية.

العملية الاستشهادية:

بعد مسيرة فدائيات الحصار، ذاقت الحاجة فاطمة النجار حلاوة الانتصار، وشاهدت جبن المحتل، فعاهدت الحاجة ربها، أن تقدم نفسها شهيدة لله، ولهذا الوطن الغالي، في عمل بطولي، ينتقم لأرواح الشهداء، ومعاناة الأسرى والمكلومين، فطالبت المجاهدين، في كتائب الشهيد عز الدين القسام، أن يلبّوا لها هذه الأمنية، وقد كانت تلح عليهم بهذا الطلب مرات ومرات، وما هي إلا أيام، وبدأ التوغل الصهيوني شرق جباليا، فاستجابت الكتائب لطلبها، وأحبت أن ترسل للعالم رسالة قوية، بتقديم هذه الحاجة الجدة في عملية استشهادية، تم تحضيرها لتكون على أتم الجاهزية لتنفيذها، وتم تسجيل وصيتها، وفي يوم الخميس 2 ذو القعدة 1427هـ، الموافق23 /11/2006م، اعتلت القوات الخاصة الصهيونية أحد المنازل شرقي جباليا، وكان المجاهدون يرصدونهم بدقة، وكانت خطة العملية، أن تُفجر الحاجة فاطمة النجار نفسها، في القوات الخاصة الصهيونية، التي تعتلي هذا المنزل، وعندما حانت ساعة الصفر، ووقت الانتقام، تزنّرت الاستشهادية “أم الفدائيات”، بحزام ناسف على وسطها، وأخذت طريقها إلى المنزل، أمام مرأى جنود الاحتلال وآلياته، متجهة إلى ذاك البيت، فلم يكن أحد يتوقع أن تكون هذه العجوز مقدمة على تنفيذ عملية استشهادية، وما أن وصلت إلى باب ذاك المنزل، وطرقت الباب، حتى تقدم إليها خمسة من أفراد القوات الخاصة الصهيونية، لفتح باب البيت، ومعرفة سبب خروج هذه العجوز لهم، ففتحوا الباب، وفجّرت أم محمد جسدها الطاهر بهم مباشرة، لتحولهم إلى أشلاء متناثرة، وأجساد ممزقة، وقد اعترف الاحتلال الصهيوني حينها، رغم تكتمه على النتائج، بمقتل جندي، وإصابة ثلاثة من جنوده، إثر هذه العملية الاستشهادية .

وهكذا أبت “أم الفدائيات”، وهو اللقب الذي نالته بعد استشهادها، إلا أن تواصل طريقها، بخطى ثابتة، نحو درب الشهادة، وكان لها ما تمنَّت وأرادت، ووُزِّعت الحلوى بعد استشهادها، كما أوصت في وصيتها.

بعض ما قيل في الاستشهادية فاطمة النجار:

قــالــوا:

لقد أقامت الحجة والبرهان، على كل قادر، فحتى كبار السن، يبقون النجوم في سمــاء الجهاد والاستشهاد، وليس هناك أية حجة، لإسقاط المقاومة، والدفاع عن أرض المسرى، وأقامت كذلك الحجة، على كل قادر متأخر عن الجهاد.

قــالــوا:

من قال أنها استشهادية فحسب، بل هي قاعدة حربية بكاملها، إرادة وتصميم، انتماء وولاء، حب للوطن، نصرة للدين، لله درك أمنا الحبيبة فاطمة، أقول هنيئا لتراب فلسطين، أنه سيضمك، ويتحنى بدمك الطاهر الزكي، الذي علم العالم، أنه دم طاهر نقي، يرفض الذل والعار، ليس كالدماء التي تجري في عروق أهل الخيانة، هنيئا أمنا بجنة الله، بل هي الجنان، ونسأل خالقنا أن يلحقنا بك، وقد رضي عنا، وقبلنا عنده واصطفانا من الشهداء.

قــالــوا:

إنه فخر كبير لنا، وعار على حكامنا المتخاذلين، والله إن النصر قريب، وقريب جداً، ما دام في هذا الشعب أم كهذه، وأتمنى لو أن كل نساء هذا الشعب، كمثل هذه الشجاعة، التي علمت أذناب أمريكا، كيف تكون العزة والكرامة، وحب الله، والجنة والثار، يا من تصفدون أسلحتكم لكي يأكلها الصدأ.

قــالــوا:

العملية التي نفذتها الاستشهادية فاطمة النجار ‘ أم الفدائيات ‘، من كتائب القسام، جاءت امتداداً لصور كثيرة، قدمتها المرأة الفلسطينية المجاهدة، في تصديها للعدوان الصهيوني، على شعبنا الفلسطيني، لتؤكد للاحتلال الصهيوني، أن الشعب الفلسطيني، شباباً وشيوخاً ونساءً، قرروا مقاومة الاحتلال، ورفضوا العيش بذل ومهانة .

قالوا :

صحيح أن الحاجة فاطمة، أكبر سيدة فلسطينية تنفذ عملية استشهادية، ضد قوات الاحتلال، ولكن هذا أمر لا يجب أن يدعو للاستغراب والدهشة، فأمام عيون الشهيدة، أسر العدو أبناءها، ونكّلوا بهم، وأمام عيونها استشهد أحفادها، ورحل أقاربها، فكيف لا تذهب للشهادة، وكيف لا تقاوم، كلنا في فلسطين، الرجال والنساء، حتى الأطفال، نريد أن نتفجر في هذا الاحتلال، الذي دمر لنا كل شيء.