الخصائص الثمانية للداعية الناجح

بقلم /  محمد عادل

لا شك أن سيد الدعاة وأسوتهم وقائدهم هو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد حوى صفات الكمال البشري، فحقق الله تعالى على يديه إقامة الدعوة الربانية الخالدة. ومن كان مقتدياً في أي جانب من جوانب الحق والخير فليقتد به صلى الله عليه وسلم، وسيكون في مرتبة أعلى، كلما كان اقتداؤه أدقّ وأكمل.

 

وبما أن استجماع صفات الخير لا يتوافر إلا للندرة من البشر، فلا أقل من أن يحرص الداعية على استجماع أقصى ما يستطيع من هذه الصفات. ولقد ينجح داعية في دعوته مع وجود ضعفٍ ظاهر عنده في صفة أو أكثر، لكن هذا –في الغالب- يكون مترافقاً بتفوق ظاهر في الصفات الأخرى.

 

ولسنا نزعم أن ما سنذكره من خصائص الداعية الناجح قد أحاط بالموضوع إحاطة جامعة مانعة، لكنه قد أشار إلى شيء كثير منها، والله أعلم.

 

أهم خصائص الداعية الناجح:

 

  1. أن يؤمن إيماناً يملأ شعاب نفسه بالفكرة التي يدعو إليها.

 

فمن كان متشككاً بما يدعو إليه، أو كان ضعيف الإيمان به، فلن يُنتظر منه أن ينجح في دعوة الآخرين إليه.

 

والأنبياء –عليهم صلوات الله وسلامه- هم سادة الدعاة، ولذلك كان إيمانهم بالدين الذي يدعون إليه إيماناً راسخاً، فوق المستوى الذي يمكن أن يتحقق لعامة المؤمنين. وهذا بعض ما نفهمه من قوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى. قال: أولم تؤمن؟ قال بلى، ولكن ليطمئن قلبي…). (البقرة: 260).

 

وقوله سبحانه: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا..). (الإسراء: 1).

 

وقد قرأنا في كتب الحديث النبوي والسيرة بعض ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة من آيات ربه.

 

وعندما أراد الكفار من قوم نوح أن يسفّهوا دعوته (قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بيّنةٍ من ربي وآتاني رحمةً من عنده فعُمّيتْ عليكم؟! أنلزمكموها وأنتم لها كارهون؟). (هود: 28).

 

والداعية الناجح يعمل على تقوية إيمانه بمختلف الطرق الفكرية والنفسية والروحية… وبمجاهدة هواه، ومجاهدة أصحاب الأهواء… وبالتزام الفرائض والسنن والآداب… والاحتراز من المعاصي والشبهات…

 

  1. أن يصدع بالحق الذي يدعو إليه.

 

وهذه الخصيصة تكاد تكون نتيجة مباشرة لما قبلها. لكن النص عليها أمر في غاية الأهمية. إذ كيف يكون داعية وهو يكتم دعوته، ويتخوّف من إعلانها؟!

 

نعم قد تقف العوائق الثقيلة لتمنع المسلم من إعلان دعوته فيكون معذوراً، لكنه لا يكون داعية في هذه الحال. إنما يكسب صفة الداعية إذا أعلن دعوته، يوم تزول تلك العوائق.

 

وقد يكتفي المسلم بالدعوة بالحال والسلوك المستقيم، إما لظروف تحيط به، مؤقتة أو دائمة، وإما لضعف في قدرته على البيان والتعبير، وقد يحقق نجاحات كبيرة بهذا الأسلوب، ويكون له الأجر العظيم من الله تعالى.

 

وقد تقتضي مصلحة الدعوة أن يكتم بعض الدعاة مشاعرهم، ويسكتوا عن البيان… لكن هذا له ظروفه وضوابطه… وهم في هذه الحال أيضاً يكونون قد توقفوا عن واجب الدعوة، ولعل توقّفهم هذا لحكمة وسداد، إذا كانوا يقومون بدور آخر يخدم الدعوة خدمات جُلَّى قد تظهر ثمرتها على المدى البعيد.

 

والمهم في هذا وذاك أن يتحرك الداعية بدعوته، ويصدع بها ويعمل على نشرها… ولا يتوقف عن ذلك –إذا توقف- ترجيحاً لمصلحة شخصية، أو خوفاً من أذى يصيبه. فإذا توقّف لهذه الأسباب فقد يكون معذوراً أو غير معذور، لكنه لا يكون داعية.

 

  1. أن ينسجم سلوكه مع فكرته.

 

وقد عاب القرآن الكريم على قوم لا يلتزمون بما يدعون إليه فقال لهم: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون؟). (البقرة: 44) وقال لبعض المؤمنين: (يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون؟). (الصف: 2).

 

بل إن دعاةً ناجحين كانت تنقصهم الفصاحة وقوة المحاجّة، أو كانت ظروف عملهم لا تسمح لهم بالحديث في شؤون الدين… لكنهم كانوا دعاة بسلوكهم النظيف المتميّز واستقامتهم.

 

كما أن بعض من انتظم في سلك الدعاة وقف مواقف ضعيفة أو مشبوهة، أو سلك مسالك منحرفة… فشهد بمواقفه وسلوكه شهادة زور ضد فكرة الحق التي دعا إليها من قبلُ بلسانه.

 

  1. أن تكون مقتضيات الدعوة في نفسه وفي سلوكه فوق أي اعتبار آخر.

 

وإذا لم يكن بإمكان الإنسان أن يتحرر من اعتباراته الشخصية والأسرية والحزبية والعشائرية والبلدية والقومية… فإنه لا يجوز أن تكون أي من هذه الاعتبارات فوق مقتضيات الدعوة، أو منافِسةً لها. بل إن الداعية الصادق قد يوظف ما أمكنه من تلك الاعتبارات في مصلحة الدعوة ومقتضياتها.

 

ولنلاحظ كيف وظَّف النبي صلى الله عليه وسلم اعتبارات القبلية وأعرافها في مصلحة الإسلام، من غير أن يقدّم أي تنازل عن دعوته ومبدئه. وكذلك فعل أصحابه الكرام.

 

  1. أن يكون مستعداً للتضحية في سبيل دعوته.

 

المبدأ الذي يعتنقه إنسان، ويدعو إليه، ويجمّع الناس حوله يحتاج منه إلى التضحية بوقته وجهده وماله وكرامته الشخصية… بل التضحية بنفسه عند الحاجة، وتحمُّل ألوان الأذى من أعدائه… فإذا كان ممن يبخل بشيء من ذلك، أو ينكص على عقبيه أمام أي فتنة…فقد انكشف وسقط (وكأين من نبيٍ قاتل معه ربّيّون كثير، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعُفوا وما استكانوا. والله يحب الصابرين). (آل عمران: 146).

 

  1. أن يتحرى الحكمة في أساليب الدعوة.

 

ويندرج تحت الحكمة نقاط كثيرة، كلما راعاها الداعية كان ذلك أدعى لنجاحه:

 

– فمن ذلك أن يخاطب الناس بما يعرفون ويفهمون. وأول ذلك أن يكلّمهم بلغتهم (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم). (إبراهيم: 4).

 

وأن يكون الكلام واضحاً جليّاً تستسيغه النفس، ويستوعبه العقل، من غير لبس، ومن غير حاجة إلى كدٍّ وتعب.

 

– وأن يكون كلامه بأسلوب بليغ عذب محبّب، فيه الاستشهاد بكلام الله تعالى وكلام رسوله، وبما طاب من الأشعار والأمثال والقصص الهادفة، والنكتة اللطيفة المهذّبة.

 

– وأن يكون مشحوناً بعاطفة جيّاشة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرّت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول: صبّحكم ومسّاكم.

 

وامتزاج العاطفة الجيّاشة مع الفكرة العميقة، يعطي الكلام قدرة فائقة على دخول القلوب، والاستقرار في النفوس، واقتناع العقول، والتفاعل مع الفكرة.

 

– وأن يلوّن الأساليب ليراعي تباين النفوس (أو ما يُسمّى بالفروق الفردية) وتباين الظروف والأحوال. فرُبَّ أسلوب يُفلح مع إنسان ولا يفلح مع آخر ويناسب ظرفاً ولا يناسب سواه… ومن الحكمة اتّباع أسلوب وآخر بين فقرة وأخرى، ومجلس ومجلس، وفرد وفرد… وهذا جانب مما نفهمه من قوله تعالى: (ولقد صرّفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل). (الكهف: 54). أي ضربنا الأمثال على أنحاء شتى، لتقوم الحجة على الناس كافة.

 

– وأن يقول القول اللين، الذي يحبّب ولا ينفّر، ويقرّب ولا يبعِّد، ويستثير المشاعر النبيلة، ولا يحرك مشاعر العزة بالإثم… وهذا كله لا يعني المساومة على موضوع الدعوة. ولقد أرسل الله تعالى رسولين من رسله (عليهم جميعاً صلوات الله) إلى عدوّه فرعون، وأمرهما بقوله: (فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى). (طه: 44). ومن خلال ما نقرؤه في كتاب الله، عما جرى من حوار بين النبيَّين الكريمين وبين فرعون، نجد مُراعاة أدب الخطاب، مع المحافظة على نقاء دعوة الحق ونصاعة المبدأ. فاللين في الأسلوب، غير المساومة على الفكرة.

 

  1. سعة الاطّلاع.

 

ومما يعين على التزام الحكمة وجعل الكلام أكثر مضاءً وأعمق تأثيراً وأكثر قبولاً أن يكون الداعية عارفاً بنفوس المدعويّن، واسع الاطلاع على الاتجاهات الفكرية السائدة فيهم، وعلى التيارات السياسية، كثيرَ المطالعة في شتّى فنون العلم والفكر والأدب… فإن هذا كله يعطيه ثروة كبيرة من المعارف والأساليب تجعله يفرض احترامه على نفوس الآخرين، وتمكنه من إقامة الحجة وحسن عرض الفكرة…

 

  1. وضوح معالم الإسلام وأحكامه في تصوّره.

 

أي أن يكون سلّم الأولويّات والموازنات واضحاً في ذهنه، فيقدّم ما يستحق التقديم، ويؤخر ما يناسبه التأخير، وأن يلحظ حجم كل مسألة، سواء من حيث الأصل، أو من حيث مناسبتها للحال التي يواجهها، وهنا يفيد أن نضرب أمثلة:

 

– الداعية يجب أن يوجّه قلوب الناس واهتمامهم إلى الآخرة، وينبههم إلى أن الدنيا مزرعة للآخرة وطريق. فحين يجد انهماكهم في شؤون الدنيا وإعراضهم عن الآخرة فيكفي أن يركّز على الاهتمام بالآخرة، ويكتفي بإشارات سريعة إلى إعمار الدنيا. وحين يرى من يهمل الكسب والتخطيط ومقاومة الفساد… بحجة تعلقه بالآخرة… ينبه إلى أهمية إعمار الدنيا وفق شرع الله.

 

– حين الحديث عن المرأة ودورها في الحياة، يجنح بعض الدعاة، خضوعاً منهم للقيم الغربية السائدة، فيزعمون أن المرأة كالرجل، وكل ما كان لأحدهما من حقوق فهو للآخر، ويجنح بعضهم باتجاه آخر فيُهمِّشون دور المرأة ويحصرونه في إمتاع الرجل وحضانة الطفل… والحق أن الرجل والمرأة مخلوقان كريمان على الله، متكاملان في واجباتهما وحقوقهما، مع أن نقاط التشابه والتماثل كثيرة جداً، ولكن نقاط التمايز واضحة كذلك، يشهد على ذلك نصوص الكتاب والسنة، وممارسة المجتمع الإسلامي منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

 

– احترام الرأي المخالف والمحافظة على الثوابت. فعلى الداعية أن يفسح المجال أمام أبنائه وتلامذته… لإبداء الآراء، من غير أن يمارس عليهم إرهاباً فكرياً، وهو مع ذلك يؤكد بشكل مباشر وغير مباشر أن هناك ثوابت شرعية في العقيدة والتشريع والأخلاق… ليست محل نقاش.

 

(والله يقول الحق وهو يهدي السبيل). (الأحزاب: 4)