الدعاة والتغيير

التغيير في واقع الدعوة ومحيط الدعاة يتوقف على بذلهم ما في الوسع؛ لتتوجه الجهود إلى العمل الجاد في التغيير الذي يبدأ من داخل النفس، ومن داخل الصف المسلم، ومن ثَم تنفذ فيهم سنة الله تعالى في التغيير؛ بناءً على تعرضهم لهذه السنة من خلال سلوكهم وأعمالهم: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في مكة يمثلون الجماعة التي أخذت على عاتقها مسئولية التغيير، وحماية الحق الذي آمنت به، وإن كان من وراء ذلك جفوة الأهل وسخط العشيرة، وعذاب الملأ من قريش ونكالهم.

فلم يصرفهم الاضطهاد والفتنة عن أن يضطلعوا بأعباء الدعوة، ويسعوا جاهدين إلى تغيير ما بأنفسهم، وتغيير واقعهم من واقعٍ شركي إلى واقع إيماني، يقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11].

إذًا التغيير من الأمن إلى الخوف، ومن الغنى إلى الفقر، ومن الوحدة إلى الشتات، ومن القوة إلى الضعف، ومن النصر إلى الهزيمة، ومن حال إلى حال، هو بإذن الله تعالى، بسبب سنة حقت على هؤلاء القوم، فهم غيرَّوا فغيرَّ الله تعالى ما بهم، كما قال الشاعر:

لو أَنصفوا أُنصفوا لكن بغوا فبغى عليهم الدهر بالأرزاء والنوب.

الطبيعة البشرية والتغيير:

إن هذا الكائن مخلوق مزدوج الطبيعة، مزدوج الاستعداد، مزدوج الاتجاه، ونعني بكلمة مزدوج على وجه التحديد أنه بطبيعة تكوينه، من طين الأرض ومن نفخة الله فيه من روحه، مزود باستعدادات متساوية للخير والشر، والهدى والضلال، فهو قادر على التمييز بين ما هو خير وما هو شر، كما أنه قادر على توجيه نفسه إلى الخير وإلى الشر سواء، وأن هذه القدرة كامنة في كيانه، يعبر عنها القرآن بالإلهام تارة: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)} [الشمس:7-8]، ويعبر عنها بالهداية تارة: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10]، فهي كامنة في صميمه في صورة استعداد، والرسالات والتوجيهات والعوامل الخارجية إنما توقظ هذه الاستعدادات وتشحذها وتوجهها هنا أو هناك، ولكنها لا تخلقها خلقًا؛ لأنها مخلوقة فطرة، وكائنة طبعًا، وكامنة إلهامًا.

وهناك إلى جانب هذه الاستعدادات الفطرية الكامنة قوة واعية مدركة، موجهة في ذات الإنسان، هي التي تناط بها التبعة، فمن استخدم هذه القوة في تزكية نفسه وتطهيرها وتنمية استعداد الخير فيها، وتغليبه على استعداد الشر، فقد أفلح، ومن أظلم هذه القوة وخبأها وأضعفها فقد خاب: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} [الشمس:9-10].

وهنالك إذًا تبعة مترتبة على منح الإنسان هذه القوة الواعية، القادرة على الاختيار والتوجيه؛ توجيه الاستعدادات الفطرية القابلة للنمو في حقل الخير وفي حقل الشر سواء، فهي حرية تقابلها تبعة، وقدرة يقابلها تكليف، ومنحة يقابلها واجب.

ورحمة من الله بالإنسان لم يدعه لاستعداد فطرته الإلهامي، ولا للقوة الواعية المالكة للتصرف، فأعانه بالرسالات التي تضع له الموازين الثابتة الدقيقة، وتكشف له عن موحيات الإيمان، ودلائل الهدى في نفسه وفي الآفاق من حوله، وتجلو عنه غواشي الهوى؛ فيبصر الحق في صورته الصحيحة، وبذلك يتضح له الطريق وضوحًا كاشفًا لا غبش فيه ولا شبهة، فتتصرف القوة الواعية حينئذ عن بصيرة وإدراك لحقيقة الاتجاه الذي تختاره وتسير فيه.

هذه النظرة المجملة إلى أقصى حد تنبثق منها جملة حقائق ذات قيمة في التوجيه التربوي؛ فهي أولًا ترتفع بقيمة هذا الكائن الإنساني، حين تجعله أهلًا لاحتمال تبعة اتجاهه، وتمنحه حرية الاختيار (في إطار المشيئة الإلهية التي شاءت له هذه الحرية فيما يختار)، فالحرية والتبعة يضعان هذا الكائن في مكان كريم، ويقرران له في هذا الوجود منزلة عالية، تليق بالخليقة التي نفخ الله فيها من روحه وسواها بيده، وفضلها على كثير من العالمين.

وهي ثانيًا تلقي على هذا الكائن تبعة مصيره، وتجعل أمره بين يديه، في إطار المشيئة الكبرى، فتثير في حسه كل مشاعر اليقظة والتحرج والتقوى، وهو يعلم أن قدر الله فيه يتحقق من خلال تصرفه هو بنفسه: {إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11]، وهي تبعة ثقيلة لا يغفل صاحبها ولا يغفو! وهي ثالثًا تشعر هذا الإنسان بالحاجة الدائمة للرجوع إلى الموازين الإلهية الثابتة، ليظل على يقين أن هواه لم يخدعه، ولم يضلله؛ كي لا يقوده الهوى إلى المهلكة، ولا يحق عليه قدر الله فيمن يجعل إلهه هواه.

وبذلك يظل قريبًا من الله، يهتدي بهديه، ويستضيء بالنور الذي أمده به في متاهات الطريق، ومن ثم فلا نهاية لما يملك هذا الإنسان أن يصل إليه من تزكية النفس وتطهيرها، وهو يغتسل في نور الله الفائض، ويتطهر في هذا العباب الذي يتدفق حوله من ينابيع الوجود.

إنه لا يغير نعمة أو بؤسى، ولا يغير عزًا أو ذلة، ولا يغير مكانة أو مهانة…، إلا أن يغير الناس من مشاعرهم وأعمالهم وواقع حياتهم، فيغير الله ما بهم وفق ما صارت إليه نفوسهم وأعمالهم، وإن كان الله يعلم ما سيكون منهم قبل أن يكون، ولكن ما يقع عليهم يترتب على ما يكون منهم، ويجيء لاحقًا له في الزمان بالقياس إليهم.

وإنها لحقيقة تلقي على البشر تبعة ثقيلة، فقد قضت مشيئة الله وجرت بها سنته، أن تترتب مشيئة الله بالبشر على تصرف هؤلاء البشر، وأن تنفذ فيهم سنته بناءً على تعرضهم لهذه السنة بسلوكهم، والنص صريح في هذا لا يحتمل التأويل، وهو يحمل كذلك، إلى جانب التبعة، دليل التكريم لهذا المخلوق، الذي اقتضت مشيئة الله أن يكون هو بعمله أداة التنفيذ لمشيئة الله فيه.

إن مشيئة الله في تغيير حال قوم إنما تجري وتنفذ من خلال حركة هؤلاء القوم بأنفسهم، وتغيير اتجاهها وسلوكها تغييرًا شعوريًا وعمليًا، فإذا غَيَّر القوم ما بأنفسهم اتجاهًا وعملًا غير الله حالهم وفق ما غيروا هم من أنفسهم، فإذا اقتضى حالهم أن يريد الله بهم السوء مضت إرادته ولم يقف لها أحد، ولم يعصمهم من الله شيء، ولم يجدوا لهم من دونه وليًا ولا نصيرًا.

فأما إذا هم استجابوا لربهم، وغيروا ما بأنفسهم بهذه الاستجابة، فإن الله يريد بهم الحسنى، ويحقق لهم هذه الحسنى في الدنيا أو في الآخرة، أو فيهما جميعًا، فإذا لم يستجيبوا أراد بهم السوء، وكان لهم سوء الحساب، ولم تغن عنهم فدية إذا جاءوه، غير مستجيبين، يوم الحساب.

وواضح من النص الثاني أن الاستجابة أو عدم الاستجابة راجعة إلى اتجاههم وحركتهم، وأن مشيئة الله بهم إنما تتحقق من خلال هذه الحركة وذلك الاتجاه.

التغيير سنة الله في الكون:

أرشدنا سبحانه في محكم آياته إلى أن الأمم ما سقطت من عرش عزها، ولا بادت ومحي اسمها من لوح الوجود إلا بعد نكوبها عن تلك السنن، التي سنها الله على أساس الحكمة البالغة، إن الله لا يغير ما بقوم، من عزة وسلطان ورفاهة وخفض عيش وأمن وراحة، حتى يغير أولئك ما بأنفسهم من نور العقل، وصحة الفكر، وإشراق البصيرة، والاعتبار بأفعال الله في الأمم السابقة، والتدبر في أحوال الذين جاروا عن صراط الله فهلكوا، وحل بهم الدمار، ثم لعدولهم عن سنة العدل، وخروجهم عن طريق البصيرة والحكمة، حادوا عن الاستقامة في الرأي، والصدق في القول، والسلامة في الصدر، والعفة عن الشهوات، والحمية على الحق، والقيام بنصره، والتعاون على حمايته، خذلوا العدل، ولم يجمعوا هممهم على إعلاء كلمته، واتبعوا الأهواء الباطلة، وانكبوا على الشهوات الفانية، وأتوا عظائم المنكرات، خارت عزائمهم، فشحوا ببذل مهجهم في حفظ السنن العادلة، واختاروا الحياة في الباطل على الموت في نصرة الحق، فأخذهم الله بذنوبهم، وجعلهم عبرة للمعتبرين.

هكذا جعل الله بقاء الأمم ونماءها في التحلي بالفضائل التي أشرنا إليها، وجعل هلاكها ودمارها في التخلي عنها، سنة ثابتة لا تختلف باختلاف الأمم، ولا تتبدل بتبدل الأجيال، كسنته تعالى في الخلق والإيجاد، وتقدير الأرزاق، وتحديد الآجال.

علينا أن نرجع إلى قلوبنا، ونمتحن مداركنا، وتَسَيُّرَ أخلاقنا، ونلاحظ مسالك سيرنا، لنعلم هل نحن على سيرة الذين سبقونا بالإيمان، هل نحن نقتفي أثر السلف الصالح؟ هل غير الله ما بنا قبل أن نغير ما بأنفسنا، وخالف فينا حكمه، وبدل في أمرنا سنته؟ حاشاه وتعالى عما يصفون؛ بل صدقنا الله وعده، حتى إذا فشلنا وتنازعنا في الأمر، وعصيناه من بعد ما أرى أسلافنا ما يحبون، وأعجبتنا كثرتنا فلم تغن عنا شيئًا، فبدل عزنا بالذل، وسُمُوَّنا بالانحطاط، وغنانا بالفقر، وسيادتنا بالعبودية.

نَبَذْنا أوامر الله ظهريًا، وتخاذلنا عن نصره، فجازانا بسوء أعمالنا، ولم يبق لنا سبيل إلى النجاة والإنابة إليه.

كيف لا نلوم أنفسنا، ونحن نرى الأجانب عنا يغتصبون ديارنا، ويستذلون أهلها، ويسفكون دماء الأبرياء من إخواننا، ولا نرى في أحد منا حراكًا؟

هذا العدد الوافر، والسواد الأعظم من هذه الملة لا يبذلون في الدفاع عن أوطانهم وأنفسهم شيئًا من فضول أموالهم، يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة، كل واحد منهم يود لو يعيش ألف سنة، وإن كان غذاؤه الذلة، وكساؤه المسكنة، ومسكنه الهوان، تفرقت كلمتنا شرقًا وغربًا، وكاد يتقطع ما بيننا، لا يحن أخ لأخيه، ولا يهم جار بشأن جاره، ولا يرقب أحدنا في الآخر إلًا ولا ذمة، ولا نحترم شعائر ديننا، ولا ندافع عن حوزته، ولا نعززه بما نبذل من أموالنا وأرواحنا حسبما أمرنا.

فلينظر كل إلى نفسه، ولا يتبع وساوس الشيطان، وليمتحن كل واحد قلبه قبل أن يأتي يوم لا تنفع فيه خلة ولا شفاعة، وليطابق بين صفاته وبين ما وصف الله به المؤمنين، وما جعله من خصائص الإيمان، فلو فعل كل منا ذلك لرأينا عدل الله فينا واهتدينا.

وقد ذكر الله تعالى عددًا من القصص منها قصة سبأ، وذكر ما كانوا فيه: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ(17)} [سبأ:15-17].

إذًا، حقت عليهم سنة من سنن الله تعالى كما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم قصة الثلاثة، الأبرص والأقرع والأعمى، وكيف تغيرت أحوالهم، من حسن إلى قبيح، ومن قبيح إلى حسن بسبب أعمالهم.

وفي حديث جرير بن عبد الله أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ما مِن قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقْدرون أن يغيِّروا فلا يغيرون إلاَّ أصابَهم الله بعقاب».

سُنّة التغيير سنة اجتماعية نفسية:

التغيير تعبير عن حركة دائمة تكتنف المخلوقات، ولكنه من الأشياء المكروهة أو البغيضة على نفوس البعض، فالبعض يحب وضع نفسه داخل دائرة للأشياء التي تريحه ويكره أن يغيرها، ويطلق عليها (دائرة ارتياحي)، ويميل إلى التحرك في إطارها، فلابد أن يتعلم الإنسان كيف يوازن بين الالتزام بالثوابت واستيعاب المتغيرات، فبعض التغييرات حتمية وضرورية؛ حتى يستطيع الإنسان التأقلم مع المحيط الخارجي والبيئة.

قوله تعالى: {قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)} [الزخرف:22-23].

إنه مجرد المحاكاة ومحض التقليد، بلا تدبر ولا تفكر ولا حجة ولا دليل.

إن لكل منا إمكانياته العقلية، وطاقاته الذاتية، التي يستطيع من خلالها الوصول لأعلى درجات الإيجابية، ولكن المشكلة أننا نرفض أحيانًا أن نتغير، حتى لو كنا نعرف أن عدم تغيرنا يُديم ما نحن فيه.

أمور ينبغي التنبّه إليها:

قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال:53].

الأمر الأول: إن السُّنّة الموجودة في الآية الكريمة سنة عامة، تنطبق على كل البشر، بدليل أن كلمة (قوم)، ومجيئها نكرة في الآية يدل على هذا.

الأمر الثاني: إن الآية الكريمة تبين أن هذه السنّة اجتماعية لا فردية؛ إذًا فالحديث عن قوم، عن مجتمع له خصائصه بما يشمل من الرجال والنساء، والصغار والكبار، فمضمون الآية الكريمة ليس محاسبة الأفراد، وإنما محاسبة المجتمع، وتغيير ما بالمجتمع على أساس العمل الجماعي.

الأمر الثالث: إن الغاية المستفادة من (حتى) هي غاية متسعة؛ لأن المجتمعات إذا غيرت ما بأنفسها من هدى الله، أمهلها سبحانه وتعالى زمنًا، ثم أرسل إليها الرسل، ثم أمهلها مدة لتبليغ الدعوة إليها، فإذا أصرّت على الكفر غيّر الله عز وجل نعمته عليها، بإبدالها بالعذاب أو الذل أو الأسر، أو نقص في الأنفس والأموال والثمرات.

الأمر الرابع: ورود كلمة (نعمة) في سورة الأنفال بدلًا من كلمة (ما) في سورة الرعد يدل على التعميم والتخصيص؛ إذ إن كلمة (نعمة) أخص من كلمة (ما)؛ لأن كلمة (ما) تشمل النعم والنقم، بينما كلمة (نعمة) خاصة بالنعمة، لكنها مع ذلك عامة في جميع أنواع النعم، ولا سيما أنها جاءت نكرة، فكلمة (نعمة) تشمل: الصحة، والقوة، والغنى، ونجابة الأولاد، ونظافة المساكن، والتماسك الاجتماعي، والمحبة، والمودة، والإخاء، والتعاون… إلخ.

الأمر الخامس: إن التغيير الذي ينبغي أن يحدث أولًا: هو التغيير الذي جعله الله عز وجل مهمة المجتمع وواجب أفراده، وإن حدوث أي تهاون في الخلط بينه وبين التغيير الذي يخص الله جل ذكره يفقد هذه السُّنَّة فعالياتها وفائدتها.

والرجاء بأن يُحْدِث الله تعالى التغيير الذي يخصه قبل أن يقوم المجتمع بمهمة التغيير، التي أناطه الله عز وجل به، يفضي إلى إبطال دور الإنسان ومكانته ومسئوليته، وما منحه الله سبحانه من مقام الاستخلاف في الأرض.

الأمر السادس: إن سلوك الإنسان وتصرفاته هي نتيجة لأفكاره، وبتعبير أدق لما بنفسه، فإذا تغير ما بنفس الإنسان، سواءً كان بجهده أو بجهد غيره، فإن سلوكه لا محالة يتغير، وهذا التغيير يمكن أن يصل إلى درجة النقيض، كأن يتحول الإقدام إلى إحجام، أو الشجاعة إلى جبن، أو السرور إلى حزن، والعكس الصحيح؛ فإذا تغير ما بالنفس تغير حالًا سلوك الإنسان، ولا يعود يملك سيطرة على قواه، ويخضع خضوعًا كاملًا لما حل بنفسه، فمن يملك القدرة على تغيير ما بالنفس يملك أن يغير ما بالقوم.

شروط سنة التغيير:

العقيدة السليمة:

قال تعالى: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)} [النحل:112-113].

وهذه القرية هي مكة المشرفة، التي كانت آمنة مطمئنة، لا يهاج فيها أحد، وتحترمها الجاهلية الجهلاء، حتى إن أحدهم يجد قاتل أبيه وأخيه فلا يهيجه، مع شدة الحمية فيهم، والنعرة العربية، فحصل لها من الأمن التام ما لم يحصل لسواها، وكذلك الرزق الواسع.

كانت بلدة ليس فيها زرع ولا شجر، ولكن يسر الله لها الرزق يأتيها من كل مكان، فجاءهم رسول منهم يعرفون أمانته وصدقه، يدعوهم إلى أكمل الأمور، وينهاهم عن الأمور السيئة، فكذبوه وكفروا بنعمة الله عليهم، فأذاقهم الله ضد ما كانوا فيه، وألبسهم لباس الجوع الذي هو ضد الرغد، والخوف الذي هو ضد الأمن، وذلك بسبب صنيعهم وكفرهم وعدم شكرهم، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.

النواة الصلبة المؤثرة:

ارتباط هذه السنة الربانية بالتمكين للأمة الإسلامية واضح غاية الوضوح، ذلك أن التمكين لا يمكن أن يتأتى في ظل الوضع الحالي للأمة الإسلامية، فلابد من التغيير، كما أن التمكين لن يتحقق لأمة ارتضت لنفسها حياة المذلة والتخلف، ولم تحاول أن تغير ما حل بها من واقع، وأن تتحرر من أسره.

الزمان الكافي لإنضاج عملية التغيير:

إن التغيير الذي قاده النبي صلى الله عليه وسلم بمنهج الله تعالى بدأ بالنفس البشرية, وصنع منها الرجال العظماء، ثم انطلق بهم ليحدث أعظم تغيير في شكل المجتمع، حيث نقل الناس من الظلمات إلى النور، ومن الجهل إلى العلم، ومن التخلف إلى التقدم، وأنشأ بهم أروع حضارة عرفتها الحياة.

لقد قام النبي صلى الله عليه وسلم، بمنهجه القرآني، بتغيير في العقائد والأفكار والتصور وعالم المشاعر والأخلاق في نفوس أصحابه, فتغير ما حوله في دنيا الناس، فتغيرت المدينة، ثم مكة، ثم الجزيرة، ثم بلاد فارس والروم, في حركة عالمية تُسَبِّح وتذكر خالقها بالغدو والآصال.