الرجولة ونهضة الأمة

               إن الرجل سر حياة الأمم ومصدر نهضاتها وإن تاريخ الأمم جميعاً إنما هو تاريخ من ظهر بها من الرجال النابغين الأقوياء النفوس والإرادات .

وإن قوة الأمم أو ضعفها إنما تقاس بخصوبتها في إنتاج الرجال الذين تتوفر فيهم شرائط الرجولة الصحيحة

وإني اعتقد ـ والتاريخ يؤيدني ـ أن الرجل الواحد في وسعه أن يبني أمة إن صحت رجولته ، وفي وسعه أن يهدمها كذلك إذا توجهت هذه الرجولة إلى ناحية الهدم لا ناحية البناء ..

وقد شاءت لنا الظروف أن ننشأ في هذا الجيل الذي تتزاحم الأمم فيه بالمناكب وتتنازع البقاء أشد التنازع وتكون الغلبة دائماً للقوي السابق ..

وشاءت لنا الظروف كذلك أن نواجه نتائج أغاليط الماضي ونتجرع مرارتها ، وأن يكون رأب الصدع وجبر الكسر ، وإنقاذ أنفسنا وأبنائنا ، واسترداد عزتنا ومجدنا ، وإحياء حضارتنا وتعاليم ديننا ..

وشاءت لنا الظروف كذلك أن نخوض لجة عهد الانتقال الأهوج ، حيث تلعب العواصف الفكرية والتيارات النفسية والأهواء الشخصية بالأفراد وبالأمم وبالحكومات وبالهيئات وبالعالم كله ، وحيث يتبلل الفكر وتضطرب النفس ويقف الربان في وسط اللجة يتلمس الطريق ويتحسس السبيل وقد اشتبهت عليه الأعلام وانطمست أمامه الصور ووقف علي رأس كل طريق داع يدعوا إليه في ليل دامس معتكر وظلمات بعضها فوق بعض ، حتى لا تجد كلمة تعبر بها عن نفسية الأمم في مثل هذا العهد أفضل من “الفوضى” ..

كذلك شاءت لنا ظروفنا أن نواجه كل ذلك وأن نعمل على إنقاذ الأمة من الخطر المحدق بها من كل ناحية . وإن الأمة التي تحيط بها ظروف كظروفنا ، وتنهض لمهمة كمهمتنا ، وتواجه واجبات كتلك التي نواجهها ، لا ينفعها أن تتسلى بالمسكنات أو تتعلل بالآمال والأماني .

وإنما عليها أن تعد نفسها لكفاح طويل عنيف وصراع قوي شديد : بين الحق والباطل وبين النافع والضار وبين صاحب الحق وغاصبه وسالك الطريق وناكبه وبين المخلصين الغيورين والأدعياء المزيفين .

وأن عليها أن تعلم أن الجهاد من الجهد ، والجهد هو التعب والعناء ، وليس مع الجهاد راحه حتى يضع النضال أوزاره وعند الصباح يحمد القوم السرى .

وليس للأمة عدة في هذه السبيل الموحشة إلا النفس المؤمنة والعزيمة القوية الصادقة والسخاء بالتضحيات والإقدام عند الملمّات وبغير ذلك تغلب علي أمرها ويكون الفشل حليف أبنائها.

وإن الآمال الكبيرة التي تطوف برؤوس المصلحين من رجالات هذه الأمة ، والظروف العصيبة التي نجتازها تطالبنا بإلحاح بتجديد نفوسنا وبناء أرواحنا بناءً غير هذا الذي أبلته السنون وأخلقته الحوادث وذهبت الأيام بما كان فيه من مناعة وقوة ، وبغير هذه التقوية الروحية والتجديد النفسي لا يمكن أن نخطو إلى الأمام خطوة .

إذا علمت هذا وكنت معي أن هذا المقياس أصح وأدق في نهضات الأمم والشعوب فاعلم أن الغرض الأول الذي يرمى إليه الإخوان المسلمين (التربية الصحيحة ) : تربية الأمة على النفس الفاضلة والخلق النبيل السامي ، وإيقاظ ذلك الشعور الحي الذي يسوق الأمم إلى الذود على كرامتها والجد في استرداد مجدها وتحمل كل عنت ومشقة في سبيل الوصول إلى الغاية ..

ولعلك تسأل بعد هذا : وما الوسائل التي اتخذها الإخوان المسلمين لتجديد نفوسهم وتقويم أخلاقهم ؟ وهل جرب الإخوان هذه الوسائل ؟ وإلى أي مدى نجحت تجربتهم ؟ وموعدنا الكلمات التالية ان شاء الله .

تحديد الوسيلة واعتماد المبدأ

قد علمت أيها القارئ الكريم أن الإخوان المسلمين يقصدون أول ما يقصدون إلى تربية النفوس وتجديد الأرواح وتقوية الأخلاق وتنمية الرجولة الصحيحة في نفوس الأمة ، وقد يعتقدون أن ذلك هو الأساس الأول الذي تبنى عليه نهضات الأمم والشعوب .

وقد استعرضوا وسائل ذلك وطرائق الوصول إليه فلم يجدوا فيها أقرب ولا أجدى من الفكرة الدينية استمساك بالأهداب (الدين) .

الدين الذي يحيى الضمير ويوقظ الشعور وينبه القلوب ، ويترك مع كل نفس رقيباً لا يغفل وحارساً لا يسهو وشاهداً لا يجامل ولا يحابى ولا يضل ولا ينسى ، يصاحبها في الغدوة والروحة والمجتمع والخلوة ، ويراقبها في كل زمان ويلاحظها في كل مكان ، ويدفعها إلى الخيرات دفاعاً ويدعها عن المآثم دعاً ، ويجنبها طريق الذلل ويبصرها سبيل الخير والشر : (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) (الزخرف:80) .

الدين : الذي يجمع أشتات الفضائل ويلم أطراف المكارم ويجعل لكل فضلة جزاء ولكل مكرمة كفاءً ويدعو إلى تزكية النفوس والسمو بها وتطعير الأرواح وتصفيتها (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا , وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس:9-10) .

الدين : الذي يدعو إلى التضحية في سبيل الحق ، والفناء في إرشاد الخلق ، ويضمن لمن فعل ذلك أجزل المثوبة ، ويد لمن سلك هذا النهج أحسن الجزاء , ويقدر الحسنة وان صغرت ويزن السيئة وان حقرت ، ويبدل الفناء في الحق خلوداً والموت في الجهاد وجوداً .

(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (آل عمران:169) (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) (الأنبياء:47) .

الدين:الذي يشترى من المرء هذه الأغراض الدنيوية وتلك المظاهر المادية بسعادة تمتلئ بها نفسه ويهنأ بها قلبه من فضل الله ورحمته ورضوانه ومحبته . (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ) (النحل:96)

الدين : الذي يجمع كل ذلك ، ثم هو بعد يصافح الفطرة ويمازج القلوب ويخالط النفوس فيتحد بها وتتحد به ، ويتخلل ذرات الأرواح ويساير العقول فلا يشذ عنها ولا تنبو عنه .. يهش له الفلاح في حقله ، ويفرح به الصانع في معمله ، ويفهمه الصبي في مكتبه ، ويجد ويجد لذته وحلاوته العالم في بحوثه ، ويسمو بفكرته الفيلسوف في تأملاته .

وهل رأيت على نفوس البشر سلطاناً من الدين ؟ وهل رأيت في تاريخ البشرية أعظم تأثيراً في حياة الأمم والشعوب منه وهل رأيت للفلاسفة والعلماء ما كان من التأثير البليغ للمرسلين والأنبياء ؟

لا وأبيك فإنما الدين قبس من روح الله السارية في ذرات هذه النفوس وفطرها يضئ ظلامها وتشرق بنوره ويأوي إليها فتهش له .فإذا تمكن منها كان كل شئ له فداء :

(قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة:24) .

الدين : الذي يسمو بقدسيته وجلاله فوق كل نفس ، ويعلو علي كل رأس ، ويجل عن الاختلاق ، ويتنزه عن التقليد والمحاكاة ، فيوحد بذلك بين القلوب ويؤلف بين النفوس ، ويقطع مادة النزاع ، ويحسم أصول الخلاف ، ويزيد ذلك ثباتاً وقوة بتوجيه القلوب إلى الله وحده ، وصرف النفوس عن الأغراض والمطامع والشهوات واللذائذ ، والسمو بالمقاصد والأعمال إلى مراتب المخلصين الصادقين الذين يبتغون بعملهم وجه الله لا يرجون من ورائه جزاءً ولا شكوراً , (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (الشورى:13)

الدين : الذي يسمو بالوفاء إلى درجة الشهادة ، ويعده فريضة يسأل بين يدي الله عنها ، وفضيلة يتقرب بها إلى الله بها ، ودليلاً علي الرجولة الكاملة والعزيمة الصادقة , (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً , لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ) (الأحزاب:23-24) .

الدين : مجتمع الفكر الصائبة ومعقد الآمال المتشعبة ورمز الأماني الفردية والاجتماعية والقومية والعالمية وذلك تعبير له تعبير , (وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) (المنافقون:8) .

رأى قوم أن يصلحوا من أخلاق الأمة عن طريق العلم والثقافة ، ورأى آخرون أن يصلحوه عن طريق الأدب والفن ، ورأي غيرهم أن يكون هذا الإصلاح عن طريق أساليب السياسة ، وسلك غير هؤلاء طريق الرياضة

وكل أولئك أصابوا في تحديد معاني هذه الألفاظ أو أخطأوا ، وسددوا أو تباعدوا ، وليس هذا مجال النقد والتحديد ولكن أريد أن أقول أن الإخوان المسلمين رأوا أن أفعل الوسائل في إصلاح نفوس الأمم : (الدين).

ورأوا إلى جانب هذا أن الدين الإسلامي جمع محاسن كل هذه الوسائل وبعد عن مساوئها فاطمأنت إليه نفوسهم وانشرحت به صدورهم وكان أول وسائلهم العملية في تطهير النفوس وتجديد الأرواح : (تحديد الوسيلة واختيار المبدأ) وعلي هذا الأساس وضعت (عقيدة الإخوان المسلمين) مستخلصة من كتاب الله وسنة رسوله لا تخرج عنهما قيد شعرة .

{رسالة هل نحن قوم عمليون للامام الشهيد حسن البنا}