“الزمن”، “القضية”، “والتضحية”…أمانة ثورة أداها الإخوان..

بقلم/ سكينة إبراهيم

من العسير الحديث عن علاقة الإخوان بالثورة بشكل موجز أو عل عجل..فهي علاقة تمتد بعمق المعني الثوري نفسه، واتساعه لقضية الوطن علي امتداد زمني عابر للعقود..
ولكن يمكننا هنا استخدام آليات تحليل بسيطة تُقرب إلي الأذهان طبيعة تلك العلاقة التي باتت بشكل أو بآخر ترادفية يستدعي كل منهما الآخر..

تبدأ تلك العلاقة بالعمق الزمني منذ تأسيس جماعة الإخوان؛ حيث الإرتباط الذي لا فكاك منه بين معني الإسلام ومنهجيته ومرجعيته للكون والحياة، وبين تطبيق هذا المنهج في الحياة بما يعنيه من قيم الحرية والعدل والمساواة والشوري، وهي جميعها قيم شديدة الإلتصاق بالممارسات الإجتماعية والسياسية المختلة التي تفتحت أعين الإخوان عليها، ففقه الدين لا ينفصل في منهجهم عن فقه الحياة بل هو إطار للممارسة الحياتية وليس انفصالا عنها، كما أن أنين الشعب الذين هم جزء منه يحدوهم دوما إلي البحث عن سبل للخلاص له ليحقق ما هو جدير به من رغد عيش وأمان ومستقبل مشرق..
خاض الإخوان لتحقيق تلك المآرب كافة السبل المتاحة، وكان منهجهم الإصلاحي في ذلك يبحث عن كافة الثغور ليقف عليها، فيؤسس الجمعيات الأهلية ليمد من خلالها يد العون لكل محتاج، وينشيء المستشفيات ومراكز الرعاية والعلاج في سعي مباشر لحل مشكلات الناس الاقتصادية والاجتماعية، فضلا عن مؤسسات التربية والتعليم والمدارس والمساجد والتي كانوا يعملون فيها علي تنشئة أجيال تعرف معني المبدأ والقيمة، ويتأصل بداخلها مشاعر المسؤولية والإيجابية والعمل..

استمر سعي الإخوان في تأسيس الإنسان الحاضن لقيم الحرية والعدل، وهم في سعيهم هذا يحرصون علي زرع القيم ونشرها لا علي أخونة المجتمع وضمه إليهم، فما كان يعنيهم حجم التنظيم بقدر ما كان يعنيهم سيادة المبدأ، وتحرير الأفراد..

وتواصل العمل في الشق السياسي المباشر كما كان في شقه الإقتصادي والإجتماعي، فالمرجعية والرؤية الجامعة للحياة لا تتجزأ، وحرية الإنسان لا تعني كفايته بقوت عاجل ليومه، ولكنها تعني التأسيس المستمر والممتد بجيل يرث جيلا في أمة قوية بها من القوانين والتشريعات والنظام الحاكم ما يضمن تحقيق تلك الحرية والعدالة واللذان هما أولي قيم الإسلام وأكثر ما يحرص عليه، فحتي الدين نفسه يتأسس بداية علي حرية الإختيار والإعتقاد، وإلا لما كان هناك معني لإيمان شكلي ظاهري لا يقره القلب ويحويه عن رضي وقناعة..

تحاضنت بيئة الإخوان العاملة النشطة تلك مع فئات المجتمع جميعها، وعملت هي وغيرها من أصحاب المباديء من التيارات الأخري علي صناعة أرض خصبة لمعني المعارضة الراشدة، والتي ساهمت في فتح آفاق التفكير والمناقشة والإطلاع علي التجارب الأخري تاريخية ودولية..

كل ذلك حتي زاد الإحتقان العام في المجتمع من شدة المظالم وغياب أفق المستقبل الأفضل، كانت الثورة في نفوس الشعب موارة تتداعي أسبابها كثيفة متعاقبة حتي انفجر البركان وانتفض الشعب المصري رافضا مُصرا علي التغيير الكلي والشامل، والإخوان في ذلك بمحل القلب من هذا الشعب الذي انفجر، أما قرارهم الرسمي كمؤسسة فكان الإنحياز التام لإنتفاضة الشعب والوقوف جنبا إلي جنب معه في الميدان، وهم في ذلك لم يتخلوا أبدا عن مبدأ الإصلاح لديهم بل مارسوه بمعناه المناسب للمرحلة والذي يشير إلي تحري وجه المصلحة والتي اقتضت مؤازرة الشعب كتفا بكتف والقضاء الجذري علي مظاهر الفساد والاستبداد المستشري، بل إن منهجيتهم في هذا الإصلاح التحتي هي التي ربت تلك الأجيال علي المبدأ والقيمة، وهي التي أفرزت هذا الحراك الإيجابي الباحث عن حرية أوطانه، اجتهد الإخوان في الميدان كي يستمر الشعب محافظا علي سلميته وصبره فلا يحمل سلاحا أويسيل دماء أو يُحدث جراحا من الصعب بعد ذلك أن تندمل..ولذا فقد كانت فطنة الإخوان حينها هي المساهمة في صناعة “الثورة البيضاء” تلك زاهرة مبهجة مرتفعة الهامة محلا للإقتداء والتبجيل..

اجتهد الإخوان بعد ذلك مثل غيرهم في الممارسات والأحداث، حتي اقتضي الأمر أن يكونوا هم في مهب الريح، يأخذون الجرعات الأولي من الألم والمواجهة مع الدولة العميقة، وأصحاب المصالح، والمؤامرات الدولية والإقليمية، كل ذلك ما جعلهم بالفعل يقفوا ليتلقوا هم تلك الضربات الموجعة بعد تحمل تبعة الحكم والرئاسة، وهي الأمانة التي يحلو للبعض النظر في بريقها الزائف في حين أن أعماقها المؤلمة وباطنها الموجع هما ما جعلا الإخوان يقدمون عليها تحملا للمسؤولية وسعيا في تحقيق الحلم الثوري للشعب الكريم، وبالفعل فقد أيد الشعب مسعاهم واختارهم ووثق بهم، ولذا فقد كانوا وحتي تلك اللحظة ممن يعرف معني وقدر تلك المسوؤلية فلم يتنازل الرئيس المرشح من قبلهم عن تلك الشرعية وعن الأمانة التي في عنقه..

والحقيقة أن هذا الإستمرار هو أهم وأجدر ما يحسب للإخوان، فالكثيرون قد تبهرهم البدايات، ثم يتراجعون مع الثمن الباهظ المطلوب، كما قد تشغل البعض حياته الخاصة وطول الأمد الذي يحتاجه هذا الهدف الثوري المُرتجي، وحدهم الإخوان ومعهم القليل من أصحاب المباديء ممن يستمر إلي تلك اللحظة يرفع راية الثورة التي هي خيار الشعب، ويبيع حياته ومستقبله واستقراره مطمئنا لبذله راضيا محتسبا…

ويعد المعيار الموضوعي هو الوحدة الثانية في تحليل علاقة الإخوان بالثورة، فالأخيرة هي خيار الإجتثاث للظلم واستجلاب الإعمار والنماء، وقد فقه الإخوان في ممارستهم للعمل الثوري هذا المعني من مرجعيته القرآنية؛ حيث جاء الجذر القرآني لمفردة “ثور” في القرآن الكريم في خمسة مواضع؛ اثنتان منهما ارتبطتا بالأرض والإنماء والزرع، واثنتان ارتبطتا بالسحاب واستنزال المطر والاتجاه أيضا للإعمار والزرع والنماء، أما الخامسة فقد ارتبطت بمشهد حركة الخيل أو الإبل، وعليه فالثورة كمفهوم من حيث صفته فهو:”حركة وتفاعل في الكون واسعة وثّابة إما بانية من الأساس، أو بانية بعد اجتثاث الفساد”، ومن حيث مقصديته:” يسعى نحو النهوض والارتفاع والظهور ويعمل من أجل عمارة الأرض واستنبات الخير والرحمة”، وكل هذا مما يعني أن التدمير والإقتتال المصاحب للثورات في الكثير من التجارب ليس شرط أو واجب بالضرورة، خاصة إذا كانت هناك جماعات علي استعداد لدفع الثمن لذلك من حياتها هي وإستقرارها الخاص؛ وعليه كان استبعاد الخيار الدموي، ورفع الأيدي الفارغة من سلاح التدمير، الحاملة لهم الوطن ولائتلاف واتحاد أبنائه، هو خيار حافظت عليه الجماعة منذ التأسيس، كما أن المضمون الثوري الذي يعني هموم الجماهير ومشكلاتها وقضاياها العادلة كانت دائما أولي الأولويات الحاضرة دائما لديهم، كان ذلك قبل ثورة يناير وبعدها كما هو لم يتغير فيه شيء، إلا وسيلة الآداء ومنافذ العمل والحركة.

والحقيقة أن هذا الإستمرار في البعد الزمني، والحضور للموضوع الثوري الباني لا الهادم، كل هذا مما جعل وحدة التحليل الأخيرة هي المحك؛ لأنها الإمتحان العسير للأهداف النبيلة، فقد كانت التضحية والإخوان صنوان لم يفترقا، فقد فُتحت لهم السجون والمعتقلات، وسيلت دماؤهم في الشوارع والميادين، وأقيمت لهم المذابح وعُلقوا علي أعواد المشانق، وتحللت أجسادهم من هول التعذيب وقسوة السجان..الأمور جميعها المستمرة إلي الآن، وهم بالرغم من ذلك مازالوا صابرين صامدين تستمر تظاهراتهم وحراكهم وفعالياتهم التي تكلفهم أبهظ الأثمان، ولا تجد خطابا لهم إلا ويحمل معني الثورة، ويُذكر بها، ويُحفز الشعب علي الصمود والمثابرة والجلد، وقد كان ما أيسر أن يتخلوا وينعموا بالحياة الهادئة المستقرة، بل يكفيهم أن يعيشوا فقط ليلملموا جراحاتهم وآلامهم، ولهم من الأنين ما يكفي عذرا وحجة، لكنهم أبوا إلا أن يكملوا للشعب ثورته للنهاية، وأن يقفوا هم ولو بمفردهم في الميدان؛ يؤسسون بدمائهم مستقبل هذا الوطن وكرامة وحرية كل فرد فيه..