قال تعالى: ﴿ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب﴾ (سورة الحشر:7).

يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله: “تضع هذه الآية الكريمة قاعدة كبرى من قواعد التنظيم الاقتصادي والاجتماعي في المجتمع الإسلامي: ﴿كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم﴾ كما تضع قاعدة كبرى في التشريع الدستوري للمجتمع الإسلامي: ﴿وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا﴾.

والقاعدة الأولى، قاعدة التنظيم الاقتصادي، تمثل جانبا كبيرا من أسس النظرية الاقتصادية في الإسلام. فالملكية الفردية معترف بها في هذه النظرية. ولكنها محددة بهذه القاعدة. قاعدة ألا يكون المال دولة بين الأغنياء، ممنوعاً من التداول بين الفقراء. فكل وضع ينتهي إلى أن يكون المال دولة بين الأغنياء وحدهم هو وضع يخالف النظرية الاقتصادية الإسلامية كما يخالف هدفا من أهداف التنظيم الاجتماعي كله. وجميع الارتباطات والمعاملات في المجتمع الإسلامي يجب أن تنظم بحيث لا تخلق مثل هذا الوضع أو تبقي عليه إن وجد.  ولقد أقام الإسلام بالفعل نظامه على أساس هذه القاعدة. ففرض الزكاة. وجعل حصيلتها في العام اثنين ونصف في المائة من أصل رؤوس الأموال النقدية، وعشرة أو خمسة في المائة من جميع الحاصلات. وما يعادل ذلك في الأنعام. وجعل الحصيلة في الركاز وهو كنوز الأرض مثلها في المال النقدي. وهي نسب كبيرة. ثم جعل أربعة أخماس الغنيمة للمجاهدين فقراء وأغنياء بينما جعل الفيء كله للفقراء. وجعل نظامه المختار في إيجار الأرض هو المزارعة – أي المشاركة في المحصول الناتج بين صاحب الأرض وزارعها. وجعل للإمام الحق في أن يأخذ فضول أموال الأغنياء فيردها على الفقراء. وأن يوظف في أموال الأغنياء عند خلو بيت المال. وحرم الاحتكار. وحظر الربا. وهما الوسيلتان الرئيسيتان لجعل المال دولة بين الأغنياء. وعلى الجملة أقام نظامه الاقتصادي كله بحيث يحقق تلك القاعدة الكبرى التي تعد قيدا أصيلا على حق الملكية الفردية بجانب القيود الأخرى. ومن ثم فالنظام الإسلامي نظام يبيح الملكية الفردية، ولكنه ليس هو النظام الرأسمالي، كما أن النظام الرأسمالي ليس منقولا عنه، فما يقوم النظام الرأسمالي إطلاقا بدون ربا وبدون احتكار، إنما هو نظام خاص من لدن حكيم خبير. نشأ وحده. وسار وحده، وبقي حتى اليوم وحده. نظاما فريدا متوازن الجوانب، متعادل الحقوق والواجبات، متناسقا تناسق الكون كله. مذ كان صدوره عن خالق الكون. والكون متناسق موزون.

وأما القاعدة الثانية  قاعدة تلقي الشريعة من مصدر واحد: ﴿وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا﴾ فهي كذلك تمثل النظرية الدستورية الإسلامية. فسلطان القانون في الإسلام مستمد من أن هذا التشريع جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم – قرآنا أو سنة. والأمة كلها والإمام معها لا تملك أن تخالف عما جاء به الرسول. فإذا شرعت ما يخالفه لم يكن لتشريعها هذا سلطان، لأنه فقد السند الأول الذي يستمد منه السلطان.. وهذه النظرية تخالف جميع النظريات البشرية الوضعية، بما فيها تلك التي تجعل الأمة مصدر السلطات، بمعنى أن للأمة أن تشرع لنفسها ما تشاء، وكل ما تشرعه فهو ذو سلطان. فمصدر السلطات في الإسلام هو شرع الله الذي جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم – والأمة تقوم على هذه الشريعة وتحرسها وتنفذها – والإمام نائب عن الأمة في هذا – وفي هذا تنحصر حقوق الأمة. فليس لها أن تخالف عما آتاها الرسول في أي تشريع. فأما حين لا توجد نصوص فيما جاء به الرسول بخصوص أمر يعرض للأمة فسبيلها أن تشرع له بما لا يخالف أصلا من أصول ما جاء به الرسول. وهذا لا ينقض تلك النظرية، إنما هو فرع عنها. فالمرجع في أي تشريع هو أن يتبع ما جاء به الرسول إن كان هناك نص. وألا يخالف أصلا من أصوله فيما لا نص فيه. وتنحصر سلطة الأمة – والإمام النائب عنها – في هذه الحدود. وهو نظام فريد لا يماثله نظام آخر مما عرفته البشرية من نظم وضعية. وهو نظام يربط التشريع للناس بناموس الكون كله. وينسق بين ناموس الكون الذي وضعه الله له والقانون الذي يحكم البشر وهو من الله. كي لا يصطدم قانون البشر بناموس الكون، فيشقى الإنسان أو يتحطم أو تذهب جهوده أدراج الرياح، وتربط الآية هاتين القاعدتين في قلوب المؤمنين بمصدرهما الأول.. وهو الله.. فتدعوهم إلى التقوى وتخوفهم عقاب الله: ﴿واتقوا الله إن الله شديد العقاب﴾ وهذا هو الضمان الأكبر الذي لا احتيال عليه، ولا هروب منه”(في ظلال القرآن، بتصرف).

مفهوم العدالة الاجتماعية:

يعرفها د إبراهيم العيسوي بأنها: “تلك الحالة التى ينتفى فيها الظلم والاستغلال والقهر والحرمان من الثروة أو السلطة أو من كليهما، والتى يغيب فيها الفقر والتهميش والإقصاء الاجتماعى وتنعدم فيها الفروق غير المقبولة اجتماعيا بين الأفراد والجماعات والأقاليم داخل الدولة، والتى يتمتع فيها الجميع بحقوق اقتصادية واجتماعية وسياسية وبيئية متساوية وحريات متكافئة ولا تجور فيها الأجيال الحاضرة على حقوق الأجيال المقبلة، والتى يعم فيها الشعور بالإنصاف والتكافل والتضامن والمشاركة الاجتماعية، والتى يتاح فيها لأفراد المجتمع فرص متكافئة لتنمية قدراتهم وملكاتهم ولإطلاق طاقاتهم من مكامنها ولحسن توظيف هذه القدرات والطاقات بما يوفر لهؤلاء الأفراد فرص الحراك الاجتماعى الصاعد، وبما يساعد المجتمع على النماء والتقدم المستدام، وهى أيضا الحالة التى لا يتعرض فيها المجتمع للاستغلال الاقتصادى وغيره من آثار التبعية لمجتمع أو مجتمعات أخرى، ويتمتع بالاستقلال والسيطرة الوطنية على القرارات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية”(الشروق).

وتعرف  بحسب الرؤية القرآنية ـ بأنها: “رعاية الحقوق العامة للمجتمع والأفراد، وإعطاء كل فرد من أفراد المجتمع ما يستحقه من حقوق واستحقاقات، والتوزيع العادل للثروات بين الناس، والمساواة في الفرص، وتوفير الحاجات الرئيسة بشكل عادل، واحترام حقوق الإنسان المعنوية والمادية”(إخوان ويكي ). 

والعدالة الاجتماعية فى الإسلام  جزء من النظام الإسلامي القائم علي العدل المطلق الشامل لكل جوانب الحياة ومع جميع البشر. يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله: “العدالة في الإسلام عدالة إنسانية شاملة لكل جوانب الحياة الإنسانية، وليست مجرد عدالة اقتصادية محدودة، لأن الحياة في الإسلام ليست علاقات مادية مقطوعة، وإنما هي  تراحم وتواد وتعاون وتكافل بين المسلمين على وجه خاص، وبين جميع أفراد الإنسانية على وجه عام”(العدالة الاجتماعية في الإسلام، بتصرف).

وقد استخدم  الشيخ عبد الوهاب خلاف رحمه الله تعبير العدالة في السياسة المالية للدولة ليدل علي  الجانب الاقتصادي من مضمون العدالة الاجتماعية  ويظهر ذلك من قوله: “السياسة المالية للدولة هي تدبير مواردها ومصارفها بما يكفل سد النفقات التي تقتضيها المصالح العامة من غير إرهاق للأفراد ولا إضاعة لمصالحهم الخاصة. وهي إنما تكون عادلة إذا تحقق فيها أمران: الأول: أن يراعى في الحصول على الإيراد العدل والمساواة بحيث لا يطالب فرد بغير ما يفرضه القانون ولا يفرض على فرد أكثر مما تحتمله طاقته وتستدعيه الضرورة. الثاني: أن يراعى في تقسيم الإيراد جميع مصالح الدولة على قدر أهميتها بحيث لا تراعى مصلحة دون أخرى ولا يكون نصيب المهم أوفر من نصيب الأهم”(السياسة الشرعية في الشئون الدستورية والخارجية والمالية).

العدالة الاجتماعية حياة للمجتمع ومصدر لقوته:

يقوم التشريع الإسلامي علي رعاية مصالح العباد؛ فالشريعة كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله “عدل كلها ورحمة كلها ومصلحة كلها فما خرج عن العدل إلي الجور ومن الرحمة إلي ضدها ومن المصلحة إلي المفسدة فليست من الشريعة في شئء وإن أدخلت فيها بالتأويل”، ومن جملة المصالح التي يحققها الإسلام من خلال تشريعاته الاقتصادية ومنظومته الأخلاقية أن يكون المجتمع قوياً متماسكاً تسوده روح الود  والتعاون، وتختفي منه الأحقاد والصراعات،  و هو ما يسميه علماء الاجتماع بالسلام الاجتماعي “فالزكاة وسائر أنواع الصدقات أوجبت على ذوي الأموال في مقابل تمتعهم بحقين: أحدهما أمانهم على أنفسهم وأموالهم من أضغان المعوزين وأطماعهم، لأن المحاويج إذا لم يكن لهم من مال ذوي المال نصيب كان خطرًا عليهم وعلى أموالهم. وثانيها تمتعهم باستغلال مرافق الدولة في سبيل تزكية هذه الأموال وتنميتها والمحافظة عليها. وقد جاءت الإشارة إلي ذلك في قول الله سبحانه: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ (التوبة: 103)، وقوله عز شأنه في وصف المتقين: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾(المعارج: 24-25)، وقوله في زكاة الزروع: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِه﴾ (الأنعام: 141) والجزية أوجبت على غير المسلمين كما أوجبت الزكاة على المسلمين في مقابل تمتعهم بحقوقهم، وأمانهم على أنفسهم وأموالهم لأن أهل الكتاب ينتفعون بمرافق الدولة العامة كما ينتفع المسلمون وهم لا تجب عليهم الزكاة وأنواع الصدقات الواجبة على المسلمين لأنهم غير مخاطبين بفروع الشريعة فأوجبت عليهم الجزية بدلا من الزكاة التي أوجبت على المسلمين، ولهذا إذا أسلم واحد منهم سقطت عنه الجزية وأوجبت عليه أداء الزكاة في ماله إن كان ذا مال فهي كسائر الموارد الإسلامية واجب في نظير حقوق” (عبد الوهاب خلاف، السياسة الشرعية في الشئون الدستورية والخارجية والمالية).

أسس العدالة الاجتماعية في الإسلام:

  • الحرية: يري الشهيد سيد قطب أن الحرية أحد أهم أسس العدالة الاجتماعية في المجتمع الإسلامي لا يمكن أن تتحقق بدونها، ولذلك فهو يؤكد علي: “التحرر الوجداني من الجبن والخوف والشرك والطمع والكبر وعبادة المال والجاه والحسب والنسب”(العدالة الاجتماعية في الإسلام). فالتحرر من هذه القيم السلبية يرسخ لقيمة العدالة الاجتماعية ويحاصر الظلم الاجتماعي، سواء بتحرر الإنسان من الخوف فتزداد شجاعته في المطالبه بحقه ورفضه للظلم الواقع عليه، أو بتحررالإنسان من عبادة المال فلا يظلم غيره ولا يعتدي علي حق من حقوقه وبذلك تتحقق العدالة الاجتماعية.
  • المساواة: فالإسلام يسوي بين الناس جميعاً في الحقوق والواجبات، ولا يميز بين الناس علي أساس العقيدة، أو اللغة، أو اللون، أو الجنس، أو الطبقة، أو المهنة، أو الإقليم الجغرافي، أو غير ذلك من أسس التمييز؛ فالعدالة الاجتماعية في الإسلام “نابعة من الضمير ومصونة بالتشريع، انطلاقا من قاعدة: وحدة الجنس البشري في المنشأ والمصير، في المحيا والممات، في الحقوق والواجبات، أمام الله وأمام القانون. لهذا برئ الإسلام من العصبية الجاهلية والاستعباد والاستعلاء على الناس بالنسب والحسب والجنس، قال تعالى ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ الله أَتْقَاكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (الحجرات:13) ويقول عليه الصلاة والسلام«إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، مؤمن تقي وفاجر شقي، أنتم بنو آدم وآدم من تراب، ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن»(رواه أبو داود وحسنه الألباني) “(سيد قطب، العدالة الاجتماعية في الإسلام، بتصرف).
  • التكافل: فهو يمثل الضلع الثالث من أضلاع مثلث العدالة الاجتماعية التي تتحقق بتحرير إرادة الإنسان، وتحقيق المساواة في الحقوق والواجبات، ثم بالتكافل بين جميع شرائح المجتمع: “بين الفرد وذاته، وبين الفرد وأسرته، وبين الفرد والجماعة وبين الأمة والأمم، وبين الجيل والأجيال المتعاقبة”(سيد قطب، العدالة الاجتماعية في الإسلام، بتصرف).

العدالة الاجتماعية في الإسلام بين التشريعات الاقتصادية والمنظومة الأخلاقية:

اعتمد الإسلام في تحقيق العدالة الاجتماعية في المجتمع علي التشريعات الاقتصادية والمنظومة الأخلاقية معاً في توازن وتكامل فريد؛ فقد وضع الإسلام منظومة كاملة من التشريعات الاقتصادية التي تحقق العدالة الاجتماعية، وتراعي مصلحة الفرد والمجتمع في توازن وتناسق؛ وفي نفس الوقت جعل عمادها تقوي الله ومراقبته،

فالمالك الحقيقي للمال في الإسلام هو الله تعالي، والإنسان مستخلف فيه، ولهذا يخاطب الله الناس بقوله: ﴿آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ (الحديد:7)،

والملكية الفردية محترمة بشرط اكتساب المال من الحلال الخالص وإنفاقه في الحلال الخالص وإخراج حق الله تعالي منه.  يقول الشهيد عبد القادر عودة رحمه الله: ” ونستطيع في سهولة ويسر إذا رجعنا إلى ما لدينا من نصوص ورتبنا معلوماتنا ترتيبًا منطقيا أن نصل إلى نتيجة واحدة هي أن المال كله لله وأن البشر لا يملكون منه إلا حق الانتفاع به. فالله – جَلَّ شَأْنُهُ – هو الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما من شيء ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ (الأنعام: 102). ومنطقنا البشري يقتضي أن يكون خالق الشيء هو مالكه، وبهذا المنطق نفسه جاءت نصوص القرآن، فهي قاطعة في أن الله له ملك السماوات والأرض وما بينهما ولكن الله – جَلَّ شَأْنُهُ – استعمر البشر في الأرض: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ (هود: 61)، وسخر لهم كل ما خلق في السماوات والأرض وسلطهم عليه بقدر ما يستطيعون من استغلاله واستثماره: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾ (لقمان: 20)، ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ﴾ (الجاثية: 13). ولم يسخر الله ملكه لفرد دون فرد، أو لفئة دون فئة، وإنما سخره للبشر جميعا وجعله مشاعا بين عباده الذين استخلفهم في الأرض ليعيشوا فيه وينتفعوا به، فما يعيش أحد منهم في ملكه، وما ينتفع إلا بملك الله، وليس أحد منهم أحق بملك الله من غيره، وقدجعل الله منفعته لكل البشر: فهم فيه سواء”(المال والحكم في الإسلام).

والعدالة الاجتماعية في الإسلام ترتكز علي دعامتين: “التكليف القانوني داخل المجتمع، والضمير البشري داخل الفرد فهي عدالة شاملة، وتتطلب وسائل شاملة كذلك، أي: وازع فردي(الضمير) كالرحمة، والصدقة، والتسامح، والعطف، والإيثار…الخ، ووازع السلطة التشريعية(الشريعة) ويتمثل في الأحكام القانونية والتنفيذ الحكومي” (أحمد الفراك، قراءة في كتاب العدالة الاجتماعية في الإسلام، بتصرف) 

كما أن “سياسة المال في الإسلام تقوم على تحقيق العبودية لله وحده، وذلك بالخضوع لشرعه حتى تتحقق مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة، وذلك باعتماد وسيلتين اثنتين يقوم عليهما الإسلام في تحقيق أهدافه جميعا هما: التشريع: أي التشريع المالي الذي يرمي إلى تحقيق المجتمع الصالح. والتوجيه: أي توجيه التداول المالي لتطوير الحياة البشرية إلى الأحسن. لهذا يحفظ الإسلام المِلكية الفردية ويعاقب على الاعتداء عليها بأشد العقوبات، لكنها ليست حرية مطلقة على حساب مصلحة الجماعة، بل هي حرية تصرف وانتفاع تصب في بناء المجتمع التكافلي التكاملي الذي يحارب الترف والحرمان معاً بالزكاة، والصدقة، وهي حرية تخضع لمقومات الشرع سواء في تملك المال أو صرفه بالتوسط فلا إسراف ولا تقتير، أو تنميته بتحريم الربا والاحتكار”(أحمد الفراك، قراءة في كتاب العدالة الاجتماعية في الإسلام) .

والإسلام يعتمد في تحقيقه للعدالة الاجتماعية علي المنظومة الأخلاقية أكثر من اعتماده علي التشريعات والقوانين الخارجية. بل إن التشريعات الاقتصادية التي شرعها الاسلام لتحقيق العدالة الاجتماعية تؤدي كعبادة لله تعالي؛ ولذلك فإن الباعث الذاتي الداخلي علي أدائها أكبر بكثير من الدافع الخارجي الذي تعتمد عليه القوانين الوضعية. يقول الشيخ القرضاوي: “وفوق هذه الحقوق المفروضة, وتلك القوانين الملزمة, عمل الإسلام على تكوين النفس الخيرة, المعطية الباذلة, نفس الإنسان الذي يعطي أكثر مما يطلب منه, وينفق أكثر مما يجب عليه, بل يعطي بغير طلب ولا سؤال, وينفق في السراء والضراء,  وبالليل والنهار, سرا وعلانية, ذلك الذي يحب للناس ما يحب لنفسه, بل يؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة, ذلك الذي يعد المال وسيلة لا غاية, فيفيض قلبه بالخير فيضا, ويبسط يده بالعطاء بسطا, ابتغاء رضاء الله ومثوبته, لا حبا في جاه, ولا طلبا لسمعة أو شهرة , ولا خشية من عقوبة سلطان. قال تعالى ﴿من ذا الذي يقرض الله قرضا حسننا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون﴾(سورة البقرة: 245)” (يوسف القرضاوي، مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام, بتصرف).

 يقول الشهيد عبد القادر عودة رحمه الله: ” وأحكام الإسلام على تنوعها وتعددها أنزلت بقصد إسعاد الناس في الدنيا والآخرة، ومن ثم كان لكل عمل دنيوي وجه أخروي، فالفعل التعبدي، أو المدني، أو الجنائي أو الدستوري، أو الدولي له أثره المترتب عليه في الدنيا من أداء الواجب، أو إفادة الحل والملك، أو إنشاء الحق أو زواله، أو توقيع العقوبة، أو ترتيب المسؤولية، ولكن هذا الفعل الذي يترتب عليه أثره في الدنيا له أثر آخر مترتب عليه في الآخرة، هو المثوبة أو العقوبة الأخروية. ويبنى على كون الشريعة مقصودا بها إسعاد الناس في الدنيا والآخرة أن تعتبر وحدة لا تقبل التجزئة. وتمتاز الشريعة الإسلامية عن القانون الوضعي، بأنها مزجت بين الدين والدنيا، وشرعت للدنيا والآخرة وهذا هو السبب الوحيد الذي يحمل المسلمين على طاعتها في السر والعلن، والسراء والضراء لأنهم يؤمنون – طبقًا لأحكام الشريعة – بأن الطاعة نوع من العبادة يقربهم إلى الله، وأنهم يثابون على هذه الطاعة، ومن استطاع منهم أن يرتكب جريمة، ويتفادى العقاب فإنه لا يرتكبها مخافة العقاب الأخروي، وغضب الله عليه، وكل ذلك مما يدعو إلى قلة الجرائم وحفظ الأمن، وصيانة نظام الجماعة بعكس الحال في القوانين الوضعية فإنها ليس لها في نفوس من تطبق عليهم ما يحملهم على طاعتها، وهم لا يطيعونها إلا بقدر ما يخشون من الوقوع تحت طائلتها، ومن استطاع أن يرتكب جريمة ما – وهو آمن من سطوة القانون – فليس ثمة ما يمنعه من ارتكابها من خُلُقٍ أودين ولذلك تزداد الجرائم زيادة مطردة في البلاد التي تطبق القوانين، وتضعف الأخلاق، ويكثر المجرمون في الطبقات المستنيزة تبعًا لزيادة الفساد الخُلُقِي في هذه الطبقات، ولمقدرة أفرادها على التهرب من سلطان القانون”( الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه).

من وسائل تحقيق الجانب الاقتصادى من العدالة الاجتماعية في الإسلام:

  • الزكاة: “لقد فرض الله للفقراء في أموال الأغنياء حقا معلوما, وفريضة مقررة ثابتة هي الزكاة, فالهدف الأول من الزكاة هو إغناء الفقراء بها. والفقراء والمساكين هم أول  من تصرف لهم الزكاة, والزكاة ليست موردا هينا أو ضئيلا. أنها العشر أو نصف العشر من الحاصلات الزراعية من الحبوب والثمار والفواكه والخضروات وأيضا ربع عشر النقود و الثروة التجارية للأمة, أي 2.5% من نقود أو تجارة كل مسلم مالك للنصاب الشرعي, إذا كان خاليا من الدين, وفاضلا عن  حوائجه الأصلية. إن الزكاة بذلك تعد أول تشريع منظم في سبيل ضمان اجتماعي, لا يعتمد على الصدقات الفردية التطوعية, بل يقوم  على مساعدات حكومية  دورية  منتظمة, مساعدات غايتها  تحقيق الكفاية لكل  محتاج : الكفاية في المطعم و الملبس و المسكن وسائر حاجات الحياة, لنفس الشخص ولمن يعوله, في غير إسراف ولا تقتير. ولم يكن ذلك خاصاً بالمسلمين وحدهم, بل شمل كل من يعيش في ظل دولتهم من اليهود و النصارى”(يوسف القرضاوي، مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام, بتصرف).

فالزكاة وسيلة من وسائل تحقيق العدالة الاجتماعية وفي ذلك يقول الشهيد حسن البنا رحمه الله: “ليس في الدنيا تشريع فرض الضريبة على رأس المال لا على الربح وحده كالإسلام ، وذلك لحكم جليلة منها : محاربة الكنز وحبس الأموال عن التداول، وما جعلت الأموال إلا وسيلة لهذا التداول الذي يستفيد من ورائه كل الذين يقع في أيديهم هذا المال المتداول وإنما جعل الإسلام مصارف الزكاة اجتماعية بحتة لتكون سبباً في جبر النقص والقصور الذي لا تستطيع المشاعر الإنسانية والعواطف الطيبة أن تجبره ، فيطهر بذلك المجتمع ويزكو ، وتصفو النفوس وتسمو :  ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ (التوبة:103) “(رسالة النظام الاقتصادي).

  • إيجاب حقوق غير الزكاة:   فقد لا تفي الزكاة وحدها بسد حاجات الفقراء؛ فشرع الله تعالي هذه الحقوق وأوجبها لتجبر هذا النقص في كفاية الزكاة إن وجد؛ ومن هذه الحقوق: “
  • حق الجوار: الذي أمر الله برعايته في كتابه, وحض عليه الرسول في سنته, وجعل إكرام الجار من الإيمان, وإيذائه وإهماله من دلائل البراءة من الإسلام, قال الرسول صلى الله عليه وسلم «من كان يؤمن بالله واليوم الأخر فليكرم جاره»(متفق عليه)، إنه جعل للجار حقاً ولو كان غير مسلم. ومن هذه الحقوق: الأضحية في عيد الأضحى: وهي  في مذهب الحنفية  واجبة على الموسر لحديث «من كان عنده سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا»(رجح الألباني صحته في صحيح الجامع).
  • والكفارات: ومنها كفارات الحج وكفارة القتل الخطأ وكفارات الصوم وكفارة النذر وكفارة الظهار وكفارة اليمين وغيرها من الكفارات”(يوسف القرضاوي، مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام, بتصرف) ولا شك أن أداء هذه الحقوق يسهم في محاصرة الفقر، ويساعد في توزيع الثروة لينال الفقراء نصيبهم منها وبالتالي يسهم في تحقيق العدالة الاجتماعية.
  • تنظيم الضرائب بطريقة تصاعدية: فيعفي منها الفقراء، ويدفعها الأغنياء حسب رأس المال فكلما زاد رأس المال زادت نسبة الضريبة المحصلة عليه، يقول الشهيد حسن البنا رحمه الله: “لا بد من العناية بفرض ضرائب اجتماعية على النظام التصاعدي – بحسب المال لا بحسب الربح – يعفى منها الفقراء طبعاً، وتجبى من الأغنياء الموسرين وتنفق في رفع مستوى المعيشة بكل الوسائل المستطاعة. ومن لطائف عُمر رضى الله عنه، أنه كان يفرض الضرائب الثقيلة على العنب لأنه فاكهة الأغنياء، والضريبة التي لا تذكر على التمر لأنه طعام الفقراء, فكان أول من لاحظ هذا المعنى الاجتماعي في الحكام والأمراء رضى الله عنه”(رسالة النظام الاقتصادي) وهذه الوسيلة تساعد في تقريب الفجوة بين الدخول،  وتقلل من انتشار الفقر الشديد والثراء الفاحش.  وقد وضع العلماء شروطاً حتي يؤدي النظام الضريبى وظيفته في تحقيق العدالة الاجتماعية والنفع العام يقول الشيخ عبد الوهاب خلاف رحمه الله: “جباية الضرائب من الأفراد فيها استيلاء على جزء من مالهم وحرمان لهم من التمتع به. وهذا الحرمان إنما رخص فيه لأن الضرورة قضت به إذ لا يمكن القيام بالمصالح العامة بدونه. وبما أن الضرورات تقدر بقدرها فيجب أن لا يتجاوز بالضريبة القدر الضروري وأن يراعى في تقديرها وطرائق تحصيلها ما يخفف وقعها، ولهذا ذكر علماء الاقتصاد أنه لا بد أن يتوفر في كل ضريبة شرائط أربعة:
  • الأول: العدل والمساواة بحيث تفرض الضرائب على جميع الأفراد بطريق واحدة تناسب مقدرتهم المالية. ا
  • لثاني: الاقتصاد بحيث لا يفرض إلا القدر الضروري.
  • الثالث: النظام المبين الذي يعلم به كل فرد ما يجب عليه أداؤه وموعده وطريقة أدائه.
  • الرابع: مراعاة مصلحة الأفراد في تعيين مواعيد الأداء وطرائقه.

وذكروا كذلك أنه لا يجوز فرض الضريبة إلا في مال نام متجدد حتى تكون الضريبة من ثمرة المال ولا تكون من عوامل نقص أصله حتى قال بعضهم: ما يؤخذ من الثمرة ضريبة وما يؤخذ من الأصل نهب وسلب. ولا يجوز أن تستنفذ الضريبة كل الثمرة حتى لا يشعر الفرد بأنه إنما يعمل لغيره فيذهب نشاطه”(السياسة الشرعية في الشئون الدستورية والخارجية والمالية).

  •  (4)                كفالة الخزانة الإسلامية:  “ففي أملاك  الدولة الإسلامية, والأموال العامة, التي تديرها وتشرف عليها .إما باستغلالها,أو بإيجارها أو بالمشاركة عليها وذلك كالأوقاف العامة, والمناجم و المعادن التي يوجب الإسلام  ألا يحتجزها الأفراد لأنفسهم, بل تكون في يد الدولة, ليكون الناس كافة شركاء في الانتفاع بها. وفي ريع هذه الأملاك وما تدره من دخل للخزينة الإسلامية, مورد للفقراء والمساكين حين تضيق حصيلة الزكاة عن الوفاء بحاجاتهم  وفي خمس الغنائم وفي مال الفيء, وفي الخراج وكل أنواع الضرائب حق للمحتاجين والمعوزين. قال تعالى: ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ (سورة الأنفال:41)” (يوسف القرضاوي، مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام, بتصرف) وقيام الدولة بواجبها في إدارة هذه الموارد بطريقه صحيحة وفق تعاليم الإسلام يحقق التوازن في توزيع الثروة ويحاصر الفقر ويؤدي إلي العدالة الاجتماعية.
  • تحريم الربا ومحاربته: قال تعالي:﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾ (البقرة:275-276) ومن حكم تحريم الربا أنه يزيد الأغنياء غني، ويزيد الفقراء فقراً، وتحريمه يسهم في تحقيق العدالة الاجتماعية؛ لأنه يمنع تراكم الثروة عند المرابين الجشعين من غير أن يقوموا بعمل نافع للمجتمع مقابل ذلك المال.