القدس في القلب

قال تعالي:﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾(الإسراء: 1).

بدأت رحلة الإسراء والمعراج بعد عام الحزن الذي فقد فيه محمد صلي الله عليه وسلم دفاع عمه أبي طالب، ودعم زوجته خديجة رضي الله عنها، وصودرت الدعوة في مكة بشكل كامل، وأوصدت الطائف أبوابها أمام الرسول الكريم ودعوته المباركة، وتعرض الصحابة الكرام رضي الله عنهم للفتنة والاضطهاد والتعذيب علي أيدي قساة القلوب من مشركي مكة، وطال الأذي رسول الله صلي الله عليه وسلم وكان قبل ذلك في منعة منه؛ فجاءت هذه الرحلة مكافأة من الله تعالي للرسول الكريم صلي الله عليه وسلم علي الصبر الجميل، واليقين المطلق في موعود الله والثقة الكاملة في نصره سبحانه، وبشارة للمؤمنين ودرساً لأصحاب الدعوات إلي يوم القيامة. فثقوا أيها الأحباب بموعود الله كما وثق نبيكم وقدوتكم صلي الله عليه وسلم حتي تدرككم ألطاف الله ورحماته كما أدركت محمداً وصحبه.

من الرسائل اللطيفة في هذه الرحلة أيها الأحباب: كأن الله عز وجل يقول للرسول وأصحابه وأتباعه إلي يوم الدين: إذا صودرت الدعوة في مكة، وطردت من الطائف، وأوصدت في وجهها الأبواب هنا أو هناك فإن أرض الله أوسع من ذلك وسيصل نور الإسلام إلي نينوي في الموصل من أرض العراق وهذا أولهم عداس، وإذا صم الإنس آذانهم عن الدعوة الميمونة فإن الجن تصغي إليها وتقول: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا﴾ (الجن: 1- 2). وإذا أغلق أهل الأرض جميعاً أبوابهم في وجه دعوة الحق فإن أبواب السماء مفتوحة لها ولحملة لوائها ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾ (النجم: 1- 18).

إن كون الله أوسع مما تدركه عقول البشر، وقوة الله تعالي فوق كل قوة، وإرادته فوق كل إرادة، وهي مطلقة من كل قيد وشرط وتصور، وكما دعا الله تعالي رسوله ليذهب إلي حضرته في هذه الرحلة بروحه وجسده؛ فإنه دعاه والمؤمنين معه إلي الحضور في ساحة القدس الأعلي بأرواحهم خمس مرات في اليوم والليلة فيقول له: ﴿ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾ (العلق: من الآية 19). ودعا المؤمنين للحضور في ساحته سبحانه في كل الأوقات دون قيد أو شرط بالدعاء الخاشع والسؤال الضارع: فقال سبحانه: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ (غافر: من الآية 60). وقال: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ (البقرة: 186) فاجعلوا أيها الأحباب من الصلاة معراجاً لأرواحكم، واجعلوا من الدعاء مناجاة و حضوراً في ساحة ربكم.

بدأت رحلة الإسراء من المسجد الحرام في مكة المكرمة إلي المسجد الأقصي في أرض فلسطين، ثم تلتها رحلة المعراج من المسجد الأقصي إلي السموات العلا إلي سدرة المنتهي، وعادت الرحلة في نفس الخط الذي سلكته أثناء الذهاب؛ فقد بدأت الرحلة بالمسجد وانتهت به، وهذا تأكيد لمحورية المسجد في حياة الأمة، ومرت بالمسجد الأقصي مرتين لتأكيد الأهمية الخاصة للمسجد الأقصي والرابطة التي لا تنفصم بينه وبين المسجد الحرام، وتأكيد العلاقة الوثيقة بين الرسالة الخاتمة وكل رسالات السماء قبلها: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ (الأنبياء: 25). فالتوحيد والعبادة أساس دعوة الرسل أجمعين وقد انتهت الإمامة في ذلك لمحمد صلي الله عليه وسلم ودعوته وأمته إلي يوم القيامة.

إن قضية الأقصي اليوم قضية محورية في حياة الأمة، فهو أولي القبلتين وثالث الحرمين، ويقع في الأرض التي بارك الله فيها وبارك حولها، وهي أرض الرباط والجهاد إلي يوم القيامة بنص حديث الصادق المصدوق صلي الله عليه وسلم، ومسئولية تحريره من أيدي الصهاينة الغاصبين تقع علي أمة محمد كلها، فكل مسلم رضي بالله تعالي رباً وبمحمد صلي الله عليه وسلم نبياً ورسولاً واعتقد صحة ما جاء به القرآن من قدسية المسجد الأقصي عليه أن يسعي لتحريره وأن يبذل في سبيل ذلك ما يستطيع؛ فلا تنسيكم أيها الأحباب الكرام جراحاتكم أن تضمدوا جرح الأقصي، ولا تنشغلوا بهمومكم الخاصة عن هم الأمة ولا تزودوا عن أنفسكم وتقصروا في الزود عن مقدساتكم.

تذكروا أيها الأحباب أن تحرير الأقصي وفلسطين وكل أراضي المسلمين من كل سلطان أجنبي يبدأ بتحرير الشعوب العربية والإسلامية من الطغيان والاستبداد والتسلط؛ فالمعركة واحدة، والاستبداد السياسي في الداخل داعم للسلطان الأجنبي سواء بالاحتلال المباشر كما في حالة الأقصي وفلسطين، أو بالوكالة كما في حالة أغلب الأنظمة الاستبدادية في وطننا العربي والإسلامي المكروب؛ فالاستبداد السياسي يوطئ الأكناف ويمهد الطريق للاستعمار الخارجي كما يقول الشيخ محمد الغزالي والمفكر مالك بن نبئ، والأمة اليوم تعيش مخاضاً مهماً وكبيراً للتحرر من الأنظمة المستبدة؛ فقد مضت ست سنوات علي ثورات الربيع العربي، والشعوب تكافح لنيل حريتها، وقد دفعت أثماناً غالية من أجل تحقيق هذا الهدف الكبير، وما زالت الشعوب قادرة علي تقديم المزيد من التضحيات؛ فكونوا أيها الأحباب مع شعوبكم في نفس الخندق المقاوم للظلم والطغيان والفساد والاستبداد، ويوم تتحرر هذه الشعوب من جلاديها ستتحرر فلسطين والأقصي من الصهاينة وما ذلك علي الله بعزيز ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: من الآية 21).