المِحَن.. سُنّة الله في الدعوات

حياة قدوري

عندما كان ابن تيمية في سجنه بدمشق؛ أتاه الجلاد وقال له: اغفر لي يا شيخنا، فأنا مأمور. فقال له ابن تيمية: والله لولاك ما ظلموا! والقارئ بعاطفة لهذا المشهد؛ قد يشعر بالشفقة على الجلّاد؛ لأنه مجرد عبد مأمور ينفذ ما يأمره به سيده؛ فهو إن لم ينفذ؛ أكل نصيبه من الظلم مثل ابن تيمية وربما كان عقابه أقسى لأنه تجرأ وعصى؛ لكن جواب ابن تيمية الذي صدر من فم عالم جليل يعرف ما يقول وما يفكر وما يفعل؛ كان غصّة في حلق كل من يتجرأ ويحذو حذو هذا الجلاد؛ فلولا هؤلاء الجلادين الخانعين لما وُجد من ينفذ العقوبات التي تصدر من أفواه السلاطين المتجبرين. والمتأمل منا لتاريخ الدعوة الإسلامية يجد أن المشهد نفسه يتكرر في كل مرة وفي كل زمان ومكان؛ فالظالمون وإن اختلفت أشكالهم وألوانهم وعصورهم فلن يختلف طغيانهم وكفرهم وحماقاتهم.

فهذا الإمام الشهيد حسن البنا يُقتلُ على يد الظالم “الهالك” فاروق ويُمنع الإخوان بسَجنهم من تشييع جنازته؛ وتُصلي على روحه الطاهرة أربعة نساء مع والده الذي أثقلته السنون؛ وتُقطع الكهرباء عن الحي؛ وتَحمل النساء الأربع الجنازة في جو رهيب بين صفوف الدبابات؛ ويظن الهالك فاروق أنه قد ارتاح من كابوس البنا؛ بعد أن قذف بكل من كان يحمل فكرته في السجون؛ ولكن هلك فاروق وظلت الفكرة؛ وفي عهد القبيح عبد الناصر يتكرر المشهد مع سيد قطب رحمه الله ويقول مقولته الشهيرة؛ حين طلبوا منه تقديم اعتذار عن أفكاره ومبادئه “لن أعتذر عن العمل مع الله “؛ ويتكرر مشهد إبن تيمية نفسه ولكن هذه المرة لم يكن صاحب القصة جلاداً؛ كان شيخاً أتَوا به ليلقّن الشهيد الشهادتين ليقول له سيد قطب رحمه الله “أنتم تأكلون الخبز بلا إله إلا الله” و”نحن نموت لأجل لا إله إلا الله” وشتان بين من اتخذها تجارة وبين من اتخذها عقيدة ومنهاج حياة.

بعض المشككين لطريق الدعوة يعتقدون أن هذه المحن ما هي سوى نتيجة لأخطاء الدعاة؛ لكنها في حقيقة الأمر حكمة إلهية ومنحة ربانية

قُتل البنا وأُعدم سيد قطب وسُجن الآلاف ممن حملوا الفكرة؛ سقطت أجساد وما سقطت الراية؛ في كل مرة كان يسقط فيها جسد ؛ كانت ترتقي الفكرة أكثر فأكثر؛ و في كل مرة كان يتجبر الظالم معتقداً بذلك انه سيطفئ النور؛ كان النور يزداد توهجاً؛ ومرت تسعون سنة والفكرة ما زالت باقية؛ خالدة؛ لأنها دعوة الله ونور الله ولن يطفئ نور الله بشر (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ).

والظالمون إنما يحاربون دعوة الإسلام لأنها تشكل خطراً عليهم؛ تهدد أمنهم؛ وتزعزع استقرارهم؛ يقول في ذلك مصطفى مشهور رحمه الله: (إنهم يحسون فيها الخطر على باطلهم وعلى سلطانهم القائم على البغي والظلم؛ ويعلمون أن في قيام دعوة الحق وانتصارها قضاء على باطلهم وهزيمة لهم. فهم لذلك يحاربونها ويحاولون القضاء عليها قبل أن تقضي عليهم).

بعض المشككين لطريق الدعوة يعتقدون أن هذه المحن ما هي سوى نتيجة لأخطاء الدعاة؛ لكنها في حقيقة الأمر حكمة إلهية ومنحة ربانية؛ يقول مصطفى مشهور (فإن المحن التي هي سنة الله في الدعوات ليست هدماً؛ ولكنها صقل وتمحيص لتلك اللبنات التي سيقوم بها البناء القوي بإذن الله) وصدق القائل حين قال: “لولا المحن لشككنا في الطريق”.

سلمان العودة؛ صفوت حجازي؛ علي العمري؛ وقائمة أخرى طويلة؛ أبَوا إلاّ أن يكملوا ما بدأه البنا ويسيرو خلف ابن تيمية وسيد قطب؛ أبوا أن يتخلفوا عن الطريق؛ وكانوا خير خلفٍ لخير سلف؛ لم يمنعهم طغيان الفجار من مواصلة المسير؛ ولم يخضعوا لسلطة غير سلطة السلطان الجبار ذي القوة المتين. مما لا شك فيه أن خبر الحكم كان صاعقة على كل من سمعه؛ لكن العاقل وحده من يُدرك أن الإسلام منتصرٌ في كلتا الحالتين سواءً تم تنفيذ حكم الإعدام أو لم يتم؛ فسلمان العودة في سجنه مجاهد وإذا مات أو أعدم كان شهيداً؛ وهو في كلتا الحالتين منتصر على أعدائه؛ لأنه باع نفسه لله وعقد الصفقة الرابحة مع الله والتجارة مع الله تجارة لا تبور. (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ) فلا يوجد نصر أكبر من أن ينال الإنسان شرف التجارة مع الله ويبيع نفسه لله.