بأيِّ شيء نستقبل عشر ذي الحجة؟!

أ / صبرى محمد باحث شرعى

(العشر من ذي الحجة- فضائلها- والأعمال المستحبة فيها)

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَن لا نبيَّ بعده، وبعد..

من فضل الله تعالى على عباده أن جعلَ لهم مواسمَ للطاعات، يستكثرون فيها من العمل الصالح، ويتنافسون فيما يقربهم إلى ربهم، والسعيد من اغتنم تلك المواسم، ولم يجعلها تمرُّ عليه مرورًا عابرًا.

ومن هذه المواسم الفاضلة العشر الأوَل من ذي الحجة،

وهي أيام شهد لها الرسول- صلى الله عليه وسلم- بأنها أفضل أيام الدنيا، وحثَّ على العمل الصالح فيها؛ بل إن الله تعالى أقسم بها، وهذا وحده يكفيها شرفًا وفضلاً، إذِ العظيمُ لا يُقسم إلا بعظيم، وهذا يستدعي منا أن نجتهد فيها، ونُكثر من الأعمال الصالحة، وأن نحسن استقبالها واغتنامها.

وفي هذه الرسالة بيان لفضل العشر الأُوَل من ذي الحجة وفضل العمل فيها، والأعمال المستحبة فيها، نسأل الله تعالى أن يرزقَنا حسن الاستفادة من هذه الأيام، وأن يُعيننا على اغتنامها على الوجه الذي يرضيه.

حريٌّ بالمسلم أن يستقبل مواسم الطاعات عامةً- ومنها العشر الأوَل من ذِي الحجة- بأمور:

1- التوبة الصادقة والإخلاص لله:

فعلى المسلم أن يستقبل مواسم الطاعات عامةً بالتوبة الصادقة، والعزم الأكيد على الرجوع إلى الله؛

ففي التوبة فلاحٌ للمسلم في الدنيا والآخرة، يقول تعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (النور:31)، وكذلك على المسلم أن يتصل قلبه بالله، وأن يبتغي في كل عمل يعمله وجه الله تعالى،

فهو إذا صلى فلله، وإذا صام فلله، وإذا حجَّ فلله، وإذا تصدق فلله.. ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الأنعام:162).

2- البُعد عن المعاصي :

فكما أن الطاعات أسباب للقرب من الله تعالى، فالمعاصي أسباب للبعد عن الله والطرد من رحمته،

وقد يحرم الإنسان رحمة الله بسبب ذنب يرتكبه، فإن كنت تطمع في مغفرة الذنوب والعتق من النار فاحذر الوقوعَ في المعاصي في هذه الأيام وفي غيرها، ومَن عرف ما يُطلب هان عليه كل ما يبذل.

3- العزم الجاد على اغتِنام هذه الأيام:

فينبغي على المسلم أن يحرِصَ حِرصًا شديدًا على عمارة هذه الأيام بالأعمال والأقوال الصالحة،

ومن عزم على شيء أعانه الله وهيَّأ له الأسباب التي تعينه على إكمال العمل، ومَن صدق الله صدقه الله،

قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (العنكبوت:69).

4- سلامة الصدر لإخوانك المسلمين:

فاحرص- أخي المسلم- على اغتنام هذه الأيام، وجدد صفاءَ قلبِك وطهارةَ فؤادِك بينكِ وبين المسلمين جميعًا،

وليكن شعارُك: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ (الحشر: من الآية 10)، وأحسن استقبال هذه الأيام قبل أن تفوتك فتندم، ولاتَ حين مندم.

فضل العشر الأوَل من ذي الحجة:

1- أن الله تعالى أقسم بها:

إذا أقسم الله بشيء دلَّ هذا على عِظَم مكانته وفضله، إذِ العظيم لا يُقسم إلا بعظيم، قال تعالى:

﴿وَالْفَجْرِ* وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾ (الفجر:1-2)،

والليالي العشر: هي عشر ذي الحجَّة، وهذا ما عليه جمهور المفسرين من السلف والخلف،

وقال “ابن كثير” في تفسيره: هو الصحيح.

2- أنها الأيام المعلومات التي شرع الله فيها ذكره:

قال تعالى: ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ﴾ (الحج: من الآية28)،

وذهب جمهور العلماء على أن (الأيام المعلومات) هي عشر ذي الحجة، ومنهم ابن عمر وابن عباس.

3- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- شهِدَ لها بأنها أفضلُ أيام الدنيا:

فعن جابر- رضي الله عنه- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال:

“أفضل أيام الدنيا أيام العشر- يعني عشر ذي الحجة– قيل:

ولا مثلهن في سبيل الله؟ قال: ولا مثلهن في سبيل الله إلا رجل عفر وجهه بالتراب” (صححه الألباني)

ويوم عرفة يوم الحج الأكبر، ويوم مغفرة الذنوب، ويوم العتق من النيران،

4- أن فيها يوم عرفة:

ولو لم يكن في عشر ذي الحجة إلا يوم عرفة لكفاه ذلك فضلاً.

5- أن فيها يوم النحر:

وهو أفضل أيام السنة عند بعض العلماء، قال- صلى الله عليه وسلم:

“أعظم الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم القَرِّ” (صححه الألباني).

6- اجتماع أمهات العبادة فيها:

قال الحافظ ابن حجر في الفتح: “والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه،

وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتَّى ذلك في غيره،

وكان سعيد بن جبير- رحمه الله- إذا دخلت العشر اجتهد اجتهادًا حتى ما يكاد يقدر عليه (رواه الدارمي).

فضل العمل في عشر ذي الحجة:

عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:

“ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام- يعني أيام العشر- قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء” (رواه البخاري).

وعن عبدالله بن عمر- رضي الله عنهما- قال: “كنت عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فذكرت له الأعمال فقال:

“ما من أيام العمل فيهن أفضل من هذه العشر، قلت: يا رسول الله، الجهاد في سبيل الله أكبَرُه؟، فقال: ولا الجهاد،

إلا أن يخرج رجل بنفسه وماله في سبيل الله، ثم تكون مهجة نفسه فيه” (رواه أحمد، وحسن إسناده الألباني).

فدل هذان الحديثان وغيرهما على أن كل عمل صالح يقع في أيام عشر ذي الحجة أحبُّ إلى الله تعالى من نفس العمل إذا وقع في غيرها، وإذا كان العمل فيهن أحبَّ إلى الله فهو أفضل عنده، ودل الحديثان على أن العامل في هذه العشر أفضل من المجاهد في سبيل الله، الذي رجع بنفسه وماله، وأن الأعمال الصالحة في عشر ذي الحجة تضاعَف من غير استثناء شيء منها.

من أفضل الأعمال في عشر ذي الحجة:

إذا تبين لك أخي المسلم فضلُ العمل في عشر ذي الحجة عن غيره من الأيام، وأن هذه المواسم نعمةٌ وفضلٌ من الله على عباده، وفرصةٌ عظيمةٌ يجب اغتنامها.. إذا تبين لك كلُّ هذا، فحريٌّ بك أن تَخُص هذه العشر بمزيدِ عنايةٍ واهتمامٍ، وأن تحرص على مجاهدة نفسك بالطاعة فيها، وأن تُكثر من أوجه الخير وأنواع الطاعات، فقد كان هذا هو حال السلف الصالح في مثل هذه المواسم، يقول أبو عثمان النهدي: “كانوا- أي السلف- يُعظِّمون ثلاث عشرات: العشر الأخيرة من رمضان، والعشر الأُوَل من ذي الحجة، والعشر الأُول من المحرم”.

ومن الأعمال التي يستحب للمسلم أن يحرص عليه ويُكثر منها في هذه الأيام ما يلي:

1- أداء مناسك الحج والعمرة:

والحج ليس مستحبًا فقط بل هو واجب لمن استطاع سبيلاً إليه، والعمرة مندوبة، وهما معًا أفضل ما يؤدى في عشر ذي الحجة، ومن يسَّر الله له حج بيته أو أداء العمرة على الوجه المطلوب فجزاؤه الجنة؛ لقول النبي- صلى الله عليه وسلم-: “العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة” (متفق عليه)، والحج المبرور هو الحج الموافق لهدي النبي- صلى الله عليه وسلم- والمحفوف بالصالحات والخيرات، الذي لم يخالطه إثمٌ من رياء أو سمعة أو رفث أو فسوق.

2- الصيام:

وهو يدخل في جنس الأعمال الصالحة، بل هو من أفضلها، وقد أضافه الله إلى نفسه لعِظم شأنه وعلوِّ قدره، فقال سبحانه في الحديث القدسي: “كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به” (متفق عليه).

وقد خص النبي- صلى الله عليه وسلم- صيام يوم عرفة من بين أيام عشر ذي الحجة بمزيد عناية، وبيَّن فضل صيامه، فقال صلى الله عليه وسلم: “صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفِّر السنة التي قبله والتي بعده” (رواه مسلم)، وعليه فيُسنُّ للمسلم أن يصوم تسع ذي الحجة؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- حثَّ على العمل الصالح فيها، وقد ذهب إلى استحباب صيام العشر الإمام “النووي”، وقال: صيامها مستحبٌ استحبابًا شديدًا.

3- الصلاة:

وهي من أجلِّ الأعمال وأعظمها وأكثرها فضلاً؛ ولهذا يجب عليك أخي المسلم المحافظة عليها في أوقاتها مع الجماعة، وعليكَ أن تكثر من النوافل في هذه الأيام؛ فإنها من أفضل القربات، وقد قال النبي- صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربِّه: “وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه” (رواه البخاري).

4- التكبير والتحميد والتهليل والذكر:

فعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد” (رواه أحمد)، وقال البخاري: كان ابن عمر وأبو هريرة- رضي الله عنهما- يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبِّران ويكبِّر الناس بتكبيرهما، وقال: وكان عمر يكبِّر في قبته بمنى، فيسمعه أهل المسجد فيكبِّرون، ويكبِّر أهل الأسواق حتى ترتجَّ منى تكبيرًا، وكان ابن عمر يكبِّر بمنى في تلك الأيام وخلف الصلوات وعلى فراشه، وفي فسطاطه ومجلسه وممشاه تلك الأيام جميعًا، ويستحب للمسلم أن يجهر بالتكبير في هذه الأيام ويرفع صوته به.

5- الصدقة:

وهي من جملة الأعمال الصالحة التي يستحب للمسلم الإكثار منها في هذه الأيام، وقد حث الله عليها فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ (البقرة:254)، وقال- صلى الله عليه وسلم-: “ما نقصت صدقة من مال” (رواه مسلم).

وهناك أعمال أخرى يستحب الإكثار منها في هذه الأيام، بالإضافة إلى ما ذكر، نذكر منها على وجه التذكير ما يلي:

قراءة القرآن وتعلمه، والاستغفار، وبرُّ الوالدين، وتربية الأولاد، وصلة الأرحام والأقارب، وإفشاء السلام، وإطعام الطعام، والإصلاح بين الناس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحفظ اللسان والفرج، والإحسان إلى الجيران، وإكرام الضيف، والإنفاق في سبيل الله، وإماطة الأذى عن الطريق، وكفالة الأيتام، وزيارة المرضى، وقضاء حوائج المسلمين، والصلاة على النبي- صلى الله عليه وسلم- وعدم إيذاء المسلمين، وصلة أصدقاء الوالدين، والدعاء لإخوانك المسلمين بظهر الغيب، وأداء الأمانات، والوفاء بالعهد، والبرُّ بالخالة والخال، وإغاثة الملهوف، وغضُّ البصر عن محارم الله، وإسباغُ الوضوء، والدعاءُ بين الأذان والإقامة، وقراءة سورة الكهف يوم الجمعة، والذهاب إلى المساجد والمحافظة على صلاة الجماعة، والمحافظة على السنن الراتبة، والحرص على صلاة العيد في المصلى، وذكرُ الله عقب الصلوات، والحرص على الكسب الحلال، وإدخال السرور على المسلمين، والشفقة بالضعفاء، واصطناع المعروف، والدلالة على الخير، والدعوة إلى الله، والصدق في البيع والشراء، والدعاء للوالدين، وسلامة الصدر وترك الشحناء، والتعاون مع المسلمين فيما فيه الخير، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.