ترتسم على الشفاه كنور الفجر يسطع بعد ظلمة طويلة، وكلؤلؤ ترك محاره وانطلق ليبهج بمرآة قلب كل حزين؛ تأتي غير مفتعلة بل عذبة ندية، فتبعث على وجدان الحائرين شيئًا من صفائها وبشاشتها.

ترتحل عوائل الكثير من المعتقلين ليروا ذويهم إبان جلسات المحاكات الهزلية؛ فهم ممنوعون من زيارتهم في المعتقلات والسجون حتى كأسرى حرب، أوصت كافة المواثيق والقوانين والعهود الدولية بحقهم في الزيارة، ولكن هيهات لقادة الانقلاب أن يعرفوا عن هذه “الإنسانية” أو “الحقوق” وقوانينها وعهودها شيئا ولو ندر!.

وهناك يوضع الأبطال وقت هزليات القضايا في أقفاص من أمامها حواجز وقضبان، وكأن سجانيهم يخشون من النور الصادر من أعين أصحاب الحق؛ حتى لا يضيء البلاد التي لا يريدونها سوى معتمة مظلمة؛ لأنها الأجواء التي تناسب أمثالهم من اللصوص والفاسدين. ورغم أن من واجبات الزوار أن يهوّنوا على أسراهم ما هم فيه من ألم وهَم، إلا أن العكس هو ما يحدث؛ حيث تأتِي بسمات الأسرى وضحكاتهم كشعاع من ندى رطب يًصيب الجباه المكدرة فينعشها ويطمئنها. يشع سنا ابتساماتهم.. فتكاد تضيء العتمة التي تضفيها أجواء اللاعدالة واللاقانون!.

إن هذا المعتقل الذي أبلغوه بأن والدته قد توفيت فابتسم وقال: “استراحت من مشقة الزيارة وتكلفتها”.. ليس أقل من الآخرين في حبه لأمه وحرصه على رؤيتها، ولكنه فقه الحياة الحقة التي تفتّحت عينه عليه في مدرسة المحنة والابتلاء، فعرف أن للإنسان مكانا آخر من أجله خُلق، وأن الحياة الدنيا ليست رخاء يعقبه الرخاء والصفاء فنحرص على نيله والتزود منه، ولكنها الساعات المعدودة، ثم يكون اللقاء الجامع الذي لا فراق بعده ولا نصب ولا عنت لمن أحسن في دار الابتلاء استقبال الألم، كما يعرف كيف يسعد بالنِعم.

ولأن الجمع بين الفكر والحركة هو أكثر ما نبحث عنه.. فقد لفت نظري للحديث عن الابتسامة أهمية التحول بها من مجرد سلوك عابر يمر عنده البعض في التلقي مرورًا غير مكترث أو غير مبالٍ، غافلين بذلك عن خلفيات هذا المظهر الذي قد لا يأخذ أكثر من لحظة في إصداره المباشر، ولكنه مَعلم يشي بتربية دفينة خلفه ربما احتاجت الوقت الكثير؛ ما ينبغي معه التوقف مليا لمزيد من الفحص والفهم؛ حتي يمكننا ونحن في تلك الملمات أن نتحول بالبسمة إلي فعل حركي نمارسه ونحث عليه بعد إدراك ووعي وانتباه؛ ليكن نقطة من نقاط مواجهة الخصم، بل والتغلب عليه، وفي الوقت نفسه يصبح يدا دافئة تساعد رفاق المحنة وتمنحهم شيئًا من مستلزمات الطريق.

يبدأ الأمر برحلة بسيطة نتتبع فيها خطى تلك الإشارة العابرة على الشفاه، بما تطويه من رسائل ورموز ذات مغزى لا يستعصى على ذوي اللب والعقل.. حيث تتصل أول أمرها بالمكنون الدفين لصاحب البسمة نفسه؛ بما يحمله صدره من اطمئنان وتُؤدَةٍ يمتلأ بهما جوف فكره وقلبه حتى يفيضا على محياه ويفصحا عن نفسيهما بهذا الوضوح وذاك الجلاء.

إن هذا الشخص الذي يتمالك قلبه فلا ينخلع عنه وقت المحن الفارقة تظهر على ملامحه تلك الرسائل؛ لأن الخوف والقلق والتوتر والحزن، تصاحبها في الأغلب أعراض أخرى كالزيادة في ضربات القلب، والتي ربما تجتمع معها ضم الشفاه أو الجز على الأسنان، وهي الأمور التي تظهر معالمها على الوجه بسرعة، أما هدوء البال والطمأنينة فيصحبها انخفاض في معدلات خفق القلب، ما تجدر معه مُكنة الاستدعاء لتلك البسمات الرائقة، والتي تخبر وتشي بما اختبأ في نفس صاحبها من قرار وأمل وثقة لم تزعزعها قارعات السيوف ولا حتى يحموم اللظى.

يمر مسار البسمة إذًا عبر طريق يبدأ من قلب المرء، مارًا بقناعته ومبادئه.. عابرا بوابات الرضا، حتى الوصول إلى مرفَأ الوجه، فتصل كما نراها مضيئة متهللة.

تستمر البسمة في طريقها.. فهي من الأحرار بحيث تتجاوز مجرد الذات وما به من طريق وعراك، ولكنها تتخطى ذلك لتتحول إلى رسالة مبعوث بها إلى الغير.. يعرف أصحابها حديث حبيبهم المصطفى– صلى الله عليه وسلم- “لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق”. (رواه: مسلم 2626) فيهبُّوا يؤدون ما عليهم من مستلزمات المعروف والفضل؛ فإذا كانت مهمات الدعوة إلى الله تعالى تتطلب هذا الوجه الطلق البشوش الذي يُقبل على الآخرين بقلوب تحمل للناس كافة كل معاني الخير والحب، ولا تعرف– رغم المحن- لسواد الخلق إلا السماحة واللطف، الخالية من أي حقد أو بغض.. فليكن هذا إذًا هو دورهم الدعوي الذي يؤدونه، فيشع ضياه رغم كل تلك الانتهاكات والقيود والأسوار. إنها الذات ليست فقط المتعالية على همومها وأكدارها، وإنما هي تلك التي تعدت كل ذلك بحيث باتت عن حظ نفسها في غفلة، فلا يحضرها سوى دورها ودعوتها إلى الحق التي عليها إظهاره كأبهى ما يكون، فلا تتخذ القضبان حجة أو ذريعة للبطالة أو الفتور والهجوع، طالما كان بإمكان الشفاه أن تتحرك فتُحدث من يعرفون لغاتها حديث اليقين المخاصم لكل ابتئاس أو سأم أو ضجر.

إن من عرف أن دعوته هي وظيفته عند الله- عز وجل- وقد باع نفسه لإتمامها، تراه يهب مؤديا لمهامها وملتزما بمقتضياتها مهما كانت قساوة الظروف وآلام المحنة.. فإذا كان المثل الصيني يقول: “إن الذي لا يحسن الابتسامة لا ينبغي له أن يفتح متجرا”؛ فأحرى بمن كانت العقيدة ودعوة الحق هما شغله الشاغل أن يكون مشرق الوجه، مفارقا مودعا للعبوس والكُلوح؛ فتقبل عليه القلوب وتألفه الأنفس ذات البقية من الطهارة والنقاء.. أما الأحبة والأهل ورفاق الطريق؛ فلتكن لهم البسمة ورغم القضبان صدقة وصلة!.

ثم تقفز البسمات إلى ما هو أبعد من مخيلة البعض؛ فتؤدي وظيفة أخرى على الرغم من ضعفها الظاهر؛ إلا أن لها في قلب الخصم وقعًا يربكه ويحير حساباته ومخططاته.. حيث يعدم بعدها أن يجد وسيلة ليقهر مثل هؤلاء الأبطال أو ينال من طمأنينة قلوبهم ورباطة جأشهم، إنها إذا المعركة التي خسرها رغم كل العدة والعتاد.

ولا تتوقف رسائل بسمات الأحرار عند حدود الأحياء منهم فقط، بل تبعث لنا كذلك بعبق يطمئننا ويزلزل قلوب المعاندين، ويحدو بالقلقين المنكسرين أن اثبتوا ورابطوا، فتعلو البشاشة وجوه الشهداء الذين رحلوا، ونحسب نياتهم دفاعًا عن حق ودين.. ومن ثم كانت بسماتهم قبسًا من نور لا تخطئه أعين الظالمين الجاحدين.

تتهادى كذلك البسمات من فوق ملابس الإعدام الحمراء، فتجبر العين أن تغض الطرف عن الأحزان وثيابها، وتفتح الطريق أمام تأمل الجسارة والثبات والإقدام التي ندر أن ترى مثلها- ولو تمثيلا- على أشهر المسارح ودور العرض.

إنها اختبارات الحياة.. تمر أمام أعين المشاهدين في عرض مجاني، وكل ما ترجوه من زائريها أن يتفحصوا الوجوه ليتعرفوا على صاحب المبدأ الأصيل من غيره المزيف المكذوب.