أنا أحد جراحي العظام المشهورين بالقصر العيني .. أنحدر من أسرة ثرية ..و بمجرد حصولي على بكالوريوس الطب اوفدني ابي لجامعة كامبرديج ببريطانيا للحصول على الماجستير والدكتوراه والزمالة أيضاً …
أخترت تخصص العظام عشت في بريطانيا أكثر من عشر سنوات اصطبغت فيها حياتي بالمجتمع الانجليزي في عاداته وسلوكياته وتصرفاته ورؤيته للأحداث …
بنيت حولي جدار من العقلانية وأخضعت كل شيء للمنطق والتحليل فلا مجال عندي للصدفة …
أراحني هذا الحائط العقلاني الذي احطت به نفسي كثيراً وخاصة في مصر …
ربما كان مبعث ذلك صغر سني والذي ساعد على سرعة تشرب البيئة الانجليزية المحيطة بي …
عدت لمصر وتم تعييني مدرساً لجراحة العظام بالقصر العيني …
كنت جاداً جداً لا أعرف التهاون أو المحسوبيات لا أقبل الواسطة … حتى أن بعض الزملاء كانوا يطلقون عليَّ “الجلياط”…
كنت صريحاً لا أقبل المجاملات … وسخياً لأبعد الحدود وربما كان هذا ما أثار حيرتهم … فالبخل الشديد هو أول عادات الانجليز … ولكن ربما كان ذلك بقايا من شرقيتي المطمورة …
زرعت الاحترام الممزوج بالحب والهيبة في المحيطين بي من الاطباء وطاقم التمريض …
حياتي الشخصية غير قابلة للتداول .. لا أحب التهريج … ولكن رغم كل ذلك كنت محبوباً من طلابي وزملائي لا أبخل عليهم بعلمي او بمالي أنقل اليهم خبراتي ولا أكتم عنهم ما أعرفه مثلما يفعل بعض الزملاء …
كنت مسلماً تقليدياً اصوم رمضان حججت البيت وملازما علي القرآن ..
تزوجت من ابنة عمي … مر على زواجنا عشرة أعوام لم نرزق فيها بطفل … لم أدخر جهداً في عرضها على كبار الاطباء داخلياً أو خارجياً ..
استسلمت لقضاء الله…. و كانت زوجتي دنيتي وحياتي .. معها أنسى كل متاعب الدنيا تعرف متى تحدثني ومتى تتركني …
أعرف كم تتعذب حينما تجد منزلنا خالياً من ضحكات الاطفال ولعبهم …
كنت أعتبرها ابنتي أدللها مثلما كانت تناديني دائماً يابني … ..
دعيت لمؤتمر لجراحة العظام بجامعة أسيوط .. ركبت القطار المكيف وأخذت أبحاثي معي …
فجأة جلس بجواري رجل يتضح من هيئته أنه فلاح أوصعيدي أسمر الوجه واسع العينين يرتدي جلابية رمادية اللون يغطي رأسه بشال أبيض يفوح من ثيابه عطر نفاذ .. بوجهه ألق محبب تحسه ولكن لا تسطيع وصفه …
كان يسير بصعوبة يتوكأ على عصا ويستند على ذراع شخص آخر عرفت أنه ابنه … والذي طلب مني مترجياً ان أترك له كرسيَّ وأنتقل لكرسيه ليكون بجوار ابيه …
رفضت همَّ ان يرفع صوته ولكنه سكت بإشارة من أبيه الذي راح يتلو أدعية وصلوات وأوراد بجانبي أحسست بالضيق … لم أعد أركز في القراءة … كنت أختلس اليه النظر غاضباً وكأنما شعر بهذا فقال لي مبتسما “صوتي أزعجك؟” رددت بمنتهى الجليطة نعم وأرجو أن تخفض صوتك … اعتذر ثم راح يتمتم بصوت غير مسموع أحسست بالراحة ..
فجأة استغرق في نوم عميق علا شخيره … شعرت بتوتر من شخيره ولكني أشفقت أن أوقظه نظراً لما يعانيه …
ثم فجأة سمعته يتكلم بصوت خفيض ” وعليك السلام ياسيدي يارسول الله … سمعاً وطاعة ياسيدي … بشرك الله بكل خير .. وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ياسيدي”
لم يسمعه أحد سواي وكأنه كان لا يريد أن يسمعه أحد … ولكن خرج متراس المنطق وجدار العقلانية برأسي … ربما كان ذلك يحدث في اللاوعي للرجل … فمن الواضح انه صوفي ممن لايفرقون بين الواقع والحقيقة … حيث تتحول الخيالات عندهم إلى حقائق … أو أولئك الذين يزعمون أنهم من أهل الخطوة فيصلون الظهر بمكة والعصر بالقدس …
ولكني أفقت على شخير الرجل الذي علا ثانية … ياإلهي إن الرجل كان مستغرقاً في نومه .. لم يكن يتصنع ريما كانت رؤيا طيبة … فلير ما يشاء لا أقحم نفسي فيما يرى لانه لا يعنيني …
استيقظ الرجل بوجه غير الذي نام به … ازداد ذلك الألق .. أصبح النور يشع من وجهه … لا تخطئ العين رؤياه … اقترب منه ولده راح يمسح وجهه الذي بلله العرق …
فجأة سمعته يقول لإبنه … الدكتور عبد الرحمن راكب معانا القطر ده وها يعمل لي العملية بكره؟ …
صكت تلك العبارة اذني بشدة لكني لجأت للمنطق أيضا ربما شخص ما أخبره عن موضوع القطار ربما تمرجي عيادتي …
ولكن هذا الامر لم يكن مطروحاً قبل أن ينام الرجل ويرى ما رأى …أتكون رؤيا وشفافية ؟ …
قررت أن أخوض معه الأمر لنهايته .. وخاصة بعد أن أصبحت بطلاً لرؤياه التي رآها …
سألني وحضرتك نازل فين ؟ أجبت أسيوط …. سكت الرجل … أشاح عني بوجهه … أصبح الفضول يقتلني .. بدأ ذلك الجدار داخلي يهتز قليلاً …
رحت أسأله بعض الاسئلة فيجيب بإقتضاب … لم تشف ردوده غليلي … قررت أن أنزل بآخر كارت معي … قلت له أنا الدكتور عبد الرحمن …
نظر للأرض وكأنه لم يفاجأ … راح ينكث أرضية القطار بعصاه … وأنا أسمعه يتمتم بالصلاة والسلام على الرسول …
تركني اتحرق لمعرفة ردة فعله .. لكنه صمت .. أحسست أنه يلاعبني .. وكأنه يريد أن أرفع راية التسليم أولاً … ثم باغته بقولي : لعله رسول الله أخبرك بهذا؟ّ ….
رفع رأسه أتسعت عيناه ونظر اليَّ طويلاً ..ثم سألني متعلثماً وممن عرفت ؟ …
ابتسمت في نفسي وقلت هاأنا ذا قد نلت منك ياصديقي …
راح في لهفة يسأل ويلح وأنا أتصنع الوقار وأرسم الجد على ملامحي …
أشحت عنه بوجهي مثلما يفعل وقلت هذا أمر خاص بي ..
رد مسرعاً نعم نعم هو رسول الله وحملني لك رسالة يقول لك “استوص بالشيخ راضي خيرا”…
ابتسمت نصف ابتسامة وقلت صلى الله عليه وسلم …
أحسست أن الرجل اشبه بالغازي الذي يدك في ثواني حصني العقلاني الذي بنيته في سنين …
باغته بالسؤال ولكن هل أنبأك الرسول الكريم أني سأجري لك العملية غدا ؟
نظر اليَّ طويلاً وكأنه أدرك أن الشك يداخلني فيما يقول ..
قال نعم وأرسل معي أمارة لك … بالامس كنت تقف مع زوجتك بالبلكونة وترفع يداك بالدعاء أن يرزقك الله بطفل مثلما رزق زكريا بيحيى ثم هوت يدك على كوب الشاي الساخن على حافة الشرفة فسقط في الشارع بعد أن ألهب يدك ….
جحظت عيناي ..تجمدت أناملي .. جف ريقي … انتابتني رعشة .. رحت ألمس يدي الملتهبة … وجدت كل قلاعي العقلانية تتهاوى أمام ذلك الرجل البسيط …
انا خريج كامبرديج .. والحاصل على زمالة الجراحين الملكية … أحسست أني أقف أمامه عاريا ً… ولا أدري كيف استيقظت شرقيتي المطمورة فجأة …فانحنيت على يده أقبلها والدموع تملأن عيني … وسط ذهول الركاب ..
راح يمسح رأسي ثم قال ولك عندي بشرى أخبرني بها الحبيب ﷺ … لقد سمع الله دعاءك وسيمن عليك بيحيى ومحمد معاً
أمسكت بالموبيل اتصلت بزميلي رئيس مستشفيات أسيوط لأطلب منه أن يحجز غرفة باسم الشيخ راضي لأني سأجري له عمليه جديدة غداً وأنا من سيتولى كافة التكاليف …
نزلنا المحطة كانت تنتظرني سيارة صممت أن أذهب للمستشفى أولاً لحجز الشيخ راضي لتجهيزه للعملية
أغلقت تلفوني بعد المؤتمر ودخلت غرفة العمليات أنهيت العملية بنجاح ..
كانت عادتي أن أترك المتابعة للفريق الطبي المشارك … ولكني صممت أن أتابعه بنفسي في كل صغيرة وكبيرة تنفيذاً للوصية الكريمة …
حتى جاءني زميل دراسة وأخبرني أن زوجتي اتصلت بي عشرات المرات وكان تليفوني مغلقاً …
أسرعت لاكلمها … وجدتها منهارة وتبكي … كاد القلق أن يقتلها عليَّ … اعتذرت لها
ثم صاحت في طفولة يا عبد الرحمن أنا حامل … أجريت اختبار حمل بناء على نصيحة طبيب النساء الذي يتابعني حيث ذهبت اليه بعد أن شعرت بألم يمزق جنبي والحمد لله أنا حامل …
ابتسمت وتراءى لي وجه الشيخ راضي فقلت لها : عارف ومش كده وبس أنت حامل بتؤام …
وجدتني أكلمها بثقة كاملة و بجدية تعرفها فيَّ …
صاحت عبد الرحمن أنت تعبان ؟ …
أكملت حديثي وكأني لم أسمعها ستلدين يحيى ومحمد
ضحكت وقالت وتؤام كمان ؟ وهو أحنا كنا طايلين برص؟ وبعدين احنا لسه في أول الحمل يا “شيخ عبده” …
وضعت زوجتي تؤاماً
ومن يومها وزوجتي تنظر إليَّ بانبهار وإكبار كنظر المريد لشيخه وتقول عني : سرك باتع ومكشوف عنك الحجاب ياشيخ عبده فأضحك في نفسي …. حيث لم أخبرها بشيء بناء على طلب الشيخ راضي …
وها هما أولادي محمد ويحيى عمرهما الآن خمس سنوات يتشاكسان حولي لا أستطيع منعهما والا تعرضت لما لا يحمد عقباه من أمهما …
ورحت أسأل نفسي ترى أأجعلهما يسلكان طريق العقل الذي سلكته .. والذي تتلاشى فيه العاطفة وتذبل الاحاسيس وخاصة أنهما سيعيشان في مجتمع آخر ما يقدره العقل وآخر ما يحترمه المنطق …
ثم قد يتهاوى كل ذلك في لحظة واحدة يغيب فيها المنطق .. ويتوارى العقل امام شيء فوق طاقة المنطق وحدود الإدراك …
أم أتركهما يعيشان شرقيتهما حيث تتغلب العاطفة دائماً على العقل … فيضمر العقل وتستنزفهم العاطفة فتكون هي المعيار لكل شيء والحكم على كل أحد …
ثم صممت أن أترك كل منهما يختار حياته كيفما يشاء بلا دخل مني ..
(قصة منقولة عن صاحبها والعهدة على الراوي)