الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد؛

فمن روائع الحكمة المنقولة عن أبي الدرداء رضي الله عنه قوله:

” ياحبذا نوم الأكياس وفطرهم،كيف يغبنون به قيام الحمقى وصومهم ، والذرَّة من صاحب تقوى أفضل من أمثال الجبال عبادة من المغترين ”

حكمة غالية جرت على لسان عبدٍ رباني يدرك أن البصر والعمى الحقيقيين في القلوب لا في الأبصار ” فإنها لاتعمى الأبصار…”

ويدرك أن العبرة بتقوى القلوب لا بتقوى الأبدان, ويفهم إشارة الحبيب (صلى الله عليه وسلم) حيث أشار إلى صدره وقال ” التقوى هاهنا ”

ويعلم أن السير إلى الله يُقطع بالقلوب والهمم و العزائم الصادقة، لا بالأبدان والأشكال والهيئات الظاهرة، فالكيس العاقل يقطع من المسافة بصدق عزيمته وعلو همته وصحة مقصده مع العمل القليل أضعاف أضعاف ما يقطعه المهتمون بالصورة الظاهرة مع العمل الكثير والتعب العظيم، بل إن نوم أولئك الأكياس تجري عليهم فيه من الأفضال الإلهية ما لا يحدث للحمقى المغترين بكثرة العمل.
صحيح أن الكمال مطلوب في الظاهر مثلما هو مطلوب في الباطن، وأن الله أمر عباده أن يقوموا بشرائع الإسلام على ظواهرهم مثلما أمرهم أن يقوموا بحقائق الإيمان على بواطنهم، وأن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال ” الإسلام علانية والإيمان في القلب ”

صحيح أن كل حقيقة باطنة يدعيها صاحبها مع فراغه من الشرائع الظاهرة هي دعوة باطلة لا معنى لها ولا تنفع صاحبها.

وصحيح أن اكمله من العباد – وعلى رأسهم الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم – كانوا يوفون كلاَ من الأمرين حقه، فجمعوا بين صدق الإيمان الباطن وتمام الهدي الظاهر، هذا كله صحيح وهو أليق بالمسلم الصحيح أن يحافظ عليه، لكن ما أراد أبوالدرداء – رضى الله عنه – التوجيه إليه هو ما يغفل عنه كثير من الناس حين تشغلهم صور العبادات عن حقائقها ويشغلهم الهدي الظاهرعن الهدي الباطن، فيغترون بكثرة الأعمال مع جفاء القلوب، ويغترون بالإلتزام الظاهر مع غلظة الطباع وقسوة القلوب والكبرعلى عباد الله.

من هنا كانت حكمته المذكورة التي هى من جواهر الكلام وكمال الفقه المأخوذ من كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وسلم)

“إنما يتقبل الله من المتقين”

” لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ ۚ ”

” إِنَّ الله لا يَنْظُرُ إِلى أَجْسامِكْم، وَلا إِلى صُوَرِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ…”

” أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ, وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ, أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ… ”

وقيل ” ما فاق الناس ابوبكر – رضى الله عنه – بكثرة صلاة ولا صيام، ولكن بشيئ كان في قلبه ”

كيف لا ؟ والنجاة يوم القيامة مدارها على سلامة القلوب ” يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ”

وعمارة القلوب بالخشية من الله وكثرة الذكر له وإيثار أمر الله على شهوات النفس وتفكره الدائم في آيات الله وآلائه، وفي صفاته وأسمائه وفي الإستعداد ليوم القيامة وذلك لتصحيح التوحيد لله بحيث لا يرجو غيره ولا يخاف سواه، ولا يتوكل على من دونه، ولا يثيب إلا إليه، ولا يكن في صدره حرج من قضائه وقدره ولا تردد في قبول نهيه وامره، ويكون دائم التصحيح لمحبته، بحيث يقدم محبته على محبة غيره، ويؤثر رضاه على رضا من سواه ” لايؤمن أحدكم حتى يكون الله …” بل يجعل مواقفه في الحياة كلها دأئرة على مراضيه ومحابه، فإذا أحب أحداَ فلله، وإذا أبغض أحداَ فلله، وإذا عرض عليه أمر لم يبرم فيه رأياَ حتى يعلم أين هو من أمر الله ؟

فهل لنا أيها الكرام المجاهدين أن نتعاهد قلوبنا في كل حال حتى نلقى الله بقلوب سليمة مع الأبرار والمقربين …

والله معكم ولن يتركم أعمالكم….