تميز الداعية في حياته

فتى الإسلام: بل يا قاصد البحر! التميز التميز؛ إذ هو في حياتك عمدة، وضرورة خاصة في عصور طغيان الحياة المادية على الحياة.

تميز المسلم يتمثل في تمسكه وقبضه على دينه عقيدة وعبادة وسلوكاً؛ بمعنى: ألا يتميع في دينه وينصهر مع المتفلتين منه تحت وطأة الفساد، وضغط الواقع، ومسايرة المجتمع كما يقال.

نعم.

إنه ليعرف بإصراره على دينه والغيرة على محارم الله أن تنتهك، وأي دين وأي خير وأي تميز لمن يرى محارم الله تنتهك، وحدوده تضيع، ودينه يترك، وسنة رسوله يرغب عنها، وهو بارد القلب، ساكت اللسان، شيطان أخرس ما بلية الدين إلا من هؤلاء، الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ومشاربهم؛ فلا مبالاة بما يجري على الدين، لقد بلوا بأعظم بلية؛ ألا وهي موت القلب وهم لا يشعرون عافانا الله وإياكم.

يتميز المسلم بصحة معتقده عند مسائل الاعتقاد، بالتزام السنة عند نشوب البدعة، بصدق الإيمان عند نشوب النفاق، بعبادته إذا الناس يلهون، بأخلاقه إذا أهدرت القيم، بالصدق في المعاملة إذا فشا الغش، بصمته إذا كثر الخلط، بمحاسبته نفسه إذا أهملها الغير، بدعوته بجهاده إذا أقبلت الدنيا على أهلها فغرقوا في لجتها، بالإنصاف حتى مع الشنآن.

لا يخجل من انتمائه لدينه، لا يخجل من منهاجه وشريعته، لا يخجل من أن يتحدث بلغته؛ لغة القرآن، ولا يخجل من لباسه الذي يخالف به الكفار.

التميز ضرورة للسائرين على الدرب ليقدم منهجه للعالمين عملياً قوياً.

يذكر أبو الحسن الندوي حفظه الله ورحمه؛ أنه وقع نزاع بين الهندوك والمسلمين في قرية من الهند على أرض؛ يقول الهندوك: إنها معبد لهم، ويقول المسلمون: إنها لهم مسجد، وتحاكموا إلى الحاكم الإنجليزي في ذلك الوقت، فسمع حجة الفريقين، وتحاجوا، ولم يطمئن إلى نتيجة معينة في محاكمته، فسأل الهندوك: هل يوجد في القرية مسلم تثقون بصدقه وأمانته لأحكم على رأيه؟ قالوا: نعم.

فلان.

وسموا شيخاً من صالحي المسلمين وعلمائهم، فهو تميز حتى بين الكافرين، فأرسل الحاكم في طلبه إلى المحكمة، فقال: قد حلفت ألا أرى وجه إفرنجي ما حييت، فأخبروا الحاكم بمقالة العالم، فقال: لا بأس! يحضر ويدلي برأيه في القضية ولا يلزم أن يراني، فحضر الشيخ متميزاً قد ولى دبره إلى الحاكم وقال: الحق في هذه القضية مع الهندوك، والأرض أرضهم ولا يجرمنكم شنآن قوم ألا تعدلوا، فقضى الحاكم بذلك، وخسر المسلمون القضية، ولربما غضب بعضهم ولكنهم كسبوا قلوب أولئك فأسلم منهم جمع.

أرأيت كيف يكون التميز؟

إن العلم عارية ووديعة من الله لا تباع كسلعة في السوق، لا يتعاون به على إثم آثم أو عدوان معتد أو ظلم ظالم.

فيا طلاب العلم:

ميزوا الأنفس عن رق الهوى وإلى الإسلام سيروا تبعا

توجيهات تعين الداعية على التميز

ومن كمال التميز -يا قاصد البحر- أن تضع في حسابك أموراً وأنت تخالط الناس وتشاهدهم، وتأكل وتشرب معهم، وتزور وتزار: أن تحرص على أن تظهر بمظهر الدقة والنظام والحفاظ على حقوق الآخرين.

أنت قدوة ينظر إليه: أكثر من الاغتسال أيام الحر.

لا تكثر من التنخم والتمخط بصوت عال.

لا تظهر التجشؤ كما يفعل البعض.

لا تأكل ثوماً، ولا تصنع لضيفك طعاماً فيه ثوم؛ فإن ذلك من التميز، ولا تتكلف كثيراً لضيفك لئلا تحرجه، وإن كنت ضيفاً على أحد فكل أكلك المعتاد؛ لأن صاحب المائدة الكريم يحب أن يأكل الضيف ويكثر في الزيارة.

لا تزر وقت قيلولة أو راحة أو منتصف ليل، واستأذن قبلها بالهاتف إن أمكن، واطرق الباب برفق ثلاثاً وإلا فارجع هو أزكى لك، وقف إلى جانب الباب لا أمامه إذ ربما تفتح امرأة.

ثم لا تطل وقت الزيارة فالوقت أنفاس لا تعود.

لا تصافح أخاك بيد مرتخية ولا بأخرى حديدية، وكن وسطاً؛ لا تناد أخاك بمزمار السيارة كما يفعل الطائشون.

في الهاتف: لا تطل الكلام ولا ترفع صوتك، واذكر اسمك لمن تكلمه مباشرة.

إن خدمك خادم أو عمل لك عامل فأجزل له الأجرة ولا تماطله.

في الكلام: لا تسابق وأنصت حتى يبرأ مخاطبك.

في التعزية: لا تبادر إلى تعزية مسافر فلعله لا يعلم ما حدث.

واحذر ثم احذر مما يوجب الخجل.

وإياك وما يعتذر منه ويسلب المروءة؛ فإن الشافعي قد طبق هذا المعنى فقال: والله! لو علمت أن الماء البارد يسلب مروءتي ما شربته إلا حاراً.

تميز عام حتى في اللعب، حتى في الرائحة، في كل الأمور؛ فإن العِرْف يُعرف بغصنه والقول يعرف بلحنه، والصبح لا يتمارى بإسفاره، ولا يفتقر إلى دليل على إشراق أنواره:

وما كل من قال القريض بشاعر وما كل من عاش الهوى بمتيم

فاقصد البحر تميَّز وخل القنوات!

الاتزان والعدل في كل الأمور

يا فتى الإسلام! اقصد البحر معتدلاً متزناً في حبك وبغضك وولائك وعدواتك، واحمل معك ميزان السنة الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يوم يقول في فتاواه: إذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وبر وفجور، وطاعة ومعصية، وسنة وبدعة استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، ومن العداوة والعقاب بقدر ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص موجبات الإكرام والإهانة.

ثم أتبع ذلك بقول الخطيب البغدادي: فليس من شريف ولا عالم غير الأنبياء إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه، فمتى كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله.

ولذا نقل ابن القيم رحمه الله عن شيخ الإسلام قوله: انظر لموسى صلوات الله وسلامه عليه: رمى الألواح التي فيها كلام الله فكسرها، وجر بلحية نبي مثله وهو هارون عليه السلام، ولطم أعين ملك الموت ففقأها، وربه تعالى يحتمل له كل ذلك ويحبه ويكرمه؛ لأنه قام لله تعالى تلك المقامات العظيمة في مقابلة أعدى عدو له فرعون، وصدع بأمر الله، وعالج أمتي القبط وبني إسرائيل أشد المعالجة، وأمتان كهذه الأمم معالجتها شديدة أليمة، يعبدون بقرة ثم يتوقفون في ذبح بقرة، ثم يعبرون البحر فيقولون: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة؛ فكانت هذه الأمور كلها كالشعرة في البحر.

لا غرو.

إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث، ومن قل خطؤه وكثر صوابه فهو على خير، والعبرة بكمال النهاية لا بنقص البداية.

فيا قاصد البحر: لا يكن حبك كلفاً، ولا بغضك تلفاً؛ فإن من الناس من إذا أحب كلف كما يكلف الصبي فلا يستغني عن محبوبه طرفة عين، وإذا أبغض أحب لصاحبه التلف.

إن الذي لا عيب فيه غير الأنبياء لم يخلق بعد، والكمال لصاحب الكمال.

وكفى بالمرء نبلاً أن تعد معايبه

فاربأ بنفسك وأنا أربأ بك أن تكون ممن تستفزه كلمة فينسى معها قاموس التآخي، ويجرد أصحابه من كل فضل كأن لم تكن بينه وبينهم مودة:

ولقد رأيت معاشراً جمحت بهم تلك الطبيعة نحو كل زيار

تهوى نفوسهم أذى إخوانهم شغلاً بكل دناءة وصغار

تبعوا الهوى فهوى بهم وكذا الهوى منه الهوان بأهله فحذار

فانظر بعين الحق لا عين الهوى فالحق للعين الجلية عار

صحح الأخطاء، واعدل، ولا تمس المشاعر، وامدح على قليل الصواب يكثر من الممدوح الصواب؛ ولا خير في المبالغة في شيء.

واقصد البحر بعدل واتزن وخلِّ القنوات.