حامل المشعل

بقلم/ سكينة إبراهيم

انطفأت كل القناديل والسُرُج، وباتت القرية في عتمة وظلام دامج، يمر القوم بعضهم علي بعض فلا يكاد أحدهم يري الآخر، بل يمكن فقط للجميع أن يسمع صوت اللعنات والتأوهات، والسخط يعبق بشظاياه كل الأمكنة، تغلب أحاديث الشكوي والحسرة علي أغلب اللقاءات بين الأصدقاء أو حتي في الأسواق وعلي ألسنة المارة، وكذلك داخل المنازل وعلي موائد الطعام في الغرف الداكنة الدامسة التي بات أوسعها ضيقا، وأبهاها خربا موحشا لأنه لا يُري له بهاء أو جمال، فقط يخيم علي الجميع ظلام كثيف داجٍ..

لم تبحث جُل أحدايث القرية الدائرة عن الأساليب الفاعلة لإعادة الضوء إلي القرية، في حين أن الأكثر كانوا يعلمون يقينا أن الطريق لذلك واضح بيّن، فقط يفرون منه لقسوته ومخاوفه المتوقعة..ولكن هيهات لذلك الهروب أن يجلب لهم النور أو يضع أيديهم علي حل آخر..
*****

حكي الأجداد ونقلوا لأحفادهم قصة هذا “الكهف” الذي يحوي البلورات الذهبية، والتي صنع منها القدماء أنوار القرية المتوهجة، سمع البعض هذا الكلام وتناساه، والبعض أهمله ولم يعر إليه إلتفاتا كبيرا، ولكن الأغلب عرفوه وتجاهلوا ذكره عن عمد نظرا لمعرفتهم بمدي وعورة هذا “الكهف” وحجم ما به من نتوءات وشقوق تجعل من الدخول إليه مغامرة حرجة..

إنتهت القصة إلي سمع أحد الفتية ممن يمتلك قلبا معلقا بالنور، وسمعا يفر من أحدايث السخط واللعنات، فسريعا وبدون تفكير طويل عزم أمره علي الذهاب إلي هذا “الكهف” ومن ثم العمل حتي العثور علي تلك “البلورات” و إلتقاط وجمع ما تساعده يداه عليه؛ ليوقد بذلك ولو مصباحا واحدا يعلقه في الطريق الطويل الممتد؛ علّه يكن عونا للصبية والشباب وهم يمرون به في ذهابهم كل يوم..
*****

انطلق ذو العزم والهمة مشمرا عن كفي العمل والكد، وسرعان ما وصل إلي حيث هذا “الكهف” المليء بالأنوار، وعند حافة الدخول اكتشف أنه لم يصل إلي هناك وحده، بل وصل قبله عدد لا بأس به من فتية القرية وشبابها، ممن لم ترضهم الإستكانة ولعن الظلام، بل حدثتهم جوارحهم بأن هناك واجبا لابد أن يكون معقودا للبذل علي تلك الأيدي وهاتيك الحواس..

تعارفت الهمم سريعا وتآلفت القلوب دونما أدني مشقة، وانطلقت الإرادات الشابة نحو طريقها مسرورة مغتبطة، مطمئنة لا إلي يُسر وسهولة المهمة، بل إلي عظيم هدفها ونبل مقصدها وخيرية الآمال المنعقدة عليها..

وبعد مباحثات ومداولات قصيرة، تم رسم خارطة تقريبية للمكان، وعليها تم تنظيم العمل وتوزيع المناحي والجهات والإنحناءات كل منها علي عاتق فتي بعينه أن يبحث فيها عن تلك البلورات الذهبية المضيئة، ثم انطلق الجميع كل في اتجاهه يؤدي دوره وواجبه ويبحث بلا كلل..
*****

لم يكن الأمر هينا، بل إن النتوءات الصخرية التي تملأ الأنحاء تجعل السير غاية في المشقة والجهد، هذا بخلاف انتشار الكثبان الرملية والحجارة المبعثرة مما يحيل مهمة البحث عن “بلورات” وسط كل تلك الركامات ضربا من الخيال..!

ومع ذلك فقد استمر العمل بلا قنوط، بل صاحبوا الأمل حاديا ومؤنسا يُلطف أجواءهم بحنو ويهون مشاق المسير الوعر..وبالكاد نجح كل فتي في العثور علي “بلورة” واحدة وسط الركام، ومع ذلك فقد استمروا في الكد والتنقيب؛ لأن أملهم كان فيها هو أكبر من ذلك وأبعد أثرا، فكل “بلورة” لا يمكنها أن تضيء أكثر من مصباح واحد فقط، وقد كان حلمهم أن يضيئوا القرية بأكملها، وأن يهبوا قناديلا مشعة للجميع بلا إستثناء، من تحامل عليهم ومن سخط ومن ضجر..
*****

ولذا فقد استمر عملهم في قلب الحجارة رأسا علي عقب، ورفع الصخور العاتية وشق الكثبان والرمال طولا وعرضا، ومن شدة وكثافة تلك الحركة وهذا التقليب فقد هاجت الصخور وماجت، وأخذت تتدحرج حتي سقطت أعلي الكثبان الرملية فدفعتها هي الأخري، وفي لمح البصر تحولت الحجارة والرمال إلي خضم من سيل كثيف تسقاط بلا رحمة فوق جباه هؤلاء الفتية فأرداهم، وصاروا في لحيظات جثامين مضمخة بالدماء..
*****

بعد لأي ..أفاق أحد الفتية.. فوجد نفسه وحيدا ملقي علي أبواب “الكهف” خائر القوي كسير العظام يفجر دما، أخذ جرعة من هواء الصباح العليل ملأ بها صدره، حتي استطاع أن يفهم ما حدث له ولرفاقه.. تمالك نفسه وربط جراحه ليقف النزيف بعض الشيء، ثم بحث في جيبه فلم يجد سوي تلك “البلورة” التي إلتقطها هو فقط، فارتد عائدا إلي داخل “الكهف” يزيح ما أمامه من صخور وحجارة، وهو في ذلك يحبس نفسه ويتمالكها بأعجوبة، فحتي دمعه فقد اضطر أن يمسحه من فوق عينيه كلما باغته وتدفق؛ كي لا تمنعه الدموع من أن يري طريقه بوضوح، واستمر متماسكا جلدا إلي أن نجح في الوصول إلي حيث جثامين أصدقائه، وهناك ظفر باستخراج “بلورة” ذهبية من جيب كل صديق له، فاجتمعت في يديه حفنة من “البلورات”..خرج في إثر ذلك.. حيث تأكد أنه قد حقق الهدف ووصل إلي مأربه؛ ذاك الذي كان بالضبط مأرب غيره من الفتيان..
*****
..قبل وصوله إلي القرية، أخذ ينظر ويحدق في تلك “البلورات” المجتمعة في يديه، ويتذكر ذاك الثمن الباهظ الذي تكلفته؛ ثم طرأت له فكرة، حيث أخذ يصل بين كل “بلورة” وأخري بخيط متين ملتف، فصاروا أشبه ما يكون بطوق دائري متماسك، ثم ربط هذا الطوق أعلي عصا غليظة؛ نثر عليها وفوقها حفنة من التراب الذي واري فيه أصدقاء الطريق، وعندها اشتعلت “البلورات” وهبت منها ضياء لامعة متوهجة كما الشمس في جلاء الظهيرة، فدخل بتلك الشعلة قريته المظلمة، فصارت كأبهي نجم متلأليء، وكل ما إلي جوارها ليس إلا أقمار وظلال..