تأليف: روبير جاكسون

ترجمه:الأستاذ / أنور الجندي –رحمه الله –

الحلقة الأولى:

    في فبراير سنة (1946 م)، كنت في زيارة للقاهرة.. وقد رأيت أن أقابل الرجل الذي يتبعه نصف مليون شخص، وكَتب في النيويورك كرونيكل بالنص:

    زرت هذا الأسبوع رجلا قد يصبح من أبرز الرجال في التاريخ المعاصر، وقد يختفي اسمه إذا كانت الحوادث أكبر منه ذلك هو الشيخ حسن البنا زعيم الإخوان.

    هذا ما كتبته منذ خمس سنوات، وقد صدقتني الأحداث فيما ذهبت إليه، فقد ذهب الرجل مبكراً، وكان أمل الشرق في صراعه مع المستعمر، وأنا أفهم ما كان يطمح إليه الشرق من مصلح يضم صفوفه ويرد له كيانه، غير أنه في اليوم الذي بات فيه مثل هذا الأمل قاب قوسين أو أدني انتهت حياة الرجل على وضع غير مألوف، وبطريقة شاذة.

  هكذا الشرق لا يستطيع أن يحتفظ طويلا بالكنز الذي يقع في يده. لقد لفت هذا الرجل نظري بصورته الفذة عندما كنت أزور القاهرة -بعد أن التقيت بطائفة من الزعماء المصريين ورؤساء الأحزاب-؛ خلاب المظهر، دقيق العبارة، بالرغم من أنه لا يعرف لغة أجنبية. لقد حاول أتباعه الذين كانوا يترجمون بيني وبينه أن يصوروا لي أهداف هذه الدعوة وأفاضوا في الحديث على صورة لم تقنعني، وظل الرجل صامتا. حتى إذا بدت له الحيرة في وجهي قال لهم قولوا له: هل قرأت عن محمد؟ قلت: نعم. قال: هل عرفت ما دعا إليه وصنعه؟ قلت: نعم. قال هذا هو ما نريده، وكان في هذه الكلمات القليلة ما أغناني عن الكثير. لفت نظري إلى هذا الرجل سمته البسيط، ومظهر العادي وثقته التي لا حد لها بنفسه، وإيمانه العجيب بفكرته. كنت أتوقع أن يجيء اليوم الذي يسيطر فيه هذا الرجل على الزعامة الشعبية لا في مصر وحدها، بل في الشرق كله. 

   وسافرت من مصر بعد أن حصلت على تقارير وافية عن الرجل وتاريخه، وأهدافه وحياته، وقارنت بينه وبين محمد عبده وجمال الأفغاني، والمهدي والسنوسي، ومحمد بن عبد الوهاب. فوصل بي البحث إلى أنه قد أفاد من تجارب هؤلاء جميعا وتفادي ما وقعوا فيه من أخطاء. ومن أمثلة ذلك أنه جمع بين وسيلتين متعارضتين جري علي إحداهما الأفغاني وارتضي الأخرى محمد عبده. كان الأفغاني يري الإصلاح عن طريق الحكم، ويراه محمد عبده عن طريق التربية.  وقد استطاع حسن البنا أن يدمج الوسيلتين، ووصل إلى ما لم يصلا إليه، لقد جمع صفوة المثقفين من الطبقات والثقافات المختلفة إلي مذهب موحد وهدف موحد.

     ثم أخذت أتتبع خطواته بعد أن عدت إلي أمريكا وأنا مشغول به، حتى أثير حوله غبار الشبهات حينا مما انتهي إلي اعتقال أنصاره، وهي مرحلة كان من الضروري أن يمر بها أتباعه، ثم استشهاده قبل أن يتم رسالته. وبالرغم من أنني كنت اسمع في القاهرة أن الرجل لم يعمل شيئا حتى الآن وإنه لم يزد علي جمع مجموعات ضخمة من الشباب حوله، غير أن حركة فلسطين ومعركة التحرير في القناة قد أثبتتا بوضوح أن الرجل صنع بطولات خارقة.. قل أن تجد مثلها إلا في تاريخ العهد الأول للدعوة الإسلامية.. كل ما أستطيع أن أقوله أن الرجل أفلت من غوائل المرأة والمال والجاه وهي المغريات التي سلطها المستعمر علي المجاهدين، وقد فشلت كل المحاولات التي بذلت في سبيل إغرائه.. وقد أعانه علي ذلك صوفيته الصادقة وزهده الطبيعي. لقد تزوج مبكرا وعاش فقيرا وجعل جاهه في ثقة أولئك الذين التفوا حوله، ومضي حياته القصيرة العريضة مجانبا لميادين الشهرة الكاذبة، وأسباب الترف الرخيص.

    وكان يترقب الأحداث في صبر ويلقاها في هدوء، ويتعرض لها في اطمئنان ويواجهها في جرأة. لقد شاءت الأقدار أن يرتبط تاريخ ولادته وتاريخ وفاته بحادثين من أضخم الأحداث في الشرق فقد ولد عام( 1906م)وهو عام دنشواي. ومات عام( 1949م)، وهو عام ” إسرائيل” التي قامت شكليا سنة( 1948م) وواقعيا سنة (1949م). وكان الرجل عجيبا في معاملة خصومه، ولا يصارعهم بقدر ما يحاول إقناعهم وكسبهم إلي صفه، وكان يري أن الصراع بين هيئتين لا يأتي بالنتائج المرجوة. وكان يؤمن بالخصومة الفكرية ولا يحولها إلي خصومة شخصية ولكنه مع ذلك لم يسلم من إيذاء معاصريه ومنافسيه، فقد أعلنت عليه الأحزاب حربا عنيفة..  الرجل يقتفي خطوات عمر وعلي ويصارع في مثل بيئة الحسين فمات مثلهم شهيدا.

    لقد سمعت الكثير من خصومه، وكان هذا طبيعيا بل كان من الضروري أن يختلف الناس في رجل استطاع أن يجمع حوله هذا الحشد الضخم من الناس بسحر حديثه وجمال منطقه، وقد انصرف هؤلاء من حول الأحزاب، والجماعات والفرق الصوفية والمقاهي ودور اللهو. وكان لابد أن يصبح هذا مثار حقد بعض الناس الذين أدهشهم أن يستطيع هذا الرجل المتجرد الفقير أن يجمع إليه مثل هذا الشباب. ومن الأمور التي لفتت نظري أنه أخذ من عمر خصلة من أبرز خصاله، تلك هي إبعاد الأهل عن مغانم الدعوة، فقد ظل عبد الرحمن ومحمد عبد الباسط، وهم إخوته، بعيدين عن كبريات المناصب، ولطالما كان يحاسبهم، كما كان عمر يحاسب أهله ويضاعف لهم العقوبة إذا قصروا. وقد أتيح لي أن ألتقي بوالده الوقور، الشيخ عبد الرحمن البنا، وسمعته يتحدث مع بعض الإخوان، إنه كان يتمني لو أن ابنه وضع الكتب في أمر الإسلام واكتفي بذلك، وقد رد عليه الأستاذ بأنه منشرح الصدر لمعالجة الإسلام عن طريق تآلف الرجال. ثم يتحدث جاكسون عن نشأة حسن البنا وأفكاره فيقول:

   … في الأزقة الضيقة في أحشاء القاهرة، في حارة الروم، وسوق السلاح وعطفة نافع، وحارة الشماشرجى.. بدأ الرجل يعمل وتجمع حوله نفر قليل، وكان حسن البنا الداعية الأول في الشرق الذي قدم للناس برنامجا مدروسا كاملا. لم يفعل ذلك أحد قبله، ولم يفعله جمال الدين ولا محمد عبده، ولم يفعله زعماء الأحزاب والجماعات الذين لمعت أسماؤهم بعد الحرب العالمية الأولي…

   .. وأستطيع بناء علي دراساتي الواسعة أن أقول: إن حياة الرجل وتصرفاته كانت تطبيقا للمبادئ التي نادي بها، وقد منحه (الإسلام) كما كان يفهمه ويدعو إليه، حلة متألقة، قوية الأثر في النفوس، لم تتح لزعماء السياسة ولا لرجال الدين ! لم يكن من الذين يشترون النجاح بثمن بخس، ولم يجعل الواسطة مبررة للغاية، كما يفعل رجال السياسة، ولذلك كان طريقه مليئاً بالأشواك، وكانت آية متاعبه أنه يعمل في مجري تراكمت فيه الجنادل والصخور، وكان هذا مما يدعوه إلي أن يدفع أتباعه إلي التسامي ويدفعهم إلي التغلب علي مغريات عصرهم والاستعلاء علي الشهوات التي ترتطم بسفن النجاة فتحول دون الوصول إلي البر. كان يريد أن يصل إلي الحل الأمثل، مهما طال طريقه، ولذلك رفض المساومة، وألغي من برنامجه أنصاف الحلول، وداوم في إلحاح القول بأنه لا تجزئة في الحق المقدس في الحرية والوطنية والسيادة.. وكان هذا مما سبب له التعب والأذى.

    وراعت بعض من حوله الثمرة، وعجزت أعصابهم عن أن تقاوم البريق، فسقطوا في منتصف الطريق.. كان يؤمن بالواقعية ويفهم الأشياء علي حقيقتها، مجرد من الأوهام، وكان يبدو – حين تلقاه – هادئا غاية الهدوء، وفي قلبه مرجل يغلي، ولهيب يضطرم فقد كان الرجل غيورا علي الوطن الإسلامي، يحترق كلما سمع بأن جزءا منه قد أصابه سوء أو ألم به أذي، ولكنه لم يكن يصرف غضبته. كبعض الزعماء. وفي مصارف الكلام أو الضجيج أو الصياح، ولا ينفس عن نفسه بالأوهام وإنما يوجه هذه الطاقة القوية إلي العمل والإنشاء والاستعداد لليوم الذي يمكن أن تتحقق فيه آمال الشعوب. وكان في عقله مرونة، وفي تفكيره تحرر، وفي روحه إشراق، وفي أعماقه إيمان قوي جارف. وكان متواضعاً تواضع من يعرف قدره، متفائلا، عف اللسان عف القلم، يجل نفسه عن أن يجري مجري أصحاب الألسنة الحداد.