تأليف: روبير جاكسون

ترجمه:الأستاذ / أنور الجندي –رحمه الله –

الحلقة الثانية:

    كان مذهب حسن البنا السياسي أن يرد مادة الأخلاق إلي صميم السياسة بعد نزعت منها وبعد أن قيل: إن السياسة والأخلاق لا يجتمعان. وكان يريد أن يكذب قول تاليران: ( إن اللغة لا تستخدم إلا لإخفاء آرائنا الحقيقة ) فقد كان ينكر أن يضلل السياسي سامعيه أو أتباعه، أو أمته. وكان يعمل علي أن يسمو بالجماهير، ورجل الشارع، فوق خداع السياسة، وتضليل رجال الأحزاب. وكان يوم الثلاثاء.. يوما مشهودا يتجمع فيه بعض مئات من أنحاء القاهرة ليستمعوا إلي هذا الرجل الذي يصعد المنصة في جلبابه الأبيض وعباءته البيضاء وعمامته الجميلة، فيجيل النظر في الحاضرين لحظة.. بينما تنطلق الحناجر بالهتاف.

   .. ولا تدهشك خطابته بقدر ما تدهشك إجابته عن الأسئلة التي كان بعضها يتصل بشخصيته وحياته وأسرته. وقد سئل مرة بعد أن ترك عمله في الحكومة ورفض مرتب الجريدة الضخم الذي كان يبلغ مائة جنية.. مم يأكل.. فقال في بساطة: كان محمد يأكل من مال خديجة وأنا آكل من مال ( أخ خديجة ) يقصد صهره.. وكان أعجب ما في الرجل صبره علي الرحلات في الصعيد.. هذه الرحلات التي لا تبدأ إلا في فصل الصيف حيث تكون بلاد الوجه القبلي في حالة غليان.. وفي أحشائها.. ينتقل الرجل بالقطار والسيارة والدابة وفي القوارب وعلي الأقدام.

    وهناك تراه، غاية في القوة واعتدال المزاج.. لا الشمس اللافحة ولا متاعب الرحلة.. تؤثر فيه ولا هو يضيق بها تراه منطلقا كالسهم، منصوب القامة يتحدث إلي من حوله، ويستمع، ويفصل في الأمور. وقد أمدته هذه الرحلات في خمسة عشر عاما، زار خلالها أكثر من ألفي قرية، زار كل قرية بضع مرات، يفيض غزير من العلم والفهم للتاريخ القريب والبعيد وللآسر والعائلات والبيوتات وأحداثها وأمجادها وما ارتفع منها وما انخفض.. وألوانها السياسية وأثرها في قراها وبلادها ورضا الناس عنها أو بغضهم لها.. وما بين البلاد أفرادا وأحزاباً وهيئات وطوائف من خلافات أو حزازات.. كان يزور أحيانا بلدا من البلاد بلغت فيه الخصومة بين عائلتين مبلغها، وكل عائلة تود أن تستأثر به لتنتصر علي الأخرى، فيقصد إلي المسجد مباشرة، أو يغير طريق سفره فلا يستقبله أحد إلا بعد أن يكون قد قصد إلي دار عامل فقير في البلد. وكنت إذا قلت له فلان.. الحسيني مثلا أو الحديدي أو الحمصاني قال لك.. إن هذا الاسم تحمله خمس أسر أو أربع إحداها في القاهرة والثانية في دمنهور والثالثة في الزقازيق والرابعة في.. فأيها تقصد ؟

    وكانت هذه الزيارات المتوالية طوال هذه السنوات المتتالية، قد كونت له رأياً في الناس.. فقل أن تكون قرية في مصر لا يعرف الرجل شبابها وأعيانها ووزراءها ورجال الأحزاب والدين والتصوف فيها.. ولا يكون قد تحدث إليهم واستمع منهم.. وعرف آمالهم ورغباتهم، وفي خلال الزيارات.. كنت تري الرجل بسيطا غاية البساطة ينام في الأكواخ أحياناً، ويجلس علي ( المصاطب ) ويأكل ما يقدم له.. ولا يحرص إلا علي شيء واحد وهو ألا يفهم الناس عنه أنه شيخ طريقة.. أو من الطامعين في المنفعة العاجلة. ولقد حدثني أنه كان يدخل بلدا من البلاد أحياناً لا يعرف فيها أحداً فيقصد إلي المسجد، فيصلي مع الناس، ثم يتحدث بعد الصلاة عن الإسلام.. وأحيانا ينصرف الناس عنه فينام علي حصير المسجد وقد وضع حقيبته تحت رأسه.. والتف بعباءته، ولا شك أنه قد لقي في زياراته شيوخاً وشبابا، مثقفين وعوام.. وإنه قد استمع إليهم وقال لهم.. وأفاد منهم خبرة ضخمة واسعة.. أضافها إلي علمه وثقافته.. وإنني علي ثقة من أن حسن البنا رجل لا ضريب له في هذا العصر، وأنه قد مر في تاريخ مصر، مرور الطيف العابر.. الذي لا يتكرر..

( كان لابد أن يموت هذا الرجل الذي صنع التاريخ وحول مجري الطريق شهيدا.. كما مات عمر وعلي والحسين، فقد كان الرجل يقتفي خطواتهم ) مات في عمر الزهر النضير، وفي نفس السن التي مات فيها كثير من العباقرة ورجال الفكر والفن.. وقضي وهو يسطع ويتألق. وعاش الرجل كل لحظة في حياته، بعد أن عجزت كل وسائل الإغراء في تحويله عن (نقاء) الفكرة وسلامة الهدف. لم يحن رأسه، ولم يتراجع ولم يتردد أمام المثبطات ولا المهددات.. وكان الرجل قذى في عيون بعض الناس، وحاول البعض أن يضموه إليهم أو يطووه، فكان أصلب عودا من أن يخدع أو ينطوي… وكان علي بساطته التي تظهر للمتحدث إليه بعيد الغور إلي الدرجة التي لا تفلت متصلا به أو متحدثا إليه من أن يقع في شركه… ويؤمن بالفكرة التي تدعو إليها.. وكان لا يواجه إلا من يعترض طريق دعوته، وكان يستر من لم يكشف خصومته، وكان لا يهاجم عهدا مادام هذا العهد لا يحول دون الامتداد الطبيعي لدعوته وكان يدخر قوته للوطن، ويكبر نفسه ودعوته من أن يكون أداة صراع داخلي..

    وظن بعض الناس أن هذا ضعف ولين ومسايرة، وما كان كذلك، فالرجل بطبيعته لم يكن يحب الصراع في معركة جانبية، ولا يقبل توزيع قواه.. وإنما يؤمن بالتطور والانتقال من مرحلة إلي مرحلة ومن دور إلي دور علي أساس النضج والتكامل، وكان هذا يزعج خصوم الوطن الذين لم يعهدوا سياسة تعلو علي المطامع الفردية، وتتعالي علي الأغراض الذاتية، وتنفي جوها من الدوافع الشخصية الخاصة. وكان الرجل علي قدراته الفائقة في ضبط أعصابه كيسا في مواجهة الأمور، لبقا في استقبال الأحداث والأزمات. وإلي هذا كله كان غاية الاعتدال، فكان يعيش براتب وبين يديه الأموال الضخمة المعروضة من أتباعه، وحوله من العاملين معه من يصل دخله إلي ضعف أو أضعاف ما يحصل عليه.

  زهد وبساطة:

    وكان في بيته مثال الزهادة، وفي ملبسه مثال البساطة، وكنت تلقاه في تلك الحجرة المتواضعة الفراش ذات السجادة العتيقة والمكتبة الضخمة، فلا تراه يختلف عن أي إنسان عادي، إلا ذلك الإشعاع القوي والبريق اللامع الذي تبعثه عيناه، والذي لا يقوي الكثيرون علي مواجهته، فإذا تحدث سمعت من الكلمات القليلة المعدودة موجزا واضحا للقضايا المطولة التي تحتويها المجلدات، وكان إلي هذه الثقافة الواسعة الضخمة، قديرا علي فهم الأشخاص لا يفاجئك بالرأي المعارض، ولا يصدمك بما يخالف مذهبك، وإنما يحتال عليك حتى يصل إلي قلبك ويتصل بك فيما يتفق معك عليه.. ويعذرك فيما يختلفان فيه. وهو واسع الأفق إلي أبعد حد، يفتح النوافذ للهواء الطلق، فلا يكره حرية الرأي ولا يضيق بالرأي المعارض، وقد استطاع أن يحمل الرأي الجديد إلي الجماهير دون أن يصطدم بهم.. هذا الجديد الذي لو عرض بغير لباقة لوقفوا ضده وحاربوه، لقد نقلهم من وراثياتهم، وغير فهمهم للدين: وحول اتجاههم في الحياة وأعطاهم الهدف وملأ صدورهم بالأمل في الحرية والقوة.

    وكان له من صفات الزعماء. صوته الذي تتمثل فيه القوة والعاطفة، وبيانه الذي يصل إلي نفوس الجماهير ولا تنبو عنه أذواق المثقفين، وتلك اللباقة والحنكة والمهارة في إدارة الحديث والإقناع. وبهذه الصفات جميعها استطاع كسب هذه الطائفة الضخمة من الأنصار في هذا الوقت القصير من الزمن، فحول وجهات نظرها ونقلها نقلة واسعة.. دون ارتطام أو صراع.. كان سمته البسيط ولحيته الخفيفة، وذلك المظهر الذي لا نجد فيه تكلف بعض العلماء، ولا العنجهية ولا السذاجة.. قد أكسبه الوقار… ولقد كانت شخصية حسن البنا جديدة علي الناس.. أعجب لها من رآها واتصل بها.. كان فيه من الساسة دهاؤهم، ومن القادة قوتهم، ومن الرياضيين حماسهم، ومن الفلاسفة مقاييسهم، ومن الخطباء لباقتهم، ومن الكتاب رصانتهم.

    وكان كل جانب من هذه الجوانب يبرز كطابع خاص في الوقت المناسب، ولكل هذه الصفات التي تقرؤها في كتب شمائل الصحابة والتابعين، لم يكن مقدرا أن يعيش طويلا في الشرق.. وكان لابد أن يموت باكرا، فقد كان غريبا عن طبيعة المجتمع، يبدو كأنه الكلمة التي سبقت وقتها، أو لم يأت وقتها بعد. ولم يكن الغرب ليقف مكتوف اليدين، أمام مثل هذا الرجل.. الذي أعلي كلمة الإسلام علي نحو جديد.. وكشف لرجل الشارع حقيقة وجوده ومصيره وجمع الناس علي كلمة الله.. وخفت بدعوته ريح التغريب والجنس ونزعات القومية الضيقة.. واعتدلت لهجات الكتاب، وبدأ بعضهم يجري في ركب ( الريح الإسلامية )..