تأليف: روبير جاكسون

ترجمه:الأستاذ / أنور الجندي –رحمه الله –

الحلقة الرابعة:

    إن تاريخ ( الرجل القرآني ) طويل.. ولكن أخصب سنواته أيام الحرب.. منذ أن خرج من المعتقل عام( 1936م)، في هذا الوقت الذي شغلت الحرب الدنيا جميعها، عن الأحزاب، وعن السياسة، وعن كل شيء، كان الرجل لا ينام، كان يسعي ويطوف ويذهب إلي كل قرية وكل نجع وكل دسكرة يفتش عن الشباب، ويحدث الشيوخ ويتصل بالعظماء والعلماء، ويومها بهر الوزراء، وأعلن بعضهم الانضمام إلي لوائه الخفاق، وجيشه الجرار. وحاول الانجليز أن يقدموا عروضا سخية.. فرفضها الرجل إباء.. ونامت الأحزاب في انتظار الهدنة، وظل الرجل الحديدي الأعصاب يعمل أكثر من عشرين ساعة لا يتعب ولا يجهد، كأنما صيغت أعصابه من فولاذ. لقد كان يحب فكرته حبا يفوق الوصف، ولم يكن في صدره شيء يزحم هذه الدعوة. كان يعشق فكرته كأنما هي حسناء! لا يجهده السهر، ولا يتعبه السفر وقد أوتي ذلك العقل العجيب الذي يصرف الأمور في يسر، ويقضي في المشاكل بسرعة ويفضها في بساطة، ويذهب عنها التعقيد.

    كان لا يحتاج إلي الإسهاب ليفهم أي أمر، كأنما لديه أطراف كل أمر، فما إن تلقي إليه أوائل الكلمات حتى يفهم ما تريد، بل كان أحياناً يجهر بما تريد أن تقوله له، ويفتي لك فيما تريد أن تسأل عنه. كان نافذ البصيرة.. يري ما وراء الأشباح.. في ذلك السر الإلهي قبس،  كان يلتهم كل شيء، لا تجد علما ولا فكرا ولا نظرية جديدة في القانون أو الاجتماع أو السياسة أو الأدب، لم يقرأها ولم يلم بها.

 وحدثني الرجل القرآني عندما أخذت أراجعه رأيه في صيغة الإسلام للشرق: قال: أضرب لك مثلا تركيا: إنها ستعود إلي الإسلام وإن عوامل ذلك العود قد تبدت منذ الآن. كان هذا الحديث بيني وبينه عام( 1946م) وقد لاحظت في السنوات التالية ما تحقق من قول حسن البنا في مايو( 1950م) بعد أن مضي الرجل إلي ربه حيث هزم حزب مصطفي كمال وانتصر الحزب الذي يقال عنه: إنه رجعي.

 وسألته عن الصوفية والتصوف وهل هو من الإسلام ؟ وكان ذلك علي أثر ما نشرته بعض الصحف من أنه من سلالة مغربية تعتنق الطريقة الشاذلية فكان مما أفضي به إلي: ” أن الصوفية النقية البعيدة عن التعقيد هي من لباب الإسلام، وأنها هي الدرجة التي يصل إليها الرجل إلي الحق، وأن الصوفية بالمفهوم الأصيل تمد الطبع بحب الجهاد والكفاح وافتداء الفكرة.. وأنه يجب أن يرقي أتباعه إلي هذه الدرجة، وأنه لا بأس علي الإخوان من أن يأخذوا المعاني القوية الكامنة وراء مظاهر الصوفية فينقلوها إلي دعوتهم دون أن يتقيدوا بأثوابها القديمة أو مظاهرها التي لا تتفق مع روح العصر “.

فلما أفضيت إليه بخواطري، الخائفة من أن يجتمع الناس جميعا علي دعوة واحدة، لا سيما وأن هناك من المواهب الإسلامية ما يحول دون ذلك.. قال لي:” إن هذه الخلافات لا تحول دون ارتباط المسلمين، وإنها إحدى عوامل السعة ومقدرة الإسلام علي مجاراة العصور والأزمنة والأقطار، ونحن نعتقد أن الخلاف في فروع الدين أمر لابد منه، وضرورة لابد منها، وقد قال الإمام مالك للخليفة أبي جعفر المنصور حين طلب إليه أن يوطئ للناس كتابا يجمعهم عليه  قال: (إن أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم قد تفرقوا في الأمصار وعند كل قوم علم؛ فإذا حملتهم علي رأي واحد تكون فتنة). فضلا عن أن التطبيق يختلف باختلاف البيئات، وقد أفتى الإمام الشافعي في مصر بغير ما أفتى به في العراق وقد أخذ في كليهما بما استبان له، ولذلك فإن الإجماع في الفروع مطلب مستحيل وهو يتنافي مع طبيعة الإسلام، ونحن نلتمس العذر لمن يخالفوننا في الفروع، ونري أن هذا الخلاف ليس حائلا دون ارتباط القلوب وتبادل الحب.. والإخوان أوسع الناس صدرا مع مخالفيهم”.

 ولما سألته عن الإسلام والسياسة وأنا أري أنهما لا يتصلان بحال. قال لي: أتري.. إن الإسلام بغير السياسة لا يكون إلا هذه الركعات وتلك الألفاظ وإن الإسلام في الحق عقيدة ووطن وجنس وسياسة وثقافة وقانون ولو انفصل الإسلام عن السياسة لحصر نفسه في دائرة ضيقة ولما ترك للمسلمين إلا القشور والمظهريات والأشكال.

   … وقال لي فيما قال: إن سر انتصار الغرب وظفره هو الإسلام.. قلت مستغربا كيف؟ قال: من ناحيتين إنه حفظ التراث القديم وزاد عليه حين أسلمه لأوروبا عن طريق قرطبة والقسطنطينية، وإن الغرب انتصر بأخلاق الشرق ومبادئه فقد عرف الغرب الحصيف كيف وصل الشرق بهذه الأخلاق ونجح حين غفل عنها الشرق وهو صاحبها، والذي تخلف عنها. ومضي يقول لي: إن ما تراه الآن في الشرق، ليس هو الإسلام ولكنهم المسلمون: اسما ووراثة، هؤلاء الذين لو فهموا حقيقتهم لوصلوا.

    وحدثني بعض أتباع الرجل القرآني عما لقي الرجل إبان زيارته لأرض الحجاز، وكيف تقاطرت علي بيته الذي ينزل فيه وفود المسلمين من إندونيسيا وجاوة وسيلان والهند ومدغشقر وربونيون ونيجيريا والكمرون وإيران والأفغان تتعرف عليه وتجتمع به وهو مع كل مجموعة يتحدث عن أمور هي مصدر اهتمام الفريق الذي يلتقي به، يحدثهم عن قضاياهم ومشاكلهم فيبهرهم كأنه قادم علي التو من بلادهم وليسوا هم القادمين عليه. وكان فريق من أتباعه يهرعون إليه يحدثونه عما يقول بعض المتشددين فيقول: لا توحيد بغير حب، لا توحيد بغير حب. وأعجب العجب أن تستمع إلي الكلمات التي يلقيها الرجل إلي أتباعه: وفيها تتمثل التضحية الخالصة والإيمان:

    ” إننا قد عرفنا الطريق إلي أوطاننا الإسلامية: إنها هي الجهاد والموت والفداء؛ إنما هي الطريق الوحيد الذي سلكه المؤمنون في كل زمان ومكان. إن الدنيا كلها تائهة ضالة تبحث عن الحق والمثل العليا فلا تجده فيما لديها من نظم وفلسفات ومبادئ رسالتكم العظمى للإنسانية أن تحرروها وتنقذوها وتسعدوها”. “إن الشرق يتهيأ لنهضة كبرى ووثبة عظمى وإن الغرب يقف له بالمرصاد ولابد لنا من أن نتسلم راية الحضارة الإنسانية لنسعد الناس ونحررهم بعد أن فشل الغرب وتخبط “. ” إن الدنيا حائرة وضالة لاهية: وكلها تنظر إلي القيادة ومكانها شاغر ولن يملأها غيركم لإقرار رسالة السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإحقاق الحق وتحرير الإنسان بمبادئ من وحي السماء “.

 ومما استلفت نظري في الرجل القرآني أنه يضع الحدود بين الخصومات الشخصية والخصومات الفكرية وفي هذا يقول:

   ” والخصومة بيننا وبين القوم ليست خصومة شخصية أبداً، ولن تكون، ولكنها خصومة فكرة ونظام؛ هم يريدون لهذه الأمة نظاما اجتماعيا ممسوخا من تقليد الغرب في الحكم والسياسة والقضاء والتعليم والثقافة، ونحن نريد لها وضعا ربانيا سليما من تعاليم الإسلام وهديه وإرشاده “.