دروس من تنحي المخلوع

في الحادي عشر من فبراير عام 2011م تنحي حسني مبارك عن حكم مصر تحت ضغط الثورة الشعبية التي انطلقت شرارتها قبل ذلك بقليل في الخامس والعشرين من يناير، وانتشرت في طول البلاد وعرضها، وظلت تتزايد وتشتعل ثمانية عشر يوماً متصلة حتي بلغت أوجها يوم التنحي؛ حيث اضطر نظام مبارك ودولته العميقة وسادته الغربيون وحلفاؤه الإقليميون إلي التخلي عنه، وتعديل خطتهم لإعادة إنتاج النظام وإحكام السيطرة من جديد علي الشعب المصري المظلوم.

لقد كان تنحي مبارك عن الحكم آية من آيات الله، نعم لقد جاء هذا التنحي مفاجئاً للجميع، جاء بعد ثلاثين عاماً جثم فيها نظامه القمعي علي صدر الشعب المصري، فأفقره وجوَّعه وأمرضه وغيب وعيه وخدر أعصابه، ومنع قواه الحية من العمل لصالح الشعب، جاء بعد أن مكن لدولته العميقة وحاشيته المقربة من مقاليد الأمور كلها، وبعد أن بدأ في تنفيذ خطة توريث السلطة لنجله جمال برضي إقليمي ودولي، ثم فجأة تنقلب الأمور رأساً علي عقب؛ بانطلاق ثورة الخامس والعشرين من يناير، التي لم يكن أحد في العالم ينتظرها في ذلك الوقت رغم وجود مبرراتها من ظلم وقمع، وتبدأ بمظاهرات في عيد الشرطة وبمطالب محدودة تمثلت في إطلاق الحريات و تغيير وزير الداخلية، ثم تتزايد وتتسع ويرتفع سقف مطالبها سريعاً لتنادي بإسقاط النظام وتنجح في خلع رأس هذا النظام السلطوي الديكتاتوري البغيض في ثمانية عشر يوماً.

وبغض النظر عن السيناريوهات التي تمت في الحقيقة وأدت في النهاية إلي التنحي، لكن الدروس المستفادة من هذه الواقعة كثيرة ومهمة ويجب علي كل من يهتم بالشأن العام أن يعيها ويتدبرها ليستفيد منها، ومنها دروس إيمانية وأخري تاريخية وثالثة عملية.

أما الدروس الإيمانية: فأولها الثقة في وعد الله تعالي بإهلاك الظالمين، وأن ذلك قدر محتوم وأنه يتم وفق قانون محكم وسنة مطردة بقدر الله الغالب وقدرته القاهرة وعلمه المحيط وحكمته المستوعبة لكل ما ظهر وما بطن، فقد استحق الظالمون الهلاك منذ أن توغلوا في الظلم وأضاعوا فرص التوبة والرجوع، ولكن موعد التنفيذ مقرون بعلم الله وتدبيره لا يخضع لعجلة المتعجلين أو أمنيات الراغبين﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا﴾ (يونس: من الآية 13) ﴿وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا﴾ (الكهف: 59).

ومن الدروس الإيمانية أيضاً أن هلاك الظالمين يأتي في الغالب علي خلاف توقعات الجميع من الظالمين والمظلومين، ومن أنصار الظالمين والمتعاطفين مع المظلومين علي السواء، يأتي في وقت فريد يختاره من يقول للشيئ كن فيكون، يأتي علي غير موعد ولا حساب ولا توقع، ولا انتظار، وفق هذا القانون العام: ﴿حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (يونس: من الآية 24). وهذا القانون له تطبيقاته الكثيرة السابقة التي نراها في صفحات القرآن عن الأمم السابقة، ومنها إجلاء اليهود عن المدينة في عنفوان قوتهم وعلي غير توقع منهم ولا من الرسول صلي الله عليه وسلم وأصحابه الكرام: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾ (الحشر: 2).

وأما الدروس التاريخية فإن صفحات التاريخ قد احتفظت للظالمين بالمكان اللائق بهم في ذاكرة الإنسانية؛ فإذا عاشوا في مجد زائف يحف بهم المديح في كل مكان في سنوات بقائهم في سلطتهم؛ فما هي إلا أيام حتي يطوي هذا الذكر وتظهر الحقائق ويسجل التاريخ ما حرص الظالمون علي إخفائه. لقد تآمر الملك فاروق علي قتل الإمام البنا رحمه الله؛ فماذا بقي من ذكر الإمام البنا وذكر الملك فاروق؟ لقد بلغت دعوة الإمام البنا الآفاق، وما زال أثره في العقول والقلوب لم تزده الأيام إلا توهجاً وبريقاً، بينما انطفأت شعلة الملك فاروق وطويت صفحته حتي ضن عليه العسكر بقبر معروف يزوره الناس فيه في الأرض التي حكمها سنين عدداً. ونحن علي ثقة أن التاريخ لن يسجل للعسكر وسلطتهم وانقلابهم الغاشم إلا العار والشنار مهما امتلكوا من إعلام يخيل إليهم أنه سيوطئ لهم أكناف المجد ويرفعهم إلي مراتب لم تبلغها أعمالهم.

وأما الدروس العملية فتؤكد أن الإيجابية والضغط الشعبي يؤتي ثماره، وأنه يحتاج مع ذلك إلي وعي بطبيعة المرحلة وطبيعة العدو المتربص وأساليبه وأدواته، وطبيعة الظالمين وأحابيلهم ومكائدهم؛ فرغم نجاح الثورة في الضغط علي النظام القمعي العميق لدرجة التخلي عن رأس النظام؛ إلا أن ضعف الوعي بأساليب العسكر جعل كل طوائف الشعب المصري تفرح بالتنحي، وتقبل تكليف المخلوع للمجلس العسكري بإدارة شئون البلاد، وتعود إلي بيوتها بشعور حقيقي أن الكابوس قد انزاح وأن النظام القمعي لن يعود وأن القادم أفضل، وتداعبها أحلام الحرية والعدالة الاجتماعية والعيش الكريم، ولكن وسرعان ما تبددت هذه الأحلام مع سلوكيات العسكر الذي بدأ يكشر عن أنيابه شيئاً فشيئاً بعد أن تمكن من تبريد الثورة وزرع بذور الفتنة بين الثوار.

واليوم بعد سنوات من انقلاب العسكر علي أول تجربة ديمقراطية في الحكم، واستخدام إعلام الفتنة في تشويه التجربة وتحويل النجاح الحقيقي للرئيس مرسي وحكومته إلي فشل في أذهان شريحة لا يستهان بها، وشغل قوي الثورة بالسجالات الكلامية وتفرغ العسكر لزيادة قبضتهم وإحكامهم علي مقاليد الأمور، يجب التأكيد علي أمور مهمة منها:

أولاً: الاهتمام باليقظة الشعبية والعمل علي توسيع وتعميق الوعي الشعبي بخطورة العسكر ونظامهم ،وخطورة الانقلاب العسكري، علي كل مجالات الحياة، الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وعلي كل فئات الشعب المصري دون استثناء.

ثانياً: الاهتمام بوحدة الصف الثوري والحد الأدني في ذلك ترك الخلاف وتبادل الاتهامات والتخلي عن لغة التخوين والتعاون في المساحات المشتركة لإسقاط الانقلاب وإعادة بناء دولة مدنية حديثة بأيدي جميع أبنائها.

ثالثاً: بث الأمل في نفوس الشعب المظلوم، أن الظلم لن يدوم، وكما استطاع المصريون أن يزيحوا المخلوع يمكنهم أن يكسروا الانقلاب ويحاكموا المنقلب وعصابته، مع الأخذ في الاعتبار أن دروس التجربة توجب الحرص ألا يلدغ الشعب المصري من جحر العسكر مرة أخري.