رمضان ميلاد انسان جديد

قال ابن الجوزي رحمه الله : “قيل الشهور الاثنى عشر كمثل أولاد يعقوب عليه وعليهم السلام. وشهر رمضان بين الشهور كيوسف بين إخوته، فكما أن يوسف أحب الأولاد إلى يعقوب، كذلك رمضان أحب الشهور إلى علام الغيوب.

و أشار ابن الجوزي رحمه الله إلى ثلاث نكات حسنة مستفادة من هذا المثال:

النكتة الأولى: نكتة حسنة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم.

إن كان في يوسف من الحلم والعفو ما غمر جفاهم حين قال: {لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} (سورة يوسف 92) فذلك شهر رمضان فيه من الرأفة والبركات والنعمة والخيرات والعتق من النار والغفران من الملك القهار، ما يغلب جميع الشهور وما اكتسبنا فيه من الآثام والأوزار.

النكتة الثانية:

الإشارة فيه جاء إخوة يوسف معتمدين عليه في سد الخلل، وإزاحة العلل بعد أن كانوا أصحاب الخطايا وزلل.

فأحسن لهم الإنزال، وأصلح لهم الأحوال، وبلغهم غاية الآمال، وأطعمهم في الجوع، وأذن لهم في الرجوع، وقال لفتيانه: “اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ” فسد الواحد خلل أحد عشر.

كذلك شهر رمضان واحد، والشهور أحد عشر، وفي أعمالنا خلل، وأي خلل، وتقصير وأي تقصير، وتفريط في طاعة العليم الخبير.

ونحن نرجو أن نتلافى في شهر رمضان ما فرطنا فيه في سائر الشهور، ونصلح فيه فاسد الأمور، ويختمه علينا بالفرح والسرور، ونعتصم فيه بحبل الملك الغفور.

إن شاء الله تعالى بمنه وإحسانه وعفوه وغفرانه، إنه سميع بصير، وهو نعم أولى ونعم النصير.

النكتة الثالثة: أولاًد يعقوب ورمضان

وإشارة أخرى كان ليعقوب أحد عشراً ولداً ذكوراً، وبين يديه حاضرين ينظر إليهم ويراهم، ويطلع على أحوالهم وما يبدو من أفعالهم، ولم يرتد بصره بشيء من ثيابهم، وارتد بقميص يوسف بصيراً، وصار بصره منيراً وصار قوياً بعد الضعف، بصيراً بعد العمى، فكذلك المذنب العاصي إذا شم روائح رمضان، وجلس فيه مع المذكرين وقرأ القرآن وصحبهم بشرط الإسلام والإيمان، وترك الغيبة وقول البهتان، يصير إن شاء الله مغفورا له، بعد ما كان عاصياً وقريباً بعد ما كان قاصياً، ينظر بقلبه بعد العمى، ويسعد بقربه بعد الشقا، ويقابل بالرحمة بعد السخط، ويرزق بلا مؤونة ولا تعب، ويوفق طول حياته ويرفق بقبض روحه عند الوفاة، ويفضل بالمغفرة عند اللقاء، ويحظى في الجنان بدرجات الالتقاء.

فالله الله اغتنموا هذه الفضيلة في هذه الأيام القليلة، تعقبكم النعمة الجزيلة والدرجة الجليلة والراحة الطويلة إن شاء الله.

هذه والله الراحة الوافرة، والمنزلة السائرة، والحالة الرضية، والجنة السرية، والنعمة الهنية، والعيشة الرضية، لا تنال إلا بالوقار لهذا الشهر الذي عظمه الجبار، وفضل به محمد المختار، ومن لا يوقره كان مصيره إلى النار”.

ولنا نكتة رابعة وهي:

إذا كان ابن الجوزي رحمه الله جعل شهر رمضان كيوسف بين أخوته في الحب.

فهنا نكتة أخرى وهى أن الإنسان يولد بعد تسعة أشهر في بطن أمه، وشهر رمضان هو الشهر التاسع من الأشهر الهجرية، وهذا معناه أن الإنسان إذا غفرت له ذنوبه من رمضان إلى رمضان فهو في الحقيقة كأنه يولد من جديد كل عام، وهذا ما أشار إليه الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه” متفق عليه.

وشهر رمضان شهر تكفير الذنوب، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ قال صلى الله عليه وسلم: “الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر”رواه مسلم. وفي رواية عند أحمد في المسند: “الصَّلاَةُ الْمَكْتُوبَةُ إِلَى الصَّلاَةِ الَّتِي بَعْدَهَا، كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، قَالَ: وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَالشَّهْرُ إِلَى الشَّهْرِ – يَعْنِي رَمَضَانَ إِلَى رَمَضَانَ – كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا”وصححه الشيخ شاكر.

فهذا تصديق وتبيان أن شهر رمضان ميلاد جديدٌ لكل إنسان، فاحرص أخي الحبيب أن تكون مولودا جديدا بغفران الذنوب، ولاتكن هرما بثقل السيئات، فالويل لمن أدرك رمضان وخرج منه بالخسران روى مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرَ، فَلَمَّا رَقِيَ عَتَبَةً، قَالَ: «آمِينَ» ثُمَّ رَقِيَ عَتَبَةً أُخْرَى، فقَالَ: «آمِينَ» ثُمَّ رَقِيَ عَتَبَةً ثَالِثَةً، فقَالَ: «آمِينَ» ثُمَّ، قَالَ: «أَتَانِي جِبْرِيلُ، فقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ، فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، قُلْتُ: آمِينَ، قَالَ: وَمَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا، فَدَخَلَ النَّارَ، فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، قُلْتُ: آمِينَ، فقَالَ: وَمَنْ ذُكِرْتَ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ، فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ» (رواه ابن حبان وغيره وصححه، وصححه الألباني).