سعيد بن جبير

إذا كانت النفوس كبيرة … تعبت في مرادها الأبدان.

وأية نفوس وأية أبدان … إنها نفوس زكيه وأبدان لا تعرف الملل ولا الكلل لأنها باعت وربح البيع إن شاء الله.

ما أشبه اليوم بالبارحة … وسيظل الصراع بين الحق والباطل فيصول الباطل ويحول جولته وينكمش الحق ويظن الباطل أن الدائرة لن تدور ولكن هيهات هيهات ألا إن نصر الله قريب.

صفاته وتعليمه :-

كان فتي قوي البنية زكي النفس طاهر الفؤاد حاد الفطنة أسمر اللون حبشي الأصل عربي الولاء .
أدرك أهمية العلم فانكب علي تحصيله وتعهد نفسه بالتربية فجعل التقي في يمينه والعلم في شماله وشد عليهما بكلتا يديه .
وكان يحب القرآن وربما يستطيع أن يقرأ القرآن كله في صلاة واحدة .
تعلم حتى غدا وما من أحد علي ظهر الأرض من أهل زمانه إلا وهو محتاج إلي علمه.

حياته وجهادة :-

وبعد أن اكتمل له ما أراد من العلم , إتخذ الكوفة دار له ومقام وأصبح لأهلها معلما وإماما.
وكان يشد الرحال إلي البيت الحرام مرتين كل عام عمرة وحجا .

وكانت الكوفة يحكمها آن ذاك الحجاج بن يوسف الثقفي حيث كانت أشد فترات بطشة وتجبرة هذه الآونة بعد أن قتل عبد الله بن الزبير وقضي علي حركته فأشاع الرعب في العراق وإمتلات القلوب رهبة وخشية من بطشة .

وشاء الله أن يقع صدام بين الحجاج وبين عبد الرحمن بن الأشعث أحد كبار قواده.
واغتنم عبد الرحمن بن الأشعث هذه الفرصة ودعا العلماء ورجال الدين إلي جواره فإستجاب منهم الكثير وكان منهم سعيد بن جبير .

إلا أن الحجاج إستطاع أن ينتصر علية ويهزمه شر هزيمة وفر عبد الرحمن ناجيا بنفسه.
ثم إستجاب بعض العلماء المهزومين وبايعوا الحجاج وكان يطلب منهم قائلا أتشهد علي نفسك بأنك قد كفرت بنقض بيعتك لوالي أمير المؤمنين ؟
فإذا قال نعم قبل منه تجديد بيعته أطلق صراحه وإذا قال لا قتله .
إلا أن سعيد بن جبير رفض أن يبايع وآثر أن يرحل تاركا الكوفة ومن فيها .
وإنتهي به المقام في قرية صغيرة من قري مكة .

ثم قدم إلي مكة أحد أعوان الحجاج ( خالد بن عبد الله القسري ) فعرض عليه بعض أن يخرج لكن سعيد بن جبير قال والله لقد فررت حتي صرت أستحي من الله ولقد عزمت أن أبقي في مكاني وليفعل الله بي ما يشاء .
وبالفعل أطبق الجند عل بيت الشيخ وألقوا القيد في يديه علي مرأي من أصحابه .
وإلتفت إلي أصحابه قائلا ( ما أراني إلي مقتولا علي يدي ذلك الظالم )
ونحي إبنته الصغيرة التي تشبثت به في قيدة قائلا ” قولي لأمك موعدنا الجنة إن شاء الله ”

بلغ الجند بالإمام الحبر العابد الزاهد التقي النقي الورع مدينة ( واسيط ) وإدخلوه علي الحجاج فلما صار عنده نظر إليه في حقد وقال : ما إسمك ؟
فقال : سعيد بن جبير
قال : بل شقي بن كسير
فقال : بل كانت أمي أعلم بإسمي منك
فسأله عن رأيه في النبي ( صلي الله علية وسلم ) ثم الصديق أبو بكر والفاروق عمر وعثمان وعلي فأجاب سعيد بن جبير وأفاض .
ثم قال الحجاج ماذا تقول في ؟
قال : أنت أعلم بنفسك .
قال : أريد علمك أنت .
قال : إذن يسوءك ولا يسرك
قال : لابد أن أسمع منك
قال : إني لأعلم أنك مخالف لكتاب الله تعالي
تقدم علي أمور تريد بها الهيبة وهي تقحمك في الهلكة وتدفعك إلي النار دفعا.
قال : أما والله لأقتلنك
قال : تفسد علي دنياي وافسد عليك آخرتك
قال : إختر لنفسك أي قتلة شئت .
قال : بل إخترها أنت لنفسك يا حجاج
فوالله ما تقتلني قتله إلا قتلك الله الله مثلها في الآخرة
قال : أفتريد أن أعفو عنك
إن كان عفو فمن الله تعالي أما أنت فلا براءة لك ولا عذر
فإغتاظ الحجاج وقال السيف والنطع يا غلام
فتبسم سعيد فقال الحجاج وما تبسمك ؟
قال عجبت من جرأتك علي الله وحلم الله عليك فقال : اقتله يا غلام
فقال : إقتله يا غلام
فإستقبل القبله وقال:
( وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين )
فقال : إحرفوا وجهه عن القبلة
فقال : أينما تولوا فثم وجه الله
فقال : كبوه علي الأرض
فقال : منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخري
فقال : اذبحوا عدوا الله فما رأيت رجلا أدعي منه لآيات القرآن
فرفع سعيد كفيه وقال : اللهم لا تسلط الحجاج علي أحد بعدي .
لم يمض علي مصرع سعيد بن جبير غير خمسة عشر يوما حتي حم الحجاج وإستدت عليه وطأة المرض .
فكان يغفو ساعة ويفيق ساعة أخري
فإذا غفا غفوة صغيرة إستيقظ مذعورا وهو يصيح :
هذا سعيد بن جبير آخذ بخناقي
هذا سعيد بن جبير يقول : فيم قتلتني
ثم يبكي ويقول مالي وسعيد … ردوا عني سعيد بن جبير
فلما قضي نحبه ووري ترابه رآه بعضهم في الحلم فقال له :
ما فعل الله بك في من قتلتهم يا حجاج ؟
فقال : قتلني الله بكل امرئ قتلته واحدة …
وقتلني بسعيد بن جبير سبعين قتله ……

الهدف والعبرة :

هذا هو نموذج من نماذج الصبر علي البلاء والقوه في مواجهة الباطل والصدع بالحق مهما كانت النتائج ثم ها هو الحاكم الظالم لا يترك أهل الحق ثم يمضي وتمضي سيرته بعد ذلك لتدل عليه وعلي ظلمه لنفسه ولرعيته ولكن الله بالمرصاد لمن خال نفسه أقوي من الجبار .

” ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة … إنك أنت الوهاب”