علامات على الطريق

قال تعالى:

﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ * الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران: 166-175).

يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله:

“قد شاء الله بعد أن جَلَّا في قلوب المؤمنين حقيقة القدر والأجل، وتحدى ما يبثه المنافقون من شكوك وبلبلة وحسرات بقولهم عن القتلى: ﴿لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا﴾ فقال يتحداهم: ﴿قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾.

شاء الله بعد أن أراح القلوب المؤمنة على صدر هذه الحقيقة الثابتة. أن يزيد هذه القلوب طمأنينة وراحة. فكشف لها عن مصير الشهداء: الذين قتلوا في سبيل الله وليس هنالك شهداء إلا الذين يقتلون في سبيل الله خالصة قلوبهم لهذا المعنى، مجردة من كل ملابسة أخرى- فإذا هؤلاء الشهداء أحياء، لهم كل خصائص الأحياء. فهم «يُرْزَقُونَ» عند ربهم. وهم فرحون بما آتاهم الله من فضله. وهم يستبشرون بمصائر من وراءهم من المؤمنين. وهم يحفلون بالأحداث التي تمر بمن خلفهم من إخوانهم.. فهذه خصائص الأحياء: من متاع واستبشار واهتمام وتأثر وتأثير. فما الحسرة على فراقهم؟ وهم أحياء موصولون بالأحياء وبالأحداث، فوق ما نالهم من فضل الله، وفوق ما لقوا عنده من الرزق والمكانة؟ وما هذه الفواصل التي يقيمها الناس في تصوراتهم بين الشهيد الحي ومن خلفه من إخوانه؟ والتي يقيمونها بين عالم الحياة وعالم ما بعد الحياة؟ ولا فواصل ولا حواجز بالقياس إلى المؤمنين، الذين يتعاملون هنا وهناك مع الله؟. إن جلاء هذه الحقيقة الكبيرة ذو قيمة ضخمة في تصور الأمور. إنها تعدّل- بل تنشئ إنشاء- تصور المسلم للحركة الكونية التي تتنوع معها صور الحياة وأوضاعها، وهي موصولة لا تنقطع فليس الموت خاتمة المطاف بل ليس حاجزاً بين ما قبله وما بعده على الإطلاق! إنها نظرة جديدة لهذا الأمر، ذات آثار ضخمة في مشاعر المؤمنين، واستقبالهم للحياة والموت، وتصورهم لما هنا وما هناك”(في ظلال القرآن).

دروس مستفادة من الآيات:

• ما يصيب المؤمنين من قرح يقع بعلم الله وإرادته، ومن حكمة الله فيه الاختبار والتمحيص وتنقية الصف المؤمن من الأدعياء.

• الأجل والرزق بيد الله وحده، ولن تموت نفس قبل حلول أجلها، ولن تأخذ نفس غير رزقها الذى قسمه الله لها.

• الشهادة درجة رفيعة يختار الله تعالى لها من يصطفيهم من عباده المؤمنين. والشهداء أحياء عند الله حياة خاصة.

(1) نسيان أن الابتلاء سنة الله في الدعوات:

من الخطأ أن يظن البعض أن المحن ليست أمرًا طبيعيًا علي طريق الدعوة أو أنها نتيجة أخطاء وقعت فيها القيادة، ثم يثار مثل هذا الفهم الخاطئ في الصفوف فيحدث بلبلة تضر بالسير علي الطريق. وقد رأينا عكس هذا الفهم هو الصحيح، وأن تعرضنا للمحن دليل علي أننا نسلك سبيل أصحاب الدعوات، ولو أننا لم نتعرض للمحن للزم التساؤل عن حدوث خطأ أو انحراف. وهل من المقبول أن يقال إن الرسول صلي الله عليه وسلم والمؤمنين معه والرسل الذين تعرضوا للأذى كان ذلك نتيجة أخطاء صدرت منهم؟ ولكن حقيقة الأمر أن أعداء الله يحاربون دعاة الحق خشية أن يزهق هذا الحق باطلهم. والآيات والأحاديث خير دليل علي أن المحن والابتلاءات أمر طبيعي علي طريق الدعوة. قال تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ (العنكبوت:2-3) وقال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾ (البقرة: 214).

يقول الإمام البنا رحمه الله: “أحب أن أصارحكم أن دعوتكم لا زالت مجهولة عند كثير من الناس، ويوم يعرفونها ويدركون مراميها ستلقي منهم خصومه شديدة وعداوة قاسية، و ستجدون أمامكم كثيراً من المشقات وسيعترضكم كثير من العقبات، وفي هذا الوقت وحده تكونون قد بدأتم تسلكون سبيل أصحاب الدعوات. أما الآن فلا زلتم مجهولين تمهدون للدعوة وتستعدون لما تتطلبه من كفاح وجهاد. سيقف جهل الشعب بحقيقة الإسلام عقبة في طريقكم، وستجدون من أهل التدين ومن العلماء الرسميين من يستغرب فهمكم للإسلام وينكر عليكم جهادكم في سبيله، وسيحقد عليكم الرؤساء والزعماء وذوو الجاه والسلطان، وستقف في وجهكم كل الحكومات علي السواء، وستحاول كل حكومة أن تحد من نشاطكم، وأن تضع العراقيل في طريقكم. وسيتذرع الغاصبون بكل طريق لمناهضتكم وإطفاء نور دعوتكم، وسيستعينون في ذلك بالحكومات الضعيفة والأيدي الممتدة إليهم بالسؤال وإليكم بالإساءة والعدوان. وسيثير الجميع حول دعوتكم غبار الشبهات وظلم الاتهامات، وسيحاولون أن يلصقوا بها كل نقيصة، وأن يظهروها للناس في أبشع صورة، معتمدين علي قوتهم وسلطانهم، ومعتدين بأموالهم ونفوذهم: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ (التوبة:32). وستدخلون بذلك ولا شك في دور التجربة والامتحان، فتسجنون وتعتقلون، وتنقلون وتشردون، وتصادر مصالحكم وتعطل أعمالكم وتفتش بيوتكم، وقد يطول بكم مدي هذا الامتحان: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾ (العنكبوت:2). ولكن الله وعدكم من بعد ذلك كله نصرة المجاهدين ومثوبة العاملين المحسنين ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ………. فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ﴾ (الصف:10-14). فهل أنتم مصرون علي أن تكونوا أنصار الله؟”(حسن البنا، مجموعة الرسائل).

(2) اهتزاز الثقة في سلامة الطريق:

فمن الخطأ أن يستدل البعض بوقوع المحنة على حدوث انحراف في السير على الطريق الصحيح؛ فيقول لو أننا علي الحق لنصرنا الله ولما مكن أعداء الله منا يفعلون بنا ما يفعلون، وقد يثير ذلك المشككون ويتأثر بهم البعض وهذا فهم خاطئ. بل هو دعاية بثها بعض الإعلاميين الموالين للانقلاب بعض فض الاعتصامات فقالوا: لو كان المعتصمون في رابعة و النهضة على الحق لنصرهم الله وقد ظلوا طوال شهر رمضان يصومون النهار ويقومون الليل ويقرأون القرآن ويبتهلون إليه بالدعاء؛ فلو كانوا من أوليائه ما خذلهم وتركهم وحدهم في مواجهة الإبادة. وهذا يعنى أنهم يسيرون في الطريق الخطأ وهم يحسبون أنهم يسيرون إلى الله. إنهم مضللون أو مغيبون أو مخطوفون ذهنياً؛ فإذا كانت هذه دعاية الأعداء فكيف لمن انتمى للإخوان أن يستسيغها أو تنطلى عليه؛ وبهذا المنطق المعوج يمكن الاستدلال على أن الله تعالى خذل نبيه يحيى عليه السلام وأسلمه للقتل وتقديم رأسه مهراً لبغى، وأن قاتله أقرب إلى الله منه كما يهرف بذلك بعض علماء السوء في عصرنا، بل إن الراقصة سالومى التى قدم رأس نبى الله يحيى عليه السلام مهراً لها، وألقى تحت قدميها هى من أولياء الله الصالحين وفق هذا التفسير المنحرف. ووفق هذا الفهم المنحرف يكون فرعون الذى ادعى الألوهية وقال: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ (النازعات:24) أقرب إلى الله من السحرة الذين قالوا له وقد توعدهم بالتقتيل والتنكيل: ﴿قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ (طه: 72-73).

ووفق هذا المنطق المعوج أيضاً يكون الزبانية الذين ألقوا المؤمنين في الأخدود وأحرقوهم بالنار أقرب إلى الله من هؤلاء المؤمنين الذين شهد الله لهم بالإيمان في قوله: ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ (البروج: 8-9). وبنفس الاستدلال الفاسد والسؤال الخبيث: لو كانوا على الحق لماذا خذلهم الله وتركهم للنار تشوى أجسادهم، وتحرق قلوبهم التى آمنت به. وقد قال أحد زبانية التعذيب في سجون عبد الناصر للإخوان في محنة 1965م مثل هذا المعني قال: إن الحكومة والرئيس عبد الناصر علي الحق وأنتم علي الباطل لأنكم لو كنتم علي الحق لنصركم الله ولما حدث لكم ما أنتم فيه.

(3) اهتزاز الثقة في القيادة:

ومن الخطأ في فهم المحن والابتلاءات أن يظن البعض أنه كان من الممكن تفادى المحن بشيء من الحكمة والسياسة مع الأعداء، ولكن المسئولين ليس عندهم شيء من ذلك فلهذا حدث ما حدث. وهذا أيضًا فهم منحرف خاطئ، إذ لن يتوقف الأعداء عن حربهم لأصحاب الدعوة بقصد القضاء عليهم وعلي دعوتهم إلا إذا تخلوا عنها أو علي الأقل تنازلوا عن بعض جوانبها وخاصة التي تؤذي الأعداء أو تنال منهم ومن مكانتهم. ومن السنن الماضية أن شياطين الإنس والجن أعداء للأنبياء وأتباعهم إلى يوم القيامة. قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ (الأنعام: 112) وهذه العداوة تستلزم استمرار الصراع بين أهل الحق وأهل الباطل، ومن طبيعة هذا الصراع وقوع الأذى للمؤمنين في كثير من الأحيان. فهذا الصراع صراع قدرى قدره الله تعالى ولا يمكن تفاديه؛ فالباطل لن يكف عن الحق حتى يتنازل الحق عن خصائصه ومميزاته ويخوض مع الباطل فى كل ميادينه، ويسير معه في كل دروبه. ﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾ (القلم: 9) ﴿وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ﴾(الممتحنة: من الآية2) وأقل ما يريده أهل الباطل من أهل الحق أن يضيقوا عليهم ويوقعوهم في المشكلات والأزمات. قال تعالى: ﴿لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (آل عمران: من الآية118).

وقد يحدث أن يضعف أثناء المحنة بعض من كانوا في مواقع المسئولية قبلها، فيظن البعض أن ذلك دليل علي سوء اختيار القيادات، وأن الأمور تسير هكذا بدون دقة أو بمجاملات أو غير ذلك وهذا فهم خاطئ غير صحيح. فإن قدراتنا كبشر لا تمكننا من أن نعرف أن فلانًا إذا تعرض لمحنة سيثبت أو لا يثبت وبالتالي يختار مسئولاً أو لا يختار، ولكن يحدث الاجتهاد في الاختيار بما يظهر لنا من الأفراد، والقلوب والغيب عند الله. خاصة إذا كان هذا الاختيار يتم عن طريق الانتخاب وتشترك فيه القاعدة. فالعبرة بسلامة القصد وإخلاص النية وصحة الإجراءات والالتزام بالشورى بغض النظر عن النتائج. وقد اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجال بن عنفوة لكتابة الوحى واستبقاه من بين وفد بنى حنيفة، وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم رجع إلى بنى حنيفة وأعلن ردته عن الإسلام، وضلل المسلمين بشهادة الزور إذ شهد أن جبريل قد أشرك مسيلمة مع محمد صلى الله عليه وسلم في الرسالة، ثم انضم إلى مسيلمة في قتال المسلمين. ولا يعنى ذلك عدم تقييم اختياراتنا، والاستفادة من هذا التقييم في اختياراتنا المستقبلية؛ فهذا من صميم القيام بالواجب وأداء الأمانة.

والثقة في القيادة ركن من أركان البيعة: يقول الإمام البنا رحمه الله: “و أريد بالثقة :اطمئنان الجندي إلى القائد في كفاءته وإخلاصه اطمئنانا عميقا ينتج الحب والتقدير والاحترام والطاعة , ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ (النساء:65) . والقائد جزء من الدعوة، ولا دعوة بغير قيادة، وعلى قدر الثقة المتبادلة بين القائد والجنود تكون قوة نظام الجماعة، وإحكام خططها، ونجاحها في الوصول إلى غايتها , وتغلبها على ما يعترضها من عقبات ﴿فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ﴾ (محمد:20-21) . وللقيادة في دعوة الإخوان حق الوالد بالرابطة القلبية , و الأستاذ بالإفادة العلمية , والشيخ بالتربية الروحية , والقائد بحكم السياسة العامة للدعوة , ودعوتنا تجمع هذه المعاني جميعا , والثقة بالقيادة هي كل شيء في نجاح الدعوات”( مجموعة الرسائل).

(4) اليأس و القعود أو الانصراف:

ومن الخطأ في التعامل مع المحن والابتلاءات الاستسلام لليأس المفضي إلى القعود عن مواصلة الطريق أو الانصراف عنه تماماً، فهذا هو مراد الأعداء؛ ولو فعل الدعاة ذلك لفعلوا في أنفسهم ما لم يفعله أعداؤهم بهم. والتعامل الصحيح في هذه الحالة هو الثبات على المبادئ ومواصلة الطريق واستمداد العون والثبات من الله. يقول الإمام البنا رحمه الله: “و في النسبة إلى الحق تبارك و تعالى معنى آخر يدركه من التحق بهذه النسبة , ذلك هو الفيض الأعم من الإيمان , و الثقة بالنجاح الذي يغمر قلبك فلا تخشى الناس جميعا و لا ترهب العالم كله إن وقف أمامك من يحاول أن ينال من عقيدتك أو ينتقص من مبادئك”( حسن البنا، مجموعة الرسائل). والثبات على المبدأ مهما كانت الظروف هو الأصل الذى بايعنا عليه، وإلا لو تصورنا أن الغالبية لم تثبت أمام المحن؛ فقعدت أو انصرفت لتعرض المشروع الإسلامى لمخاطر كبيرة ولأدي ذلك إلى تثبيط همم الأجيال التالية، أما ثبات الجيل الحاضر واجتيازه المحن والشدائد فإنه يبعث العزيمة في نفوس الأجيال القادمة لتستكمل المسير وتحمل الأمانة، وهو هدف كبير من أهداف الدعوة: أن تتصل أجيالها، وتظل رايتها مرفوعة. ومما يعين علي الثبات المقارنة بين عذاب الله وفتنة الناس فنجد الفارق كبيرًا جدًا فتحمل فتنة الناس مهما كانت صعوبتها نجاة من عذاب الله. ولنا في موكب الإيمان عبر الزمن القدوة والمثل: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ (آل عمران: 146).

ومن الخطأ أن يظن البعض أن المحن ضربات قاصمة أو قاضية أو مقعدة أو أنها بمثابة هدم لكل ما يتم بناؤه؛ فإن ذلك يثبط الهمم، ويصرفها عن بذل أي جهد، ويسلمها إلى اليأس والقعود أو الانصراف مادامت النتيجة هكذا هدم لما يقوم من بناء. إذ لا يعقل أن تؤدي المحن إلي هذه النتائج الضارة بالدعوة فإن الله قدرها لتنفع لا لتضر، لتبني وتصقل لا لتهدم، ليتقوى بها الدعاة ويواصلوا المسيرة في عزم وقوة لا ليقعدوا ويتوقفوا. إنها تنقي النفوس والنوايا من الشوائب والأغراض الدنيوية. إنها تطهر الصف من نقاط الضعف وتميز بين المؤمنين والمنافقين وبين الصادقين والكاذبين، ليقوم البناء عاليًا بعد ذلك علي دعائم قوية ثابتة.

يقول الإمام البنا رحمه الله: “أيها الإخوان المسلمون: لا تيأسوا، فليس اليأس من أخلاق المسلمين، وحقائق اليوم أحلام الأمس، وأحلام اليوم حقائق الغد. ولا زال في الوقت متسع، ولا زالت عناصر السلامة قويةً عظيمةً في نفوس شعوبكم المؤمنة رغم طغيان مظاهر الفساد. والضعيف لا يظل ضعيفًا طول حياته، والقوي لا تدوم قوته أبد الآبدين: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ﴾ (القصص:5).أيها الإخوان المسلمون. إن الزمان سيتمخض عن كثير من الحوادث الجسام. وإن الفرص ستسنح للأعمال العظيمة. وإن العالم ينتظر دعوتكم، دعوة الهداية والفوز والسلام لتخلصه مما هو فيه من آلام. وإن الدور عليكم في قيادة الأمم وسيادة الشعوب. وتلك الأيام نداولها بين الناس، وترجون من الله ما لا يرجون؛ فاستعدوا واعملوا لهذا اليوم؛ فقد تعجزون عن العمل غدًا. أيها الإخوان المسلمون. لقد خاطبتُ المتحمِّسين منكم أن يتريثوا وينتظروا دورة الزمان، وإني لأخاطب المتقاعسين أن ينهضوا ويعملوا فليس مع الجهاد راحة: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (العنكبوت: 69) وإلي الأمام دائمًا”(حسن البنا، مجموعة الرسائل).

(5) الغفلة عن حكمة الله من المحن:

فهذه الحكمة واضحة في قوله تعالى: ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ (الأنفال:37). فمن الخطأ الغفلة عن هذه الحكمة أو تعطيلها وعدم إعمالها، وذلك بعدم الاستفادة من عملية الفرز والتمحيص التى تحدثها المحنة، ويكون ذلك بأن نقدم للقيادة أو مواقع المسئولية بعض من ضعفوا ولم يثبتوا أثناء المحن، وقد يعاودهم الضعف عند التعرض لشدة أو محنة أخري فيكون ضررهم وهم في مواقع المسئولية كبيراً. وإذا كان لنا عذر بعدم معرفة الغيب قبل التجربة؛ فما عذرنا بعد أن أظهرت المحنة معادن الرجال، وكشفت المخبوء من أخلاقهم، وأظهرت الأصيل من الزائف؟. نعم الثبات في المحنة وحده ليس مؤهلاً للقيادة، ولا يكفى وحده أساساً للاختيار، ولكن عدم الثبات في المحنة يكفى لعدم اختيار الفرد في موقع من مواقع القيادة والمسئولية، حفظاً للأمانة، واحتياطاً للدعوة. مع التأكيد على ضرورة التثبت والتيقن من المعلومات التى تنقل عن الأفراد، وعدم الأخذ بالظن، أو البناء على المعلومات التى قد يشيعها أعداء الدعوة عن بعض رموزها. وعدم التورط في التأويلات والتفسيرات التى لا يساندها دليل. كتفسير معافاة أحد الرموز المعروفة من الأذى مع نزول الأذى بمن هم دونه من الشباب بأنه باع قضيته وخان دعوته؛ فهذا هو أحد أساليب أعداء الدعوة لضرب الثقة بين الإخوان.

كذلك من الخطأ ألا نعذر من لم يتحمل الأذى لشدته وبدا منه ضعف دون أن يتحول أو ينقلب علي عقبيه. فلا يصح أن يوصد الباب في وجهه أو يحال بينه وبين العمل للدعوة؛ فقد ضعف حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه وقد وجدنا المولي عز وجل يخاطبه بقوله سبحانه ﴿يأيها الذين آمنوا﴾ فكان هذا تعليمًا وتوجيهًا للصف المسلم. ألا يحرم من ضعف في بعض المواقف مع انتمائه للدعوة من شرف العمل مع الجماعة، ولكن يأخذ المكان المناسب له، ولا يحمل من التكاليف أكثر من طاقته، ولا توكل إليه ثغرات لها أهميتها.

(6) استثقال تكاليف مواجهة الباطل:

قد يظن البعض أن استشهاد الشهداء خسارة لحقت بالجماعة بفقدها هذه العناصر الطيبة التى بذلت الجماعة جهوداً كبيرة في إعدادها، لكن الحقيقة أن الجماعة ربحت بشهادتهم ربحاً كبيراً. فالشهادة بالنسبة للدعوات الربانية تعتبر زادًا ووقودًا يشعل جذوة الإيمان في قلوب المئات والألوف من الشباب الجدد، ويعوض الله بهم الصف أضعافًا مضاعفة. كما أن السجن وإن كان تضييقًا وتعطيلاً للطاقات لكنه مدرسة نافعة لأصحاب الدعوات وفرصة لإعداد العناصر الممحصة المتجردة الصابرة، التي تضرب المثل والقدوة في الثبات علي الحق رغم الشدائد وطول الزمن ﴿وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خيرٌ لكم، وعسي أن تحبوا شيئا وهو شرٌ لكم، والله يعلم وأنتم لا تعلمون﴾(البقرة من الآية 216). وقد بايعنا على التضحية التى لا تقوم دعوة ولا تستمر ولا تنتصر بدونها. يقول الإمام البنا رحمه الله: “وأريد بالتضحية بذل النفس والمال والوقت والحياة وكل شيء في سبيل الغاية, وليس في الدنيا جهاد لا تضحية معه , ولا تضيع في سبيل فكرتنا تضحية , وإنما هو الأجر الجزيل و الثواب الجميل ومن قعد عن التضحية معنا فهو آثم : ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ﴾(التوبة من الآية111) ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ﴾ (التوبة من الآية24) ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ﴾ (التوبة من الآية120) ﴿فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً)(الفتح:من الآية16) , وبذلك تعرف معنى هتافك الدائم : والموت في سبيل الله أسمى أمانينا”(حسن البنا، مجموعة الرسائل).
ومن الخطأ في التعامل مع المحن أن يصبح همنا الأول وشغلنا الشاغل هو كيفية إيقاف الأذى عن الأفراد بأي صورة ولو علي حساب الدعوة والمشروع الإسلامي، كأن نبرم اتفاقات فيها تنازل عن أصول الدعوة وثوابتها أو ما شابه ذلك مما فيه مخالفة للشرع والأصول التي قام عليها العمل الإسلامي. مع أهمية الأفراد وضرورة الحفاظ على سلامتهم ودفع الأذى عنهم بكل السبل المشروعة التى تحافظ على كرامة الدعوة وثوابتها وتبقى رايتها مرفوعة. ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة فقد رأي أصحابه يعذبون، وعرض عليه الملك والمال ورأينا رده في مثل هذه المواقف صلي الله عليه وسلم؛ فالدعوة باقية والأشخاص زائلون.

تطبيقات عملية: يفتح المربي باب الحوار ليناقش الأفراد كل الشبهات والمفاهييم التي يعالجها الموضوع.