عناية النبي – صلى الله عليه وسلم – بمعرفة احوال المدعوين

. د. يوسف العليوي

من الأصول المقررة في الدعوة إلى الله – سبحانه وتعالى -: أن يكون لدى الداعية خبرة صحيحة بالنفوس، ومعرفة دقيقة بأحوال المخاطبين، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، ولقد كان لهذا الأصل حضور ظاهر في منهاج النبي – صلى الله عليه وسلم – في دعوته، وفي تربيته لأصحابه، رضي الله عنهم. وكان – صلى الله عليه وسلم – يستقي معرفته بمدعويه ومخاطَبيه من مصادر عدة غير مصدر الوحي، وسأذكر أهم هذه المصادر مستشهداً لها ببعض الأمثلة، تاركاً التعليق عليها غالباً ثقة بوضوحها لدى القارئ، ومنها:

الملاحظة

وهي من المصادر المهمة لدى الدعاة القادة الذين يتسمون بالقدرة على معرفة الآخرين وتقويمهم والتفرس فيهم، وإدراك محيطهم والأشياء من حولهم بعين البصر والبصيرة، ومن ذلك ما يروى عن عبد الله بن عمرو – رضي الله عنه – قال: كنا عند النبي – صلى الله عليه وسلم -، فجاء شاب فقال: يا رسول الله! أُقَبِّل وأنا صائم؟ قال: «لا». فجاء شيخ فقال: أُقَبِّل وأنا صائم؟ قال: «نعم». قال: فنظـر بعضنا إلى بعـض، فقـال رسـول الله – صلى الله عليه وسلم -: «قَدْ عَلِمْـتُ لِمَ نَظَرَ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ؟ إِنَّ الشّـَيْخَ يَمْلِكُ نَفْسَهُ»، وفي الحديث ملاحظتان:

الأولى: ظاهرة مدرَكة عند الجميع تتعلق بالفرق بين الشيخ والشاب.

والثانية: خفية حينما أدرك النبي – صلى الله عليه وسلم – سرَّ تعجبهم ونظرِ بعضهم إلى بعض، فخاطب النبي – صلى الله عليه وسلم – الرجلين والصحابة بما يناسب أحوالهم.

ومن أحوال الناس التي جاءت عن معرفة وملاحظة دقيقة من النبي – صلى الله عليه وسلم – ما رواه أبو هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «الْفَخْرُ وَالْخُيَلاءُ فِي أَهْلِ الْخَيْلِ وَالإِبِلِ وَالْفَدَّادِينَ في أَهْلِ الْوَبَرِ، وَالسَّكِينَةُ فِي أَهْلِ الْغَنَمِ».

ومن ذلك ما رواه مالك بن الحويرث – رضي الله عنه – أنهم أتوا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهم شَبَبَة متقاربون، فأقـاموا عنده عشــرين ليلة، فلحــظ النبي – صلى الله عليه وسلم – أنهم قد اشتاقوا أهليهــم، فسألهم عمَّن تركوا من أهلهم؟ فأخبروه، فقال – صلى الله عليه وسلم -: «ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ، فَأَقِيمُوا فِيهِمْ، وَعَلِّمُوهُمْ، وَمُرُوهُمْ، فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ، ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ». فلمــا رأى النبـي – صلى الله عليه وسلم – اشــتياق هـؤلاء الشـباب إلى أهليهم لم يدعهـم يلازمونه في المدينـة، مع أن في ملازمتهـم له من الصحبة والخيـر والتزود مـن العلـم ما ينفعهم. والشـاب في بداية شـبابه من طبعـه سـرعة التغير والتقلب، لضعـف الخبـرة والتجـربة والنضج العقلـي؛ فلعل إلزامهـم بالبقاء مع اشـتياقهم إلى أهليهم يكون سـبباً في فتورهم ونكوصهم، والله أعلم.

ومن ذلك إدراكه – صلى الله عليه وسلم – لرحمة أبي بكر، وشدة عمر وغيرته، وحياء عثمان، وفقه معاذ، وفرضية زيد، وعسكرية خالد، ورِقة الأنصار وأهل اليمن، وغلظ الأعراب، وتعاون الأشعريين، وضعف أبي ذر أن يتولى الإمارة وغير ذلك.

الاستفهام عن الحال

قد يستفهم النبي – صلى الله عليه وسلم – من صاحب الحال عن حاله، أو ربما استفهم من غيره عنه وطلب رأيه فيه؛ ليتبين المعلومة التي يبني عليها النبي – صلى الله عليه وسلم – حال المخاطَب فيتعامل معه بما يناسب هذه الحال. ومن ذلك ما ورد في حديث وفد عبد القيس لما أتوا النبي – صلى الله عليه وسلم – قال لهم: «مَن الْقَوْمُ؟» أو «مَن الْوَفْدُ؟» قالوا: ربيعة. قال: «مَرْحَباً بِالْقَوْمِ (أو بِالْوَفْد) غَيْرَ خَزَايَا وَلا نَدَامَى». ولما لقي نفراً من الخزرج عند العقبة قال لهم: «مِمَنْ أَنْتُم؟» قالوا : نفر من الخزرج. قال: «أَمِنْ مَوَالِي يَهُوْدَ؟» قالوا: نعم. قال: «أَفَلا تَجْلِسُونَ أُكَلِّمكُم؟» قالوا: بلى. فجلسوا معه فدعاهم إلى الله – عز وجل – وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن، ثم انصرفوا راجعين إلى بلادهم قد آمنوا وصدقوا.

ومن ذلك سؤاله حاطب بن أبي بلتعة – رضي الله عنه – عن سبب إرساله كتاباً إلى مشركي مكة يخبرهم بغزو رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لهم، ومن ذلك سؤاله – صلى الله عليه وسلم – ماعزاً – رضي الله عنه – وقومه عن حاله لما جاء معترفاً بالزنا.

ومن ذلك أنه – صلى الله عليه وسلم – إذا فقد أحد أصحابه سأل عن حاله، ويسأل أهل المعرفة به، وفي ذلك يروي معاوية بن قرة المزني عن أبيه – رضي الله عنه – قال: كان نبي الله – صلى الله عليه وسلم – إذا جلس يجلس إليه نفر من أصحابه، وفيهم رجل له ابن صغير يأتيه من خلف ظهره، فيقعده بين يديه، فهلك، فامتنع الرجل أن يحضر الحلقة لذكر ابنه، فحزن عليه، ففقده النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: «مَالِي لا أَرَى فُلاناً؟» قالوا: يا رسول الله، بُنَيُّه الذي رأيته هلك، فلقيه النبي – صلى الله عليه وسلم – فسأله عن بُنيِّه، فأخبره أنه هلك، فعزاه عليه، ثم قال: «يَا فُلانُ، أَيُّمَا كَانَ أَحَبُّ إِلَيْكَ؛ أَنْ تَمَتَّعَ بِهِ عُمرَكَ، أَوْ لا تَأْتِي غَداً إِلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ إِلاَّ وَجَدْتَهُ قَدْ سَبَقَكَ إِلَيْهِ، يَفْتَحُهُ لَكَ؟» قال: يا نبي الله، بل يسبقني إلى باب الجنة فيفتحها لي لهو أحب إليَّ. قال: «فَذَاكَ لَكَ».

وكسؤاله – صلى الله عليه وسلم – عن ثابت بن قيس – رضي الله عنه – لما احتبس عن النبي – صلى الله عليه وسلم – بعد أن نزلت آية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: ٢]، وقال: أنا من أهل النار، فسأل النبي – صلى الله عليه وسلم – سعد بن معاذ فقال: «يَا أَبَا عَمْرٍو، مَا شَأْنُ ثَابِتٍ؟ أشْتَكَى؟» قال سعد: إنه لجاري، وما علمت له بشكوى، قال: فأتاه سعد، فذكر له قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فقال ثابت: أُنزلَت هذه الآية، ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتاً على رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فأنا من أهل النار. فذكر ذلك سعد للنبي – صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «بَلْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ»، والنبي – صلى الله عليه وسلم – في هذا الحديث يسأل سعداً لكونه يعرف أن ثابتاً جاره.

معلومات الآخرين

قد يأتي من يُسدِي النصيحة ويقدم المعلومة، فيتقبلها النبي – صلى الله عليه وسلم – ويفيد منها في تعاملاته وخطاباته، كما في مسلم: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أراد أن يكتب إلى كسرى وقيصر والنجاشي فقيل: إنهم لا يقبلون كتاباً إلا بخاتم، فصاغ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خاتماً حلقته فضة، ونقش فيه: محمد رسول الله.

التجربة
قد يجرب النبي – صلى الله عليه وسلم – المرء فيكتشف مدى قدرته على ما يريده – صلى الله عليه وسلم – منه، ومن ذلك اختباره لقدرات بعض أصحابه في الشعر حينما أراد أن يوجه سهام الهجاء بالشعر إلى قريش، وفي ذلك تروي عائشة – رضي الله عنها – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «اهْجُوا قُرَيْشاً؛ فَإِنَّهُ أَشَدُّ عَلَيْها مِنْ رَشْقٍ بِالنَّبْلِ»، فأرسل إلى ابن رواحة فقال: «اهْجُهُمْ»، فهجاهم فلم يُرْضِ، فأرسل إلى كعب بن مالك، ثم أرسل إلى حسان بن ثابت، فلما دخل عليه قال حسان: قد آن لكم أن ترسلوا إلـى هـذا الأسـد الضـارب بذنبـه. قالـت عائشـة: فسـمعت رسول اللـه – صلى الله عليه وسلم – يقـول لحسـان: «إِنَّ رُوْحَ الْقُـدُسِ لا يَزَالُ يُؤَيِّدُكَ مَا نَافَحَتَ عَن اللهِ ورَسُولِه»، وقالت: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «هَجَاهُمْ حَسَّانُ، فَشَفَى وَاشْتَفَى».

ولقد كان لهذه العناية آثار بالغة في نجاح الدعوة إلى الله، والتمكين لمنهجه، والجهاد في سبيله، والتأثير في نفوس الخلق، ويمكن أن نتلمس شيئاً من هذه الآثار فيما يلي:

1 – تحقق الحكمة في الدعوة إلى الله، سبحانه وتعالى:

وكيف لا تتحقق في النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو الذي ملأ الله – سبحانه وتعالى – قلبه حكمة وإيماناً، كما ورد في حديث المعراج الذي رواه أبو ذر – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «فُرِجَ عَنْ سَقْفِ بَيْتِي وَأَنَا بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ – صلى الله عليه وسلم – فَفَرَجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَاناً، فَأَفْرَغَهُ فِي صَدْرِي، ثُمَّ أَطْبَقَهُ»[11]. وهذا أثر عام يدخل فيه ما بعده.

2 – تنـزيل الناس منازلهم:

وهذا من الخُلُق العظيم الذي اتصف به النبي – صلى الله عليه وسلم -، وأكده الله – سبحانه وتعالى – في قوله: {وَإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: ٤]، وقد روي عن أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – قالت: «أمرنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن نُنْزل الناس منازلهم»، وفي رواية أنها مر بها سائل فأعطته كسرة، ومر بها رجل عليه ثياب وهيئة فأقعدته، فأكل، فقيل لها في ذلك، فقالت: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ». ومن ذلك قوله – صلى الله عليه وسلم – في حديث أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه -: «إِنَّ مِنْ إِجْلالِ اللهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ المُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ». وفي رسائله – صلى الله عليه وسلم – إلى الملوك والرؤساء نلحظ هذا الأثر جلياً في وصفه للمرسَل إليهم؛ كما في رسالته إلى هرقل: «مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ»، وكذلك مع المقوقس والنجاشي.

3 – اختيار الأوقات المناسبة للموعظة: وفي هذا مراعاة لحال النفس البشرية، التي تَرِد عليها السآمة والملل، فكان – صلى الله عليه وسلم – يتخوَّل أصحابه بالموعظة.

4 – توصية كل شخص بما يناسب حاله: إذ ليس من الحكمة أن توصي بحُسْن الخُلُق من يتحلى به، أو بطلب العلم من هو حريص عليه، ولكن انظر فيما يفتقده فأوصه به، ليتم به حاله، وتتكامل شخصيته، وهذا ما يظهر من وصايا النبي – صلى الله عليه وسلم – لأصحابه الذين يستوصونه، فيوصيهم بما يناسب حالهم، وما هم إليه أحوج، ومن ذلك ما رواه أبو هريرة – رضي الله عنه – أن رجلاً قال للنبي – صلى الله عليه وسلم -: أوصني. قال: «لا تَغْضَبْ» فردد مراراً. قال: «لا تَغْضَبْ»، وذكر ابن حجر في شرح الحديث عن بعض أهل العلم قوله: (لعل السائل كان غضوباً، وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – يأمر كل أحد بما هو أَوْلَى به، فلهذا اقتصر في وصيته له على ترك الغضب).

ومن ذلك توصية عبد الله بن عمرو – رضي الله عنه – بما يناسب حاله من الصيام والقيام وقراءة القرآن، كما في حديث عبد الله بن عمرو – رضي الله عنه – قال: دخل عليَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: «أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَقُومُ اللَّيْلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ؟». قلت: بلى. قال: «فَلا تَفْعَلْ، قُمْ وَنَمْ، وَصُمْ وَأَفْطِرْ؛ فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقّاً، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقّاً، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقّاً، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقّاً، وَإِنَّكَ عَسَى أَنْ يَطُولَ بِكَ عُمُرٌ. وَإِنَّ مِنْ حَسْبِكَ أَنْ تَصُومَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنَّ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا، فَذَلِكَ الدَّهْرُ كُلُّهُ». قال: فشدَّدْت، فشُدِّد عليَّ، فقلت: فإني أطيق غير ذلك. قال: «فَصُمْ مِنْ كُلِّ جُمُعَةٍ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ». قال: فشدَّدْت، فشُدَّد عليَّ. قلت: أطيق غير ذلك. قال: «فَصُمْ صَوْمَ نَبِيِّ اللهِ دَاوُدَ» قلت: وما صوم نبي الله داود؟ قال: «نِصْفُ الدَّهْرِ». وفي رواية قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ هَجَمَتْ عَيْنُكَ، وَنَفِهَتْ نَفْسُكَ» وفي رواية قال: «فَإِنَّكَ لا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ» قال عبد الله بن عمرو – رضي الله عنه -: لأن أكون قبلت الثلاثة الأيام التي قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أحب إليَّ من أهلي ومالي. وفي رواية قال: فليتني قبلت رخصة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وذاك أني كبرت وضعفت.

5 – إجابة كل سائل بما يناسب حاله: كما في حديث الأعرابي الذي سأل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن الهجرة، فقال: «وَيْحَكَ إِنَّ شَأْنَهَا شَدِيدٌ؛ فَهَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ تُؤَدِي صَدَقَتَهَا؟» قال: نعم. قال: «فَاعْمَلْ مِنْ وَرَاءِ الْبِحَارِ، فَإِنَّ اللهَ لَنْ يَتِرَكَ مِنْ عَمَلِكَ شَيْئاً»، قال النووي: (قال العلماء: والمراد بالهجرة التي سأل عنها هذا الأعرابي ملازمة المدينة مع النبي – صلى الله عليه وسلم -، وترك أهله ووطنه، فخاف عليه النبي – صلى الله عليه وسلم – أن لا يقوى لها، ولا يقوم بحقوقها، وأن ينكص على عقبيه، فقال له: إن شأن الهجرة التي سألت عنها لشديد، ولكن اعمل بالخير في وطنك، وحيثما كنت؛ فهو ينفعك، ولا ينقصك الله منه شيئاً، والله أعلم).

استثمار الطاقات، وتوسيد الأمر إلى أهله؛ إذ لا يقف الأمر لدى قادة الدعوة عند حدود المعرفة والاكتشاف للمواهب والطاقات؛ بل يتعدى ذلك إلى توجيهها نحو العمل الذي تحسنه، واستثمارها فيما يتلاءم مع طبيعتها وقدراتها، ويتحقق بذلك وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وهذا ما حصل من النبي – صلى الله عليه وسلم – مع أصحابه – رضي الله عنهم – ومن ذلك تكليف من لديهم القدرة على قيادة الجيوش والسرايا بذلك كخالد بن الوليـد، وتكليـف من لديهم معرفة بالكتـابة بكتـابة الـوحي كـزيد بن ثابت… وغيـر ذلـك، ولما رأى عبد الله بن زيد – رضي الله عنه – الأذان في المنام قال له النبي – صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّهَا لَـرُؤْيَا حَقٌّ، إِنْ شَـاءَ اللَّهُ؛ فَقُمْ مَعَ بِلالٍ فَأَلْقِ عَلَيْهِ مَا رَأَيْتَ، فَلْيُؤَذِّنْ بِهِ؛ فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتاً مِنْكَ».

وقد عد النبي – صلى الله عليه وسلم – توسيد الأمر إلى غير أهله من تضييع الأمانة، فقال – صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا ضُيِّعت الأَمانةُ فانْتظِر السَّاعة» فقيل له: وكيف إضاعتها؟ قال: «إِذَا وُسِد الأَمرُ إِلى غَيرِ أَهلِه فانتظِر السَّاعة»

6 – درء المفاسد، والترجيح بين المصالح: قد يترك النبي – صلى الله عليه وسلم – ما هو أَوْلَى، مراعاة لأحوال المخاطبين، جلباً للمصالح المعتبرة ودرءاً للمفاسد المتوقعة. من ذلك تركه تأخير صلاة العشاء، كما في حديث عائشة – رضي الله عنها – قالت: أعْتَم النبي – صلى الله عليه وسلم – ذات ليلة حتى ذهب عامة الليل، وحتى نام أهل المسجد، ثم خرج فصلى، فقال: «إِنَّهُ لَوَقْتُهَا لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي»

ومن ذلك: تركه بناء الكعبة على قواعد إبراهيم – عليه السلام – مراعاة لحداثة إسلام أهل مكة: كما روت عائشة – رضي الله عنها – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال لها: «يَا عَائِشَةُ لَوْلا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لأَمَرْتُ بِالْبَيْتِ، فَهُدِمَ، فَأَدْخَلْتُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ، وَأَلْزَقْتُهُ بِالأرْضِ، وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ؛ بَاباً شَرْقِيّاً، وَبَاباً غَرْبِيّاً، فَبَلَغْتُ بِهِ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ». وترجم البخاري في كتاب العلم: (باب: من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه).

ومنه أيضاً: التفريق بين الأشخاص في إعطاء المال: ويكون التفريق بناءً على قوة الإيمان أو ضعفه، ومن ذلك ما رواه سعد بن أبي وقاص – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أعطى رهطاً وسعد جالس، قال: فترك رسول الله – صلى الله عليه وسلم – رجلاً هو أعجبهم إليَّ، فقلت: يا رسول الله! ما لك عن فلان؟ فو الله إني لأراه مؤمناً، فقال: «أَوْ مُسْلِماً»، فسـكتُّ قليلاً، ثم غلبني ما أعلم منه، فعـدت لمقالتي فقلـت: ما لك عن فلان؟ فو الله إني لأراه مؤمناً، فقال: «أَوْ مُسْلِماً» ، ثم غلبني ما أعلم منه، فعدت لمقالتي، وعاد رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: «يَا سَعْدُ، إِنِّي لأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ خَشْيَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللهُ فِي النَّارِ»

ومنه كذلك: التفريق بين الأشخاص في قبول الصدقة، ومن ذلك: أنه أمر بعض أصحابه أن يمسكوا بعض صدقاتهم، كما ورد في حديث كعب بن مالك – رضي الله عنه – في قصة الثلاثة الذين خُلِّفوا قال: يا رسول الله! إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله، فقال الرسول – صلى الله عليه وسلم -: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِك، فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ». أما أبو بكر – رضي الله عنه – فقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يقبل منه أن يتصدق بكل ماله.

7 – الثناء على الصفات الحسنة، والتنبيه إليها: حثاً للناس على الاقتداء بأصحابها، و من ذلك ما رواه أبو موسى – رضي الله عنه – قال: قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ، أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ، جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ». ومن ذلك قول الرسول – صلى الله عليه وسلم – لأشج عبد القيس: «إِنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ».

8 – التنبيه على مواطن الخلل والقصور لدى أصحابه – رضي الله عنهم – ليجتنبوها: ومن ذلك حديث: «نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللهِ، لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِن اللَّيْلِ» فكان بعد لا ينام من الليل إلا قليلاً.

9 – اختيار قائد الجيش الذي له صلة بالمحاربين: ومن ذلك أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لما علم أن جمعاً من قضاعة تجمعوا يريدون المدينة عقد لعمرو بن العاص – رضي الله عنه – لواءً، وبعثه في ثلاثمائة من المهاجرين والأنصار، وأمره أن يستنفر من يمر به من العرب من بَلِيٍّ وغيرهم. وقد كانت أم العاص بن وائل من بَلِيّ.

10 – تبصير الولاة والدعاة بحال من يقدمون عليهم: كما روى ابن عباس – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: «إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْماً أَهْلَ كِتَابٍ، فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ».

11 – القدرة على التعامل مع الأعداء بما يناسب أحوالهم: وهذا واضح في سيرة النبي – صلى الله عليه وسلم – وجهـاده، ومن الشواهد على ذلك ما ورد في قصة الحديبية أن عروة بن مسعود قال لقومه بعد أن أتى النبي – صلى الله عليه وسلم -: إنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، فقال رجل من بني كنانة: دعوني آتيه، فقالوا: ائته، فلما أشرف على النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «هَذَا فُلانٌ، وَهُوَ مِنْ قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ الْبُدْنَ، فَابْعَثُوهَا لَهُ» فبعثت له، واستقبله الناس يُلبُّون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله! ما ينبغي لهؤلاء أن يُصَدوا عن البيت، فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قُلِّدت وأُشعِرت، فما أرى أن يُصَدوا عن البيت. فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص، فقال: دعوني آتيه، فقالوا: ائته، فلما أشرف عليهم قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «هَذَا مِكْرَزٌ، وَهُوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ» فجعل يكلم النبي – صلى الله عليه وسلم -، فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «لَقَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ».

وبعد، فإن رعاية مقتضى أحوال المدعوين والمخاطبين، بل مقتضى الحال عامة أصل دعوي عظيم، من منهاج القرآن العظيم، ومنهاج الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم -. وفي تحقق هذا الأصل سلوك لسبيل الحكمة، التي أمر الله – سبحانه وتعالى – رسوله – صلى الله عليه وسلم – أن يسلكها في دعوته للخلق، فقد قال الله – تعالى -: {ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْـحِكْمَةِ وَالْـمَوْعِظَةِ الْـحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْـمُهْتَدِينَ} [النحل: 125]، والحكمة هي: (الإصابة في الأقوال والأفعال، ووضع كل شيء في موضعه)، وقد قال الله – سبحانه وتعالى -: {يُؤْتِي الْـحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْـحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}.