قصة “لــطـــــــــــف”

بقلم/ سكنية إبراهيم

 

يَحل الليل بسواده الحالك فيستدعي في هدوء ومَهَل تلك الأدمع الرقراقة التي انحبست عن صاحبها في زحام النهار وصخبه، تُلح الذكري علي قلبه وعقله معا فلا يملك منها فرارا ولا يسعه سوي أن يستسلم لتأوهات وعلل شداد تغالبه وتأسر لبه وفؤاده..

 

كيف لهذا الصديق أن يتذكر فلا يأسي علي موقع نديمه الخل الوفي؛ ففي نفس اللحظة التي يتوسد هو فيها مهده الدافيء الوثير، ويلتحف بالأغطية ويتكيء علي الفرش الناعمة، ويهم للنوم بعد أن شبع وارتوي، في حين يعلم أن رفيق دربه الأسير يقبع وحيدا بين جدران صخرية وأرض رطبة ملؤها المياه الآسنة، يفقد من وزنه كل يوم الكثير والكثير بعد منع الطعام عنه، وتتعرض صحته للمخاطر بعد حرمانه من دوائه وعلاجه الضروري….يمر ذلك الهاجس في باله فيري رفيقه بقلبه وقد شحب وجهه ونحل جسده، ولا يكاد يملك قواه ليقف بضع دقائق متصلة من شدة الإعياء وآلام التعذيب والجَور..

 

تمر خواطر الأصدقاء عبر أثير ذو اتصال خاص، فيشعر كلاهما بالآخر دونما بنت شفة أو نقطة حبر في رسالة علي ورق، ولكنه التخاطر بالأفئدة الذي يتعدي كل حاجز، ويصل بلا ساع بريد ورغم أيدي السجان والتفتيش…

 

شعر الرفيق في أسره بما أصاب لب صديقه من هم وكدر علي حاله، فابتسم بمليء فيه، ثم أخذ يستعيد  كل ما حوته نفسه من معانٍ أخري لربما قد غابت عن صديقه؛  حجبها قلق الوفاء وتعهد الإخاء..

 

أغمض عينيه وتذكر ما كان له من “سكينة” مبعثها اللطف الرباني المرافق بل و القاطن في كل بلاء، فقد لحظها أول الأمر حينما تعرض جسده الذي طالما عرف عنه الضعف والوهن، في حين وجده يحتمل نيران الصعق الكهربائي إبان أول أيامه في الأسر، حيث الصرخات تتعالي منه وتتعالي ويظن معها أن الألم لن يبرحه وأن  الجراح لن تلتئم..لكن ربتة حانية خفية سارعت لتزيل عنه الألم فجأة كما جاء فجأة، وقوة مستترة اتقدت فيه وكأنها انصهرت في بوتقة نفسه مباغته..فصبر واحتمل..حتي انقضت الأيام الصعاب..وباتت ذكراها مريرة علي من ظلم فيها وتجبر، حلوة مورقة علي من تجلّد فيها واحتسب..

 

لم تفارقه “السكينة” أيضا عندما حُرم في محبسه من زيارة أهله ومحبيه وذويه، كانت هناك روح تسري في روعه فتربط علي قلبه وتؤنسه، فيري نفسه سابحة في أنس علوي ناعمة بضياء ومباهج نورانية رغم عتمة وظلمة ذلك القبو الذي يضمه وينغلق عليه، نجح أن يستمتع مؤتنسا وأن يعدم الوحشة رغم كل تلك الأقفال والجدران والقضبان..

 

عوضته “السكينة” أيضا عن بسمة حُرمها من ثغر ابنه الوليد الذي لم ينعم بصحبته كثيرا، لكنه في محبسه عرف بقلبه كيف يبتسم ويبتسم بل ويدع بسمته تتداعي علي وجنتيه حتي تنساب منه إلي طفله فيرثها منه في حياته وبعدها، فيفقه كيف يصنع درعا بالابتسام يقابل به أي هم أو كدر في ثبات وترفع وعزم.

 

شغل نفسه بالبحث عن موطن اليسرين اللذان هما وعد الله تعالي يلازمان المعية لكل عسر، فلم ينصرف لبه وحاله بالتأوه علي العسر، بل اجتهد في البحث عن حارسيه اللذان اعتادا أن يُحدا من أثره وأن يسارعان به حتي يأفل ويرتحل..

 

هي غيمة ظل دائمة تحجب عنه لهيب المحنة فلا يحرقه، وشمس ساطعة في ليل أحزانه تبدده بنهار بهي صحو لطيف ضحاه، هي رحلة عند أنوار القمر الخلابة، وأضواء النجوم الساهدة فتكشف للقلب عن شيء من سر السعادة فيرتجيها بما لا يمكن لسجانه أن يفعله..هي دفقة من شذا عطر منعش يهبط علي الصدر فينهضه بشرا وغيثا، هي كوة في حائط صلد تنبعث منها أشعة من ندي عذب رقراق مد بلا جزر…

 

لم يغب عنه كذلك حلمه الذي كان يشدو به، بل أخذ يصحبه فيؤنس نومته بالأمل والبهجة، ويوقظه علي عزمة الأناة والصبر الجميل..

 

لم تخلو لفتة أو طرفة عين له منذ بدء محنته إلا وقد كانت هناك “سكينة” تسبقه إليها فتضفي علي الإبتلاء روحا من روحها حتي تقلبه وتحيله إلي ضده، أو تنجح في مده بزاد من القوة والبأس والمنعة مما يعينه علي الاحتمال والجلد، إن الإرادة والقدرة التي أحالت نار نبي الله تعالي “إبراهيم” -عليه السلام- إلي برد وسلام هي نفسها التي تحيط بالمؤمن في كل شدة ومحنة، ويكمن الإشكال عند البعض في إمكانيات الإستقبال والتجهز  له، فهذا هو النسبي الذي يختلف ما بين إنسان وآخر، فأحد أهم أدوات مواجهة الكروب و المحن هو ذلك المران الإيماني بما يشمله من سعة اليقين القلبي والإدارك العقلي باعتبارهما أوعية التلقي للطف الرباني والسكينة العلوية، فبدونهما سيَجِدّ العسر في عمله، وترتخي حراسة اليُسرين، ومعهما تنقلب رعود الشتاء إلي أنغام ذات طرب، وتهدأ العواصف لتبقي في الأثر أرق من النسيم..

 

استرجع الرفيق الأسير كل ما نفسه من ألق تلك المعاني، والتي باتت له كنيرات الغسق، وتأمل أن يصل ذاك السنا الوهاج إلي نفس صديقه المتألم من أجله فيهنأ ويقر بالا طالما لم تنحسر يده عن مد يد العمل والبذل وفاء لحق الصداقة وعرفانا بركائز الأخوة وموجباتها..