كيف نقرأ التاريخ و نستفيد منه في واقعنا المعاصر ؟

بقلم عبد المنعم منيب

قراءتك التاريخ و المذكرات الشخصية و السير الذاتية لا تفيدك كثيرا (طبعا ستفيدك قليلا) و أنت في مرحلة تكوين عقلك و إكسابه القدرة على التفكر و التأمل العميق.

و من أكثر الأشياء التي تكسبك القدرة على التأمل و التفكر العميق في التاريخ و السياسة و العلوم الاجتماعية هو التفكر في ما تقرأه و مناقشته و الجدل معه و بحث كيفية تطبيقه لحل مشكلات الواقع الذي تعيشه ثم كثرة مجالسة و الاستماع إلى و مناقشة من هم أكثر منك علما و أعلى منك في القدرة على التفكر العميق و التأمل و النقد .. و قبل هذا كله و معه كثرة القراة للمراجع المفيدة في مجالك.

*****

في البداية عندما تقرأ كثيرا في التاريخ و السير الذاتية تخرج بتعميمات كبرى و مهمة من مثل:

أي قائد من القادة العمالقة الذين بنوا امبراطوريات لم يتمكن من هذا عبر محاربة كل أعدائه و منافسيه طوال الوقت بل تجد أكثر من 50% من سلوكه مصروف الى احتوائهم بالتحالفات و المعاهدات حتى يأتي دورهم في سلم أولوياته في القضاء عليهم.

و مثل:

أي عدو لك تقدر على القضاء عليه ثم تتركه بسبب ضعفه الشديد سيكون بؤرة قوة ضدك حيث سيكبر و يتطور بالتدريج و ينتهز فرصة ضعف فيك فيطور نفسه أكثر ثم ينقض عليك فيقضي عليك في النهاية و مثال ذلك الجيب الصليبي الصغير الذي تركه المسلمون على المرتفعات في أقصى الشمال الغربي (ربما جزء من البرتعال الآن) من الاندلس استهوانا بقيمته و تأثيره فقد فعل هذا الجيب هذا الى أن طرد المسلمين من الأندلس كلها بعد مئات السنين.

و مثل:

الحروب الكبرى التي يطلق عليها بلغة عصرنا الحروب العالمية أو ما يشبهها انما يحسمها خلطة مناسبة من ثلاثة أشياء رئيسة هي:

1-المعنويات المرتفعة للشعب المحارب و المبنية على فكر أو منهج منطقي حقيقي لا زيف فيه من الناحية الواقعية.

2-الفكر السياسي و الاستراتيجي المتقدم الذي فيه ابداع و تجديد واستخدام هذا الفكر في مواجهة كل التحديات و حل كل المشكلات.

3-توفر حد أدنى من الموارد الاقتصادية و البشرية اللازمة… و مقياس هذا التوفر هو انه يكون لديك ما يكفي لمواجهة كل موقف يواجهك

(مثال للتوضيح: عندما حشد الروم قوات كثيفة ضد جيوش المسلمين الأربعة في الشام قبل اليرموك فأولا تجمع المسلمون في جيش واحد و ثانيا نقل أبو بكر الصديق عدة آلاف من الجيش الاسلامي في العراق الى الشام بإمرة خالد بن الوليد .. و الشاهد أنهم و إن لم يتمكنوا من مجاراة نفس الحشد الرومي لكنهم واجهوه بزيادة “ما” في العدد و تجميع العدد كله معا و تعيين قائد جديد فضلا عن تحديد موقع “ما” للمواجهة بخطة “ما”)

و مقياس هذا أيضا بأن يكون لديك ما يجعل فعلك بهم كفعلهم بك حسب تعبير أبي بكر أو عمر (لا أذكر) لأحد القادة.

*****

كل ما سبق أمثلة عما تخرج به من تعميمات كلية مهمة في أول مرحلة تصل اليها بعد قراءة غزيرة جدا مصحوبة بتفكر و تأمل عميق لمئات المراجع الجيدة في التاريخ و السير الذاتية لعظماء التاريخ .. و لكن هناك شئ أعظم من هذا ستصل اليه في المراحل التالية بعدما تتجاوز هذه المرحلة بمزيد من الجهد في القراءة في التاريخ مصحوبا في الأول و الآخر بتوفيق الله تعالى لك.

*****

التعميمات الأهم التي تصل اليها في نهايات مرحلة الدراسة التاريخية العميقة و الواسعة هي المتعلقة بسنة الله في الكون بشكل عام و واسع و تصل هذه التعميمات بعقلك بأن تمتزج ببنيته كأنها جزء منه .. و مثلا :

ترى حركة سياسية أو دينية أو دولة أو كيان ما فتقول: مثل هؤلاء لن يفلحوا أبدا لما تراه من سلوكياتهم التي علمك التاريخ أن الله لم يعط نجاحا و لا فلاحا لصاحب مثل هذه السلوكيات من حركة او دولة، أو ترى حربا أو معركة فتقول عن المتقدم فيها “سينهزم في النهاية و لن تقوم له قائمة بعدها” ، أو ترى زعيما ناجحا فتقول: “هذا نهايته سوداء” ، أو ترى زعيما مهزوما فتقول: “سينتصر و سيبني مجدا”.. الخ ..

كثير من هذه الأمور يصبح واضحا لك وضوح الشمس في ظهيرة الصيف لكن من لم يكن مثلك يتعجب من قولك بل قد يعارضه و رغم هذا يتحقق قولك ربما بعد عشرة أو عشرين عاما و ربما يعد شهور قليلة.

*****

و من التعميمات المهمة بشأن حركة التاريخ الكونية (و هي سنة الله التي لا تتبدل) أنه يجب الاخذ بكل الأسباب المستطاعة و الممكنة بمقايس العلم و الموضوعية في عصر الحدث لمواجهة التحديات و حل المشكلات و تحقيق التمكين (لأي كان بغض النظر عن عقيدته) و من أهم و أبرز التعميمات بشأن الأخذ بالاسباب هو متابعة الواقع و تحدياته و مشكلاته بكل تيقظ و مواجهتها أولا بأول بحيث تتم مواجهة كل مفردة منها بما يناسبها من عمل قادر على التغلب عليها في اسرع وقت قبل أن يستفحل خطرها و يصعب مواجهتها و لعل أبرز مثال على هذا عندما انتعشت و تصاعدت الحركة الانقلابية للعباسيين في اتجاه خلع الملك الأموي (الخلافة الأموية) و نقل الحكم للبيت العباسي فوقتها كان الأمويون مشغولين بخلافاتهم الداخلية و بملذات الملك عن متابعة هذا التصاعد لنشاط التنظيم العباسي في أقصى شرق الدولة و حينها قال الشاعر العربي ملخصا الموقف:

أرى تحت الرماد وميض جمر …….ويوشك أن يكون له ضرام

فإنّ النار بالعودين تُذكى ……. وإنّ الحربَ مبدؤُهُا كلام

فإنْ لم يطفها عقلاءُ قومٍ ……… يكونُ وقودَها جثثٌ وهامُ

فقلت من التعجب ليت شعري ……. أأيقاظٌ أميّة أم نيام

فإن يقظت فذاك بقاء ملك ……. وإن رقدت فأنى لا ألام

فإن يك اصبحوا وثووا نياما ……. فقل قوموا فقد حان القيام

فغرّى عن رحالك ثم قولي ……. على الإسلام والعرب السلام

*****

القراءة الملحمية و الحماسية للتاريخ عندنا نحن الإسلاميون هي السائدة و هي تعمينا عن ما ذكرناه في السطور السابقة من حتمية الأخذ بالأسباب كما انها ترسخ عندنا مفهوم خاطئ للأسباب فنتخبط بسبب الحماس العالي و مثال ذلك:

في معركة ملاذكرد المشهورة بقيادة ألب أرسلان تقرأ أغلبية المراجع لتفهم كيف انتصر 20 الف مسلم على 500 ألف بيزنطي فلا تجد سوى أن ألب أرسلان لبس كفنه و خطب خطبة عصماء ألهب بها حماس جنوده و مساعديه من القادة فلبسوا هم الآخرون أكفانهم و شدوا على العدو فهزموه و لا يوجد مانع من أن يبرز الكتاب و المؤرخون قديما و حديثا و الآن أن العالم الفلاني المصاحب للسلطان ألب أرسلان نصح بكذا و المسلمون دعوا في صلاة الجمعة للجيش المسلم بالنصر !!!!!

أه .. أه .. الاسلاميون في كل بقاع الأرض من يوم ما قرأوا هذا و هم يلبسون اكفانهم و يدعون الله ثم ينزلون للمواجهات (السلمية أو المسلحة) و مع هذا لا ينتصرون بل يقتلون قتل عاد و ارم !!! أتدرون لماذا ؟؟

لأن لبس الكفن و الدعاء (فقط) لا يجلب النصر و الا “ما كانش حد غلب” حسب المثل الشعبي المصري الشائع و الا لفعل النبي صلى الله عليه و آله و سلم هذا و هو لم يفعله بل كان يلبس درعين بل و حفر الخندق و نصب المنجنيق لأول مرة في تاريخ الجزيرة العربية كلها..الخ ..

و دعوني “أحبابي” أذكر لكم لماذا و كيف انتصر ألب أرسلان على هذا الجيش العملاق بجيش صغير .. ممكن تدوخ في المراجع لتجد قلة ضئيلة منها ذكرت سبب هذا النصر.. لقد استخدم السلطان ألب أرسلان ما بات يعرف في علم الاستراتيجية الحديثة بـ “استراتيجية الاقتراب غير المباشر” و هي نفس الاستراتيجية التي طبقها كثيرا النبي صلى الله عليه و آله و سلم في الحرب و ربما في السياسة كما كان من أكبر روادها على مدار التاريخ الانساني كله خالد بن الوليد و المثنى بن حارثة في الفتوحات الاسلامية (و ارتكزت عليها أغلب الفتوحات الاسلامية زمن الراشدين) و خلاصتها الحيلة و الخداع فتتمكن قوة صغيرة من القضاء على قوة أكبر ، فكيف طبقها ألب أرسلان؟

لقد ارسل جزءا من قواته هاجمت الجيش الرومي ثم فرت منه لتستدرجه خلفها الى مكان حدده و جعل فيه كمين (غالبا كان واديا بين جبال على ما أذكر) ثم أطبق عليهم بقواته كلها من كل الجهات بعدما أصبحوا في مركز الكمين و بعدما قضى على أغلبهم طارد الفارين الى معسكرهم فحاصره و هم مثخنون و قضى علي من فيه أيضا ثم طارد الفارين الشاردين فقضى على أكثرهم.

لو قرأنا التاريخ هكذا سنفهم و نتعلم الأسباب الحقيقية للنصر و القدرة أما اذا قرأناه بالطريقة الملحمية السائدة (من قديم الزمان و حتى وعاظ و مشايخ و رموز الاسلاميين اليوم) فإن هذا يخرج لنا أجيالا لا تعرف الأسباب الحقيقية للحصول على النصر ورغم هذا يتصدرون المشهد و اذا نصحهم ناصح أو لامهم لائم ردوا لا يوجد أي وسائل غير هذه .. اذ كل ما يجهلونه هو غير موجود و على الجميع الاذعان لجهلهم.