الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد:

تحدثنا في المقال السابق عن أثر الذنوب على القلب وأنه ليس أشر على الإنسان في دنياه وأخراه من الذنوب، واليوم نتحدث حول محطات التنقية من الذنوب في الدنيا:

محطات التنقية في الدنيا المحطة الأولى، الاستغفار:

قال تعالى:( وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) آل عمران 135وكما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:” إذا أذنب عبدٌ ذنباً فقال أي رب أذنبت ذنباً فاغفر لي، فقال: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي.. الحديث”. رواه البخاري ومسلم. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب) وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: (كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة قول: (رب اغفر لي وتب على إنك أنت التواب الرحيم) رواه أصحاب السنن وقال بعض الشعراء:

يـارب إن عظمت ذنوبي كثرة ***** فلقد عـلمت بأن عفوك أعظم

إن كـان لا يرجوك إلا مـحسن ***** فبمن يـلوذ ويستجير المجرم

مــالي إليك وسيلــة إلا الرضا ***** وجميل عــفوك ثم أني مسلم

المحطة الثانية، التوبــة:

التوبة عبادة وقربى من أعظم العبادات وأجلها؛ بها ننال محبة الله تعالى كما قال سبحانه: “إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين” (222) البقرة والتوبة سبب لغفران الذنوب كما قال تعالى: “وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى” (82) طه والتوبة تُقلب بها السيئات إلى حسنات … كما قال سبحانه وتعالى: “إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما” (70) الفرقان وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: قال الله -تعالى-: «: يا ابن آدم إنَّك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السَّماء ثمَّ استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم إنَّك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثمَّ لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة» [رواه التِّرمذي وصحَّحه الألباني]. وأخرج ابن أبي الدنيا في كتابه الدعاء المستجاب (منع بنو إسرائيل القطر من السماء فجاءوا إلى موسى عليه السلام يقولون له: يا كليم الله! ادع لنا ربك أن ينزل الغيث، فدعا موسى ربه وهم يؤمنون خلفه -يقولون: آمين- ولكن الغيث لم ينزل، فأوحى الله إلى موسى: يا موسى فيهم عبد عصاني أربعين سنة مرة فأمره أن يخرج من بين صفوفهم. ونادى موسى على العبد العاصي: أيها العبد! اخرج من بين صفوف الناس، فلقد حرمنا الماء بسبب معاصيك، ووصل النداء إلى العبد بإذن الله، فعلم أنه هو المقصود، فطأطأ الرأس، وقال: يا رب! عبد عصاك الآن يستغفرك ويتوب إليك، رب استرني ولا تفضحني، فاطلع ربنا على صدق توبته وحسن استغفاره، فأوحى إلى موسى: أن ادع الله، وأمن الناس فنزل الماء مدراراً، فقال موسى لربه: العبد لم يخرج يا رب! قال: يا موسى! بسببه سقيتكم الماء، فقال موسى لربه: دعني أنظر إليه، فقال: يا موسى! لم أفضحه وهو عاص، فكيف أفضحه وهو تائب؟).

المحطة الثالثة، حسنات تمحو السيئات:

قال تعالى: “وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين” (114) هود وعن أبى ذرعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:” اتق الله حيثما كنت واتبع السيئة الحسنة تمحوها وخالق الناس بخلق حسن ” رواه الترمذي‏ ‏وعن أبي هريرة ‏أن رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏قال ‏ ‏ألا أدلكم على ما ‏ ‏يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات قالوا بلى يا رسول الله قال ‏ ‏إسباغ ‏ ‏الوضوء على ‏ ‏المكاره ‏ ‏وكثرة ‏ ‏الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم ‏ ‏الرباط ومحو الخطايا كناية عن غفرانها، ورفع الدرجات إعلاء المنازل في الجنة وإسباغ الوضوء على المكاره: أي إتمام الوضوء في أوقات الشدة كالبرد.فذلكم الرباط: أصل الرباط: الإقامة على جهاد العدو بالحرب وارتباط الخيل وإعدادها، وهذا من أعظم الإعمال، فلذلك شبه به ما ذكر من الأفعال الصالحة والعبادة في هذا الحديث، أي أن المواظبة على الطهارة والصلاة والعبادة كالجهاد في سبيل الله.وعنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا، أَنَّ رجلا أتى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ ذَنْبًا عَظِيمًا فَهَلْ لِي تَوْبَةٌ؟ قَالَ: “هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ؟” قَالَ: لا، قَالَ: “هَلْ لَكَ مِنْ خَالَةٍ؟” قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: “فَبِرَّهَا”. رواه الترمذي وصححه الألباني والْمَعْنَى أَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مِنْ جُمْلَةِ الْحَسَنَاتِ الَّلاتِي يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ. وقال صلى الله عليه وسلم:” الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر” رواه مسلم وقال:” من صام رمضان إيماناً واحتساباً، غُفِرَله ما تقدم من ذنبه” رواه البخاري ومسلم وقال:” من حجَّ هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه” رواه البخاري، وقال:” فتنة الرجل في أهله وماله وولده تكفرها الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” رواه البخاري ومسلم.

المحطة الرابعة، المصائب المكفرة:

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له” صحيح مسلم. فهذا الخير العظيم ليس إلا للمؤمن لأنه هو الذي يشكر ويصبر، فبذلك تكفر سيئاته كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة منها: ما روته عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله بها عنه؛ حتى الشوكة يشاكها” صحيح البخاري. وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة –رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب، ولا هم، ولا حزن، ولا أذى، ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه” صحيح البخاري. وعن سعيد بن أبي وقاص –رضي الله عنه- عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قلت: يا رسول الله! أي الناس أشد بلاء؟ قال:” الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، من الناس يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة خفف عنه، وما يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على ظهر الأرض ليس عليه خطيئة” مسند أحمد. فهذه الأحاديث وغيرها تدل على أن المصائب والفتن التي تصيب المؤمن أنها من الله، حيث لا يقع في الكون كائن بغير مشيئته الحكيمة، ومن ذلك أن الله أعد للمؤمن فيها خيراً عظيماً، سواء بتكفير السيئات، أو برفعة الدرجات، إن صبر واحتسب. قال ابن القيم:” إن ابتلاء المؤمن كالدواء له، يستخرج منه الأدواء (الأمراض)التي لو بقيت فيه أهلكته، أو نقصت ثوابه، وأنزلت درجته؛ فيستخرج الابتلاء والامتحان منه تلك الأدواء، ويستعد به لتمام الأجر وعلو المنزلة، ومعلوم أن وجود هذا خير للمؤمن من عدمه” إغاثة اللهفان: 2/88.

ونلتقي في الحلقة القادمة إن شاء الله مع محطات التنقية في البرزخ، وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.