ونحن في سيرنا إلى الله بقلوبنا نحتاج إلى إزالة العقبات التي تضعف المسير إلى الله؛ وأكبر هذه العقبات الذنوب؛ فالذنوب للقلوب كالسموم للأبدان. كما يقول ابن القيم رحمه الله: “حياة القلب بدوام الذكر وترك الذنوب، كما قال عبد الله بن المبارك رحمه الله:

رأيـــــت الذنـــــوب تميـــــت القلــــوب وقـــــــد يــــــورث الــــــذل إدمانهــــــا

وتـــــرك الذنـــــوب حيـــــاة القلـــــوب وخـــــــير لنفســــــــك عصيانهــــــــا

ويقول: “مما ينبغي أن يعلم أن الذنوب والمعاصي تضر، ولا بد أن ضررها في القلب كضرر السموم في الأبدان على اختلاف درجاتها في الضرر، وهل في الدنيا والآخرة شر وداء إلا سببه الذنوب والمعاصي؟ ولأنه سبحانه يعلم من عباده الزلل والتقصير فقد جعل لعباده محطات للتنقية، فإن الماء إذا أصابه الكدر (التراب والشوائب) فإنه يدخل لمحطة التنقية لينقي من كل شيء، فالإيمان يحتاج أن ينقى ويصفى حتى يطهر القلب لله.

وهذا ما سماه ابن القيم في مدارج السالكين بالتمحيص وعرفه بأنه: تخليص إيمانه ومعرفته من خبث الجناية كتمحيص الذهب والفضة وهو تخليصهما من خبثهما ولا يمكن دخوله الجنة إلا بعد هذا التمحيص فإنها طيبة لا يدخلها إلا طيب ولهذا تقول لهم الملائكة {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} وقال تعالى {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} فليس في الجنة ذرة خبث.

محطات التنقية الأحد عشر

أولا: -أربع محطات بالدنيا:

التوبة، والاستغفار، وعمل الحسنات الماحية، والمصائب المكفرة.

ثانيا: -وثلاث محطات بالبرزخ:

وكل شدائد القبر ظلمته ووحشته وسؤال الملكين يكفر الله بها من خطايا العبد المؤمن، والقبر فيه نعيم وعذاب وهذا العذاب قد يخفف عن صاحبه بتطهيره أو يرفع عنه بما يهدى إليه من أعمال من الأحياء، من صلاة أهل الإيمان الجنازة عليه، واستغفارهم له، وشفاعتهم فيه ،

ثالثا: -وأربع يوم القيامة:

أهوال القيامة، وشدة الموقف، وشفاعة الشفعاء، وعفو الله عز وجل.

أولا: -محطات التنقية في الدنيا المحطة الأولى:

الاستغفار:

قال تعالى 🙁 وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) آل عمران 135وكما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:” إذا أذنب عبدٌ ذنباً فقال أي رب أذنبت ذنباً فاغفر لي، فقال: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي.. الحديث”. رواه البخاري ومسلم. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب) وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: (كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة قول: (رب اغفر لي وتب على إنك أنت التواب الرحيم) رواه أصحاب السنن وقال بعض الشعراء:

يـارب إن عظمت ذنوبي كثرة ***** فلقد عـلمت بأن عفوك أعظم

إن كـان لا يرجوك إلا مـحسن ***** فبمن يـلوذ ويستجير المجرم

مــالي إليك وسيلــة إلا الرضا ***** وجميل عــفوك ثم أني مسلم

المحطة الثانية: التوبــة:

التوبة عبادة وقربى من أعظم العبادات وأجلها؛ بها ننال محبة الله تعالى كما قال سبحانه: “إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين” (222) البقرة والتوبة سبب لغفران الذنوب كما قال تعالى : “وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى” (82) طه والتوبة تُقلب بها السيئات إلى حسنات … كما قال سبحانه وتعالى : “إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما” (70) الفرقان وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: قال الله -تعالى-: «: يا ابن آدم إنَّك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السَّماء ثمَّ استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم إنَّك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثمَّ لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة» [رواه التِّرمذي وصحَّحه الألباني]. وأخرج ابن أبي الدنيا في كتابه الدعاء المستجاب (منع بنو إسرائيل القطر من السماء فجاءوا إلى موسى عليه السلام يقولون له: يا كليم الله! ادع لنا ربك أن ينزل الغيث، فدعا موسى ربه وهم يؤمنون خلفه -يقولون: آمين- ولكن الغيث لم ينزل، فأوحى الله إلى موسى: يا موسى فيهم عبد عصاني أربعين سنة مرة فأمره أن يخرج من بين صفوفهم. ونادى موسى على العبد العاصي: أيها العبد! اخرج من بين صفوف الناس، فلقد حرمنا الماء بسبب معاصيك، ووصل النداء إلى العبد بإذن الله، فعلم أنه هو المقصود، فطأطأ الرأس، وقال: يا رب! عبد عصاك الآن يستغفرك ويتوب إليك، رب استرني ولا تفضحني، فاطلع ربنا على صدق توبته وحسن استغفاره، فأوحى إلى موسى: أن ادع الله، وأمن الناس فنزل الماء مدراراً، فقال موسى لربه: العبد لم يخرج يا رب! قال: يا موسى! بسببه سقيتكم الماء، فقال موسى لربه: دعني أنظر إليه، فقال: يا موسى! لم أفضحه وهو عاص، فكيف أفضحه وهو تائب؟).

المحطة الثالثة: حسنات تمحو السيئات :

قال تعالى: “وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين” (114) هود وعن أبى ذرعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:” اتق الله حيثما كنت واتبع السيئة الحسنة تمحوها وخالق الناس بخلق حسن ” رواه الترمذي‏ ‏وعن أبي هريرة ‏أن رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏قال ‏ ‏ألا أدلكم على ما ‏ ‏يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات قالوا بلى يا رسول الله قال ‏ ‏إسباغ ‏ ‏الوضوء على ‏ ‏المكاره ‏ ‏وكثرة ‏ ‏الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم ‏ ‏الرباط ومحو الخطايا كناية عن غفرانها ، ورفع الدرجات إعلاء المنازل في الجنة وإسباغ الوضوء على المكاره: أي إتمام الوضوء في أوقات الشدة كالبرد .فذلكم الرباط : أصل الرباط : الإقامة على جهاد العدو بالحرب وارتباط الخيل وإعدادها ، وهذا من أعظم الإعمال ، فلذلك شبه به ما ذكر من الأفعال الصالحة والعبادة في هذا الحديث ، أي أن المواظبة على الطهارة والصلاة والعبادة كالجهاد في سبيل الله .وعنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا، أَنَّ رجلا أتى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ ذَنْبًا عَظِيمًا فَهَلْ لِي تَوْبَةٌ؟ قَالَ: “هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ؟” قَالَ: لا، قَالَ: “هَلْ لَكَ مِنْ خَالَةٍ؟” قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: “فَبِرَّهَا”. رواه الترمذي وصححه الألباني والْمَعْنَى أَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مِنْ جُمْلَةِ الْحَسَنَاتِ الَّلاتِي يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ. وقال صلى الله عليه وسلم:” الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر” رواه مسلم وقال:” من صام رمضان إيماناً واحتساباً، غُفِرَله ما تقدم من ذنبه” رواه البخاري ومسلم وقال:” من حجَّ هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه” رواه البخاري، وقال:” فتنة الرجل في أهله وماله وولده تكفرها الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” رواه البخاري ومسلم

المحطة الرابعة: المصائب المكفرة :

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له” صحيح مسلم. فهذا الخير العظيم ليس إلا للمؤمن لأنه هو الذي يشكر ويصبر، فبذلك تكفر سيئاته كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة منها: ما روته عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله بها عنه؛ حتى الشوكة يشاكها” صحيح البخاري. وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة –رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب، ولا هم، ولا حزن، ولا أذى، ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه” صحيح البخاري. وعن سعيد بن أبي وقاص –رضي الله عنه- عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قلت: يا رسول الله! أي الناس أشد بلاء؟ قال:” الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، من الناس يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة خفف عنه، وما يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على ظهر الأرض ليس عليه خطيئة” مسند أحمد. فهذه الأحاديث وغيرها تدل على أن المصائب والفتن التي تصيب المؤمن أنها من الله، حيث لا يقع في الكون كائن بغير مشيئته الحكيمة، ومن ذلك أن الله أعد للمؤمن فيها خيراً عظيماً، سواء بتكفير السيئات، أو برفعة الدرجات، إن صبر واحتسب. قال ابن القيم:” إن ابتلاء المؤمن كالدواء له، يستخرج منه الأدواء (الأمراض)التي لو بقيت فيه أهلكته، أو نقصت ثوابه، وأنزلت درجته؛ فيستخرج الابتلاء والامتحان منه تلك الأدواء، ويستعد به لتمام الأجر وعلو المنزلة، ومعلوم أن وجود هذا خير للمؤمن من عدمه” إغاثة اللهفان: 2/88.

 ثانيا :-محطات التنقية في القبر

 المحطة الخامسة: صلاة الجنازة:

الموت انقطاع من الخلق إلى الحق، وقد شرعت صلاة الجنازة على الميت طلباً للمغفرة، واستنزالاً للرحمة لهذا الميت بالتوجه إلى الله، والتوسل إليه بأن يكرمه في قبره بمغفرته ورحمته، ويكفر عنه أوزاره، ويعتق رقبته من النار، ويقبل شفاعة المسلمين فيه ، وقد روى مسلم عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة، فسمعته يقول: (اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه، وكرم نزله ووسع مُدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدل له داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة وقه فتنة القبر وعذاب النار ) قال عوف: “فتمنيت أن لو كنت أنا الميت، لدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الميت “.‏وعن عائشة – رضي الله عنها- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من ميت تصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة ، كلهم يشفعون له . إلا شفعوا فيه (صحيح مسلم. وعن ابن عباس – رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا، لا يشركون بالله شيئا إلا شفعهم الله فيه” صحيح مسلم ويستحب تكثير المصلين على الجنازة، بحيث يكون فيها عدد كبير يصلون على الجنازة، وتجعل صفوفهم ثلاثة فأكثر، فالصلاة على الجنازة ليست كغيرها من الصلوات، فهي صلاة لا ركوع فيها ولا سجود ولا تحيات، وإنما هي قراءة الفاتحة والدعاء للميت بعد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والدعاء للمسلمين، والتسليم.

المحطة السادسة : فتنه القبر :

فتنة القبر هي مسألة القبر وهو: أن يسأل العبد في قبره {من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ فأما المؤمن أو الموقن فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبي محمد صلى الله عليه وسلم، فيقال له: نم قرير العين نومه العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه، وأما الكافر أو المنافق فإنه يقول: ها هاه لا أدري كنت أقول كما يقول الناس} وكل شدائد القبر ظلمته ووحشته وسؤال الملكين يكفر الله بها من خطايا العبد المؤمن، والقبر فيه نعيم وعذاب وهذا العذاب قد يخفف عن صاحبه بتطهيره أو يرفع عنه بما يهدى إليه من أعمال من الأحياء، وهذه هي المحطة التالية.

المحطة السابعة: هدايا الأحياء من الأعمال الصالحة :

إن من رحمة الله عز وجل على عباده أن أبقى باب الانتفاع للعبد حتى بعد موته، سواء كان بسبب مباشر من الميت وظل أثره بعد موته، أو بسبب إهداء الآخرين من الأحياء ثواب أعمال صالحة يفعلونها ثم يهدونها للميت، أما بالنسبة لأعمال الميت التي ينتفع بها حتى بعد موته فقد جاءت بها نصوص كثيرة منها: قال صلى الله عليه وسلم : ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له ) رواه مسلم فهذه الأمور الثلاثة و أمثالها هي من ثمار عمل الإنسان ، وبالتالي لا ينقطع عنه أجرها و ثوابها حتى بعد وفاته ، فالصدقة الجارية : كأن يبني العبد مسجداً أو يساهم فيه ، أو يتصدق بصدقة يظل الناس يستفيدون منها ،أو كمن يحفر بئراً أو يزرع شجرة مثمرة أو سوى ذلك ، فما دام الناس يستفيدون من هذه الصدقة فالأجر لا ينقطع عن المتصدق حتى لو مات .وكذلك الولد الصالح باعتبار أن الوالدين هما سبب وجوده فصلاته ودعاؤه ينفع الوالدين وهما في القبر ، وكذلك لو ورّث هذا الميت علماً يستفيد الناس منه كأن يؤلف كتابا ، أو يكتشف اختراعا يعود صالحة للناس فأجره لفاعله حتى ولو بعد موته .والميت ينتفع من الأحياء بالدعاء ،والصدقة والحج والعمرة ،وهنالك خلاف بين أهل العلم على حكم تلاوة القرآن ، قال ابن قدامة: ولا بأس بالقراءة عند القبر وقد روى عن أحمد أنه قال إذا دخلتم المقابر اقرؤوا آيــة الكرسي وثلاث مرات ” قل هو الله أحد ” ثم قل : اللهم إن فضله لأهل المقابر . وروى عنه أنه قال: القراءة عند القبر بدعة وروى ذلك عن هشيم: قال أبو بكر نقل ذلك عن أحمد جماعة ثم رجع رجوعا أبان به عن نفسه فروى جماعة أن أحمد نهى ضريرا أن يقرأ عند القبر وقال: إن القراءة عند القبر بدعة فقال له: محمد بن قدامة الجوهري: يا أبا عبد الله ما تقول في مبشر الحلبي؟ قال: ثقة. قال: فأخبرني مبشر عن أبيه عبد الرحمن بن العلاء أنه أوصى إذا دفن أن يقرأ عنده بفاتحة البقرة وخاتمتها، وقال: سمعت ابن عمر يوصي بذلك قال أحمد: فارجع فقل للرجل: يقرأ. وقال الخلال: حدثني أبو علي الحسن بـن الهيثم البزار شيخنا الثقة المأمون، قال: رأيت أحمد بن حنبل يصلي خلف ضرير يقرأ على القبور. وسئل ابن تيمية عن قراءة أهل الميت تصل إليه؟ والتسبيح والتهليل والتكبير إذا أهداه إلى الميت يصل إليه ثوابها أم لا؟ فأجاب: تصل إلى الميت قراءة أهله وتسبيحهم وتكبيرهم وسائر ذكرهم لله تعالى إذا أهدوه إلى الميت وصل إليه. والله أعلم. الفتاوى 24 / 324

ثالثا: -محطات التنقية الأربع يوم القيامة:

المحطة الثامنة: أهوال يوم القيامة:

في الحديث قال صلى الله عليه وسلم: (يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا في يوم مقداره خمسون ألف سنة) والذي يزيد هذا الكرب شدة الوقوف والانتظار تحتَ لهيب الشمس التي اقتربت من رؤوس الخلائق قدر ميل حتى يغرق الناس في عرقهم فعن المقداد بن عمرو رضي الله عنه قال سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أُدْنِيَتِ الشَّمْسُ مِنَ الْعِبَادِ حَتَّى تَكُونَ قِيدَ مِيلٍ أَوْ مِيلَيْنِ قَالَ سُلَيْمٌ لا أَدْرِي أَيُّ الْمِيلَيْنِ يَعْنِي أَمَسَافَةُ الأَرْضِ أَمِ الْمِيلَ الَّذِي تُكَحَّلُ بِهِ الْعَيْنُ قَالَ فَتَصْهَرُهُمُ الشَّمْسُ فَيَكُونُونَ فِي الْعَرَقِ كَقَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى عَقِبَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى حَقْوَيْهِ وَمِنْهُ مَنْ يُلْجِمُهُ إِلْجَامًا قَالَ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ يَقُولُ يُلْجِمُهُمْ إِلْجَامًا) الترمذي وقال حسن صحيح وصححه الألباني. وكل هذه الشدائد وغيرها لتكفير السيئات والتطهير لعصاة المؤمنين.

المحطة التاسعة: العرض والحساب:

تتطاير الصحف ويتفاوت العباد على قدر أعمالهم، فمنهم من يدخل الجنة بغير حساب ومنهم يعرض على الله ويشدد عليه في الحساب كما في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نوقش الحساب عذب، قالت فقلت: أليس الله يقول: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً)؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إنما ذلك العرض، وليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك)0والمعنى: أن مجرد العرض على الله فيه مشقة وتشديد، ولكنه سبحانه يعفو ويصفح، فيحاسب الله الخلائق، ويخلو بعبده المؤمن، فيقرره بذنوبه كما في الصحيح من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (إن الله يدني منه عبده المؤمن فيضع عليه كنفه، ويحاسبه فيما بينه وبينه، ويقرره بذنوبه فيقول: ألم تفعل كذا يوم كذا؟ ألم تفعل كذا يوم كذا؟ حتى إذا قرره بذنوبه وأيقن أنه قد هلك قال له: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم) خرجاه في الصحيحين. وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال سمعت النبي يقول:” ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه فاتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة “

المحطة العاشرة : شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم:

والشفاعة: هي السؤال في التجاوز عن الذنوب والجرائم، وعرّفها بعضهم بقوله: هي طلب الخير للغير، وهي ثابتة تواترت الأدلة في إثباتها، ومنهاما رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجّل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئا) وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أنا أول شافع وأول مشفع) وقوله صلى الله عليه وسلم: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي). رواه الترمذي وصححه الألباني

المحطة الحادية عشر والأخيرة: عفو الله عز وجل :

رغم كل هذه المحطات التي مررنا بها للتنقية إلا أن هناك من سيسقط من على الصراط في النار … لإن كل هذه المحطات لم تف بتمحيصه فلا بد له من دخول النار رحمة في حقه ليتخلص ويتمحص ويتطهر في النار فتكون النار طهره له وتمحيصا لخبثه ويكون مكثه فيها على حسب كثرة الخبث وقلته وشدته وضعفه وتراكمه فإذا خرج خبثه وصفى ذهبه وصار خالصا طيبا أخرج من النار وأدخل الجنة بعفو الله له وهذه هي المحطة الأخيرة. عفو الله عز وجل: ففي الحديث عن أبي سعيد الخدري أنه صلى الله عليه وسلم قال:( … ثم يضرب الجسر على جهنم، وتحل الشفاعة، ويقولون: اللهم! سلم سلم. قيل: يا رسول الله! وما الجسر؟ قال” دحض مزلة؛ فيه خطاطيف وكلاليب وحسك، تكون بنجد فيها شويكة يقال لها السعدان، فيمر المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاود الخيل والركاب، فناج مسلم، ومخدوش مرسل، ومكدوس في نار جهنم، حتى إذا خلص المؤمنين من النار، فوالذي نفسي بيده! ما منكم من أحد بأشد منا شدة لله، في استقصاء الحق، من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار، يقولون: ربنا! كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون. فيقال لهم: أخرجوا من عرفتم فتحرم صورهم على النار، فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه. ثم يقولون: ربنا! ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به. فيقول: ارجعوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه. فيخرجون خلقا كثيرا. ثم يقولون: ربنا! لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا. ثم يقول: ارجعوا؛ فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه؛ فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون: ربنا! لم نذر فيها ممن أمرتنا أحدا. ثم يقول: ارجعوا. فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه. فيخرجون خلقا كثيرا. ثم يقولون: ربنا! لم نذر فيها خيرا”.

وكان أبو سعيد الخدري يقول: إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرؤوا إن شئتم: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما} [4 / النساء / الآية – 4] “فيقول الله عز وجل: شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط، قد عادوا حمما، فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة، فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل، ألا ترونها تكون إلى الحجر أو إلى الشجر، ما يكون إلى الشمس أصيفر وأخيضر. وما يكون منها إلى الظل يكون أبيض؟” فقالوا: يا رسول الله! كأنك كنت ترعى بالبادية. قال” فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتم. يعرفهم أهل الجنة. هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه. ثم يقول: ادخلوا الجنة فما رأيتموه فهو لكم. فيقولون: ربنا! أعطيتنا ما لم تعط أحدا من العالمين. فيقول: لكم عندي أفضل من هذا. فيقولون: يا ربنا! أي شيء أفضل من هذا؟ فيقول: رضاي. فلا أسخط عليكم بعده أبدا “رواه مسلم