معالم أساسية مختصرة في صناعة الأجيال المنتصرة

د. ليلى حمدان

حين أنظر في هذا الواقع المرير للأمة، أرى أن المطالبة بمعايير التربية الأولى فقط لأجل إخراج جيل مستقيم لا تكفي لتجاوز حجم الكارثة التي نعيشها، بل أرى أن يجعل كل راعٍ هدفه الأول: إخراج قيادات من النوع الفريد، لا مجرد جند أو أتباع.

أن يبذل كل جهده في تنمية صفة الميول إلى القيادة التي نجدها عند الطفل منذ عمر مبكرة، وبيدنا أن نطورها مع تطور مراحل حياته. ولا يعني هذا أننا سنخرج بجيل كله قيادات، بل إن الهدف حين يكون في سقف المطالب، لن يكون النتاج إلا مستوى من الأجيال متفرد.

بالله نستعين

وهذا المشروع لا يأتي غلابًا، وإنما بالتدرج والجد، مع مراعاة طبيعة النفس البشرية وطاقاتها. ولعل أول ما يستعين به المربي في هذه المهمة الحاسمة: هو الدعاء بالصلاح والتوفيق لهذه الفلذات، لا تفريغ شحنات الغضب بالدعاء عليهم واللعن والسب والشتم!

ولأهمية هذا الأمر نبهنا عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال:” لاَ تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَلاَ تَدْعُوا عَلَى أَوْلاَدِكُمْ وَلاَ تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ لاَ تُوَافِقُوا مِنَ اللَّهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ”. [1]

فكم من طفل نشأ وكبر ولم يجد التوفيق في حياته بسبب دعاء أمه أو أبيه عليه، ثم يتفاجآن بفشل ذريع وابن عاق طالح معاند ويتحسران على هذا المصاب. وهذا رجل جاء إلى عبد الله بن المبارك -رحمه الله- يشكو إليه عقوق ولده، فسأله ابن المبارك:” أدعوت عليه؟”، قال:”نعم”، قال:” اذهب فقد أفسدته”.

التعليم المتين

وإن كان حرص الوالدين والمربين على تلقين العلوم الحياتية لأبنائهم مهمة أولى، فإن الأولى في هذه الظروف التي نمر بها: هو تلقينهم القرآن وأصول دينهم وقواعد الإيمان، قبل أن يشتد عودهم.

ولا يستهان بهذا الأمر، بل لِيَكُن من أولى الأولويات؛ فذاك دأب السابقين، وعن جندب قال:” كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ونحن فتيان حزاورة [2] فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيمانًا.” [3]، ثم هل تخلفت أمتنا إلا من جراء تخلفنا عقديًا وإيمانيًا؟!

فإن تم ترسيخ قاعدة الإيمان والتوحيد بداية، وتقوية قلب الطفل المقبل بنور القرآن ثانيًا، نكون قد أقمنا حجر الأساس في بناء قلب سليم إذا صلح؛ صلح الجسد كله، ثم ننطلق بعدها في مرحلة تلقين بقية العلوم النافعة التي لابد له منها ليحقق سبقًا في هذه الحياة، وبقلب قوي عامر بالإيمان سيجتاز جميع الامتحانات بنجاح وامتياز.

ولابد أن يعتمد أسلوب التلقين على حفر المعاني والمفاهيم، لا مجرد الحفظ بلا فهم كالببغاء؛ ذلك أن الفرق شاسع بين طفل يحفظ المعلومة وهو مدرك لماهيتها، وبين طفل يحفظها بلا أدنى دراية لمكنوناتها، ثم حين يكبر يكتشف أنه لم يحز معشار العلم الذي استغرق حياته في تعلمه، ويا لها من خسارة في الوقت والجهد! فلا أفضل من علم متقن، راسخ، يربط النظرية بالتطبيق.

توثيق الصلة بالتاريخ والمستقبل

كما أن دائرة معرفة الطفل في عصرنا اليوم لا بد أن ترتبط ارتباطًا وثيقًا بتاريخ ومستقبل هذه الأمة، فكما لابد له أن يعرف سيرة نبيه -صلى الله عليه وسلم- ويستمد القوة -قوة الإلهام والتحريض- منها، ومن سير صحابته الكرام، وجند الإسلام الأفذاذ، وتتشبع ذاكرته الصغيرة العميقة بقصص القدوات والبطولات عبر كل زمان؛ فتتجلى ملامح النجابة فيه حين يتحدث عنها متفاخرًا ومعتزًا بلسان فصيح لا يلحن.

علينا أن نبيّن لهذا الطفل أن المستقبل لهذا الدين، وهذا وعد حق؛ فيتعلم أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- وتوصياته، وما ينتظر هذه الأمة من نصر وتمكين إن هي تمسكت بدين الله وشريعته. وهذا ما يعني إقبال الطفل مستبشرًا واثقًا مستيقنًا، فلا نسأل بعدها عن درجات النجاح التي يحرزها.

تعويدهم على حمل المسئولية

لنحملهم -وإن كانوا صغارًا- مسئولية تليق بحجم الأمانة التي ستُلقى على عاتقهم، كأن نعمد إلى تفويضهم في مهمات تبث الثقة والإرادة في ثنايا أجسادهم، فنُسِرُّ الطفلَ السِّرَّ ونطالبُه بحفظِه، ونوكل إليه تولي مهمة توصيل أمانة بحرص شديد أو إنجاز عمل هو من أعمال الكبار، وعلى هذه نَقِس.

علينا أن نعاملهم باحترام ورفق، وفي ذات الوقت بحزم وحرص؛ ليكون النتاج طفلًا متوازنًا، يُدرك ما له وما عليه.

ويدخل في هذه تعويدهم على فروض الإسلام، والصلاة، ومكافأة من حرص منهم على أداء صلاة الفجر في وقتها، ثم تشجيعهم على تعظيم المسجد وشعائر الله وتعويدهم على الغُسل يوم الجمعة، والصلاة في جماعة حتى تصبح بالنسبة لهم ضرورة لتذوق طعم الحياة، لا مجرد أداء مُبهَم لفرض!

لنصنع منهم قادة بهِمَم عالية يتوقون للأفضل لا للدنية، لنستمع لخطبهم وهم يلقونها، ولمغامراتهم وهم يقصونها، ولأحلامهم وهم يتوقون لتحقيقها؛ فيستشعرون أهمية دورهم في هذه الأمة.

فنون في سبيل الاستقامة

ليكن الانضباط وسيلة والنظام طريقة، ليتعلموا احترام الوقت واعتياد النظافة، ولنحرص أكثر على الجدية في معالجة اهتماماتهم والإجابة على أسئلتهم.. لنتقن معهم فن الحوار!

ولنبعدهم كل البعد عن مرجعيات غير مسلمة، فنطهر أسماعهم وأبصارهم من كل رذيلة أو سيئة.. وليكن ملبسهم ومطعمهم ومشربهم حلالا، وليكن سبيل استقامتهم مليئا بالأماني الرائعة والأهداف السامية.

أبجديات بناء الأمة الواحدة

لنعلمهم روح التعاون منذ الصغر، والصدقات وتقديم القربات، لنفقههم كيف يكون الإحسان والمروءة والصبر ومكارم الأخلاق، لنزرع محبة الأخوة في قلوبهم، والجار، وكل مسلم مهما بعدت به الديار!

إن لنا ميراثًا ثقيلًا زاخرًا، لنصطد منه الأفضل كل يوم ونقدمه بشهية لصغارنا، وحب.

أم الفرسان

وتلك الأم محراب الأمان والعطاء، هي التي بسحر حنانها ومحبتها تؤثر في قسوة الحجر، تضم صغيرها فتهمس في أذنيه أنه بطل، وأنه سيرجع للإسلام مجده يومًا كما أرجعه صلاح الدين وخيرة القادة على مر الأزمان.

ستحدثه عن قصة بيت المقدس واغتصاب اليهود، وعن احتلال الصليبيين وعن تسلط الطغاة والظلمة، ستحدثه القصص بلسان يفهمه وتذكره أنها تنتظره، ليكبر ويشتد عوده ويكون هو البطل المقبل.

ستزرع بكياستها جذوة الاعتزاز بالإسلام والرغبة الحارقة في عودة مجده بسواعد صغيرة ستشب قوية. وإن تغذية فكر الطفل منذ الصغر بعزة المسلمين، وربط وجوده بأهمية عطائه ومسابقته، وتحفيزه المستمر بقصص النجاح والبطولات، له مفعول قوي جدًا في شعوره بالقوة وإحرازه التفوق.

على عكس الانهيار والشكوى والبكاء والانكسار أمامه، فيتحول الطفل لمحبط يائس يريد الهروب من واقعه، بل علينا أن نعلم الأطفال كيف يقومون في الفشل ويتجاوزون العجز، وهذا من خلال اللعب، وامتحانات الحياة، فإن صادف الطفل صعوبة، يجد عباراتنا تشد أزره؛ لا تقلق، استعن بالله، ستنجح، أعد الكَرَّة ولا تتراجع، أنت لها إن ثبتّ،… مجرد عبارات، لكنها حين تأتي في وقتها يكون لها مفعول -بلا شك- رائع في تجاوز العقبات.

فهم الواقع

لابد أن يفهم الطفل جانبًا مما نعيشه بمفهوم بسيط؛ فهو يشاهد الأقصى تدنسه أقدام اليهود، فلا تبكي أمامه يا أم الفارس، ولا تتعجلي في الانكسار، بل اجعليه يعيش معك اللحظة ليحفظ الفكرة في أن هذا الظلم لن يزول إلا برجال.

رجال يحملون هذا الدين كما حمله صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. علميه منذ الصغر الفرق بين الحق والباطل، بين الظالم والناصر، بين المسلمين والكافرين!

الإعداد

يدخل في هذه التنشئة: الاعتناء بالتربية البدنية، واللياقة والتغذية الصحية، والاهتمام بنظام حياتي يسمح للطفل بأن يبرز مهاراته. وليس معنى هذا أن نطبق معه مبدأ الجندية، ولكن بتقريب مشابه، نخلق فيه روح الفروسية.

وما أجمل أن نخرج الأطفال أيام العطل في رحلات لزيارة مواقع المسلمين التاريخية وآثارهم التي بقيت، ونربط حسهم البصري بالمعلومة فلا ينسوها. ونجعل الرحلة تجمع بين المرح والتعليم والرياضة.

وليس الذكر كالأنثى

وهذا لا يعني أن نهمل البنات أو نتجاوز الفتاة بكثرة الاهتمام بهذا الفارس الصغير، بل إن للفتاة دورًا لا يقل أهمية عن دور أخيها، لهذا وجب العناية بكل ما سبق وأن ذكرناه مع الجنسين، مع فارق صغير في ميولات الذكر عن الأنثى، فكما أن قدوة الولد قد تكون خالد بن الوليد، لتكن قدوة البنت أم عمارة الأنصارية.

وعلى هذه نقس، ننمي مهارات الطفل بحسب ما يحمله من مكونات في شخصيته وقدراته. ولتكن الفتاة محط العطف والعناية بشكل أكثر من الولد، ذلك أنها رقيقة خلقت لتكون أمًا وأختًا وابنة، لتقدم الحنان والعطف والعطاء بلا حد.

لنصنع منهن أمهات، مصانع للرجال، لا مجرد نساء بلا أصالة ولا هوية! لتعتز الفتاة بحجابها حين تخرج، ونعطيها في ذات الوقت مساحة للزينة والشعور بأنوثتها في داخل البيت، فلا تشعر بالكبت!

لنبين لها مزايا الحشمة ونزرع في قلبها الوقار. ونستمع لحديثها ونشاركها الهوايات… وما أجمل أن تُعَوّد الفتاة على القراءة البنّاءة النافعة، ونفتح أمامها مستودعات العلم والمعرفة!

خطر الإعلام والتلفزة:

إن من المصائب التي ابتُلينا بها في هذا الزمان: إعلام بلا ضمير، وقنوات بلا دين، وبرامج هدّامة قادرة على هدم ما عملنا عليه بجهد جهيد في بناء شخصية الطفل ليكون مستقيمًا معتزًا بإسلامه، بين يوم وليلة.

فتدس في برامجها السموم، وتبعده عن قاعدة الإيمان، وتزرع فيه الوهن والعجز والكسل والتثاقل، يتابعها الطفل فيفقد القدرة على التفكير الملهم، بل ينحسر في دائرة العبث واللهو، أهدافه تصبح تافهة واهتماماته منحطة، يعلمونهم التعلق بالموسيقى والغناء والتباهي بالثقافة الغربية واللباس والعادات التي لا تنتمي لنا ولا تمثلنا.

يتعلق بسفاسف الأمور وبأسوأ الأخلاق، يعلمونهم الكذب والاستهتار بالعلاقات، والتطاول على الأب والأم بكل سخرية! فضلًا عن تعلق الطفل بكل شيء إلا ربه، فأي زرع نزرعه في صغارنا بتسليمهم لمثل هذه البرامج الهدامة؟!

لهذا وجب على الأب والأم والمربيين الانتباه لما يشاهده أطفالهم في التلفزة والبرامج المرئية والمسموعة، عليهم أن يعوّدوا الطفل كيف يترفع بنفسه عن هذه المهانة. كأن نشرح له أن هذا خطأ وأن عليه أن يمتنع عن مشاهدته وإن لم نكن بجانبه.

نبين له أن هذه القناة أو هذا الكرتون أو هذا البرنامج سيئ ومضر إن شاهده في أي مكان عليه أن يشيح عنه، نزرع فيه هذه القناعة حتى إن تغيبنا عنه يومًا وثقنا في أنه سيمنع الشر عن نفسه. وليكن بأسلوب محبب وبرفق؛ ليقتنع به، لا بالعنف والتهديد! فهذا يدفعه للتمرد والمشاهدة بالسر، فكل ممنوع مرغوب!

وقد ثبت بالتجربة أن هذا الأسلوب يأتي بنتائج مبهرة بل ويؤثر الطفل بقناعاته التي ترسخت في قرارته في أصحابه، وينتقدهم لسوء تصرف أو سلوك، لا يتبعهم فيه، وهذه من صفات القائد!

خاتمة

من الصعب جدًا أن نلخص معالم بناء القيادات في أمتنا منذ الصغر، ولكن هذا غيض من فيض وبداية لمشوار طويل من الخبرات والعبقرية تصنع من ذلك الطفل الصغير شخصية عظيمة تنصر أمتها وتثبت في المحن وتَعِد بالكثير.

وخلاصة القول: حتى نبني هممًا واعدة، لنُهَيِّئ لقلوبها أسباب السلامة. فإن قويت القلوب، لا نسأل بعدها عن العطاء، ثم ذلك الوسط الذي يتربى فيه الطفل، معتزًا بإسلامه توّاقًا لنصرته، سيغير الكثير من السلوكيات والتعاملات، ويجعل من تربية الطفل متعة وبهجة.

إنها قصة صناعة مجد في إنسان… في أمة! لنكن أهلًا لها ولا نستهين بثقل الأمانة، فما لم نحققه نحن بتقصير منا ومن أهالينا، لن نسمح به مع أبنائنا وأجيال قادمة ستكون لنا ممتنة إذا أخلصنا.

فاللهم أعز الإسلام والمسلمين بجيل جديد من قادة وفاتحين، يحبون الإسلام حبًا جمًا ويرفعون رايته بعزة وقوة، لا تؤثر فيهم دعوات مرجفة ولا مخذلة، ولا يعيق مسيرهم مكر أو مكيدة، يكررون القسم الشهير:

نحن أبناء أمة واحدة، لا نركع إلا لرب واحد.