مكاسب الدعوة وخسائرها بعد الانقلاب

كتبه عامر شماخ

يظن كثيرون من محبى الدعوة وكارهيها -على السواء- أنه لن تقوم لها قائمة بعد ما جرى لأبنائها ومتعاطفيها على أيدى العسكر منذ انقلاب يوليو 2013 وإلى الآن..

بالفعل، تلقت الدعوة ضربات عنيفة أفقدتها الكثير من أفرادها المتميزين، ومؤسساتها، وقطاعاتها ومجالات عملها، وقد حيل بينها وبين المجتمع، بل صدَّر خصومها صورًا زائفة إلى المجتمع تطعن قادتها وأفرادها، وتصمهم بالسوء والفحشاء.. وعلى إثر ذلك غابت أصوات الدعاة الحقيقيين عن المنابر، واعتلاها الرويبضات؛ فأصبح الناس يتلقون الوعظ ممن لا علم لهم ولا فقه، ولا رأى ولا مبدأ؛ وهذا إن أنتج لا ينتج إلا نكدًا.

كذلك انحسر العمل الدعوى العام، فلا عمل فى المجتمع؛ خصوصًا أن الانقلابيين قسموا المجتمع قسمين متخاصمين متنافرين؛ فلو قام داعية بنشاط ما فسوف ينفر له إمعة ينهاه، مستقويًا بالسلطة التى أعطته حق «الضبطية القضائية!!» فربما سلم هذا الداعية ومن يناصره إلى الشرطة، والأخيرة لا تتأخر ثانية فى الاستجابة لهؤلاء الإمعات.

وقد توقفت أعمال البر. وغاب الصوت الإسلامى المدافع عن حقوق المسلمين فى المحافل الرسمية والشعبية وفى المكونات السياسية والحزبية والنقابية وغيرها.

وعلى المستوى الخاص تم إجهاض الصلات والروابط التنظيمية -إلى حين- وما لها من آلية فى تنفيذ وتنشيط سائر مجالات العمل الدعوى، وتطويره والإبداع فيه. ومن ثم إجهاض العمل التربوى الخاص، وهو الأهم فى المستوى الداخلى؛ فهو مثل (الموتور) للسيارة، وفى قلب هذا (الموتور) يكون القادة والموهبون؛ فهم مثل (الوقود) لهذا الموتور؛ وهؤلاء وأولئك غابوا أو غُيبوا..

ولو تحدثنا عن المكاسب لقلنا: إذا كانت الدعوة قد خسرت قيراطًا فقد كسبت أفدنة، وما ضاع منها لا يعدل ما حققته من مكاسب، وأذكر فى هذا السياق قصة وقعت لى شخصيًا. فى (20 من يناير 1996) كنا فى جنازة الأستاذ محمد حامد أبو النصر، مرشد الجماعة -رحمه الله- وأثناء سيرنا فى شارع الطيران بالحى السابع متجهين إلى المقابر -سألنى سائل: لماذا هذه المظاهرة الضخمة التى لم أر مثلها من قبل (قدر العدد يومها بربع مليون مشيِّع) قلت له: هذه جنازة فلان المرشد العام للإخوان المسلمين. هل تسمع عن الإخوان؟ قال: لا. فلم أشأ أن أعقب لجلال المشهد واستحباب الصمت. أقول: لو سألت واحدًا من عوام الناس الآن عن الإخوان ماذا سيكون جوابه؟ واترك لك الإجابة.

الشاهد: أن الانقلاب أوصل الدعوة إلى من لم تصل إليه؛ صحيح قد تكون صورتها مشوهة لدى البعض، لكن الزمن كفيل بتصحيح تلك الصورة، وحتمًا سيعرف الناس الحق. وبذلك انضم إلى الدعوة أنصار جدد يقدرون بالملايين -من دون مبالغة- ممن شهدوا الأحداث وعاينوها، خصوصًا الشباب الذى رأينا حشوده الهائلة تتصدى للدبابات وتواجه الرصاص بصدورها العارية.

قد تبدو الصورة لدى البعض مختلفة عما أقول. لكنها الحقيقة؛ ففى أجواء الاستبداد تتمدد الدعوة ويكثر أنصارها، وينضم إليها أعداد كبيرة لم تشهدها من قبل، وربما تفشت ظاهرة «المختبئون بدعوتهم» ممن يطلقون عليهم «خلايا نائمة»، ولعل ما جرى عقب الثورة التونسية، ثم المصرية، ثم الليبية ما يؤكد ذلك؛ إذ تلونت تلك الثورات بلون الإسلام، وظهرت الشعوب على حقيقتها؛ محبة لدينها، مدافعة عن قيمها ومبادئها.

لقد زال بعد الانقلاب الكثير من الشبهات حول الدعوة والدعاة، وانكشف فى المقابل زيف خصومها من العسكر وأذنابهم، وعرف الناس الكثير من الحقائق التى غابت عنهم لعقود، وعروا تلك الجهات التى صدَّرت لهم الأوهام، وقد انتفضوا أيضًا لحجم المظالم التى وقعت على الدعاة، وهذه الأمور ساعدت فى تحييد أعداد كبيرة من المصريين كانوا من قبل متحاملين على الدعوة، ثم يشاء الله أن يخرج من بينهم من يدافع عنها كمن شبّ فيها وشاب بها.

أؤكد أنه ستكون هناك (طفرة دعوية) بعد هذا الحدث الدموى وتوابعه، وهناك مؤشرات كثيرة دالة على ذلك؛ فهناك الآن كوادر دعوية ذات قامة تربّت على تلك الأحداث، صار لها فكر متطور وتجربة عظيمة، وهناك إعلام يلاحق المجرمين ويهدم ما يبنون، وهناك آلاف المهاجرين ممن يؤسسون لمشروع دعوى حديث، مستلهمين حداثته وقوته مما مروا به من معارك ومحارك على مدى خمس سنوات، وهناك رأى عام يتشكل بطريقة هادئة وعفوية فى الفضاء الإلكترونى يصب فى مصلحة الدعوة.. وما كان كل هذا ليتم لولا هذا الانقلاب الغاشم..