من أسباب إخفاق الدعاة

فضيلة الشيخ /  محمد لبيب

إن بذل الجهد من أجل إنجاح الدعوة أمر مطلوب ، على مستوى الفرد والجماعة والبحث عن عوامل النجاح مطلوب ، كما أن البحث عن أسباب الفشل أيضاً مطلوب,والتناصح بين المسلمين ليس نافلة يفعلها من يفعلها أو يتركها من يتركها ، وإنما هو فرض عيني أو كفائي يجب على المسلمين الاهتمام به ، ومهمة هداية الناس ليست عملاً سهلاً وإنما هي عمل دونه خرط القتاد ، و السير على الأشواك ، ذلك أن عملية الاعتناق لمبدأ ، أو التخلي عن مبدأ عملية شديدة الصعوبة ، لما يتشابك في داخل النفس من مبادئ و عادات يصعب التخلي عنها ، و التناصح سمة عامة لكل الدعوات ، وقد قال تعالى على لسان نوح عليه السلام { أَنْصَحَ لَكُمْ } وعن هود عليه السلام { وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ } وقال صلى الله عليه و سلم : ” الدين النصيحة قلنا : لمن ، قال : لله و لكتابه و لرسوله ، و لأئمة المسلمين  و عامتهم” رواه مسلم .

و من أسباب الإخفاق

1)   الجهل بحال من توجه إليه الدعوة

فإننا نرى أن العلم بحال من توجه إليه الدعوة في شئونهم واستعدادهم و طبائع بلادهم وأخلاقهم ، وحالتهم الاجتماعية كان أكبر أسباب نجاحهم ، وقد روي أن من أسباب ارتضاء الصحابة خلافة أبي بكر كونه أنسب العرب ومعناه : أنه كان أعلمهم بأحوال قبائل العرب وبطونها وتاريخ كل قبيلة وسابق أيامها وأخلاقها كالشجاعة والجبن ، والأمانة والخيانة ، وقوتها وضعفها ، وغناها وفقرها وما كان إقدامه على ما عرف عنه من اللين على قتال أهل الردة إلا لهذا العلم الذي كان به على بصيرة فلم يهب ولم يخف ، وقد خاف عمر رضي الله عنه مع شدته المعروفة ولا يوجد مبشر ( منصر ) يوجه إلى أي منطقة أو جاسوس أوتاجرمن أوروبا أو أمريكا إلا وكانت عنده صورة مسبقة عمن يذهب إليهم و هناك معاهد بحثية تعلم هؤلاء و تجهزهم لأداء مهمتهم وتقدم لهم معلومات دقيقة ومفصلة توفر لهم الوقت والجهد حتى لا يتبدد أو يضيع سدى .

2)   الغفلة

غفلة الكثير من العاملين في حقل الدعوة إما بغير قصد فهم غافلون بطبعهم و إما التغافل ، فأما المتغافل فهو خوار مؤثر للعافية و الداعية ذكي ذواق ذو بصيرة ، و هو يختزن في ذهنه مئات الأخبار و الأحداث و سير الأشخاص و في مذكرته عون على النظر فيما يحدث من أحداث و ما يذكر من أمور قد تبدو لأول وهله غير ذات أهمية ، ثم يذكر بها فيما بعد الناس ، وينبه إليها الغافل .

3)   التعجل

و هو التسرع في قطاف الثمرة قبل نضجها ، وفي هذا المأزق سقط كثير من المتحمسين في مجال الدعوة . وصدق الله{ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً } وأيضاً { خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ } و آخر الآية نهى عنه { سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ } إن الدعاة إلى الله ينبغي أن يضعوا عامل الزمن في اعتبارهم فإن ما فسد في عشرات السنين لا يصلح في عشرات الليالي ، و كان من حكمة النبي صلى الله عليه و سلم و هو يمر على آل ياسر فيقول ” صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة “وبموقفه غداة بيعة العقبة الكبرى والأنصار يقولون له لئن شئت لنميلن على أهل منى غداً بأسيافنا و يكون الرد الحكيم : لم نؤمر بهذا .{ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ۚ وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ }.

4)   غرور الداعية

و من الغرور في مجال الدعوة أن نسمع المتحدثين عن أنفسهم بأننا ، ونحن ، وكنا ، وقلنا ، وسافرنا ، وفعلنا . . إلخ هذه الضمائر التي يعظم الفرد فيها نفسه .

أحدهم يكتب رسالة في موضوع ما فيقال له لفلان كتاب في هذا الموضوع فيقول : ومن فلان ؟ لعلم من أعلام الدعوة . إن التكبر على خلق الله و استصغارهم لا يكبر الصغير بل إنه يصغر الكبير و قد يختال الرجل في ِزيِّه مزهوَّاً به وبهامته وقامته متقدماً الصفوف ممتطياً المنابرمع ضعفه أو قلة بضاعته .

قال تعالى { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } . و قال صلى الله عليه وسلم : ” ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً ، و ما تواضع أحد لله إلا رفعه ” ( رواه مسلم ) وقال الغزالي في الأحياء عن المغرورين : وفرقة أخرى اشتغلوا بالوعظ و التذكير ، وأعلاهم رتبة من يتكلم في أخلاق النفس وصفات القلب من الخوف والرجاء ، والصبر والشكر ، والتوكل ، و الزهد ، و اليقين و الإخلاص ، و الصدق و نظائره ، و هم مغرورون يظنون بأنفسهم أنهم إذا تكلموا بهذه الصفات ، ودعوا الخلق إليها فقد صاروا موصوفين بهذه الصفات وهم منفكون عنها عند الله إلا عن قدر يسير لا ينفك عنه عوام المسلمين, يقول الفضيل بن عياض : وقد سئل عن التواضع ما هو ؟ -أن تخضع للحق و تنقاد له و لو سمعته من صبي قبلته .

و على الجملة فقد دعا الله نبيه إلى خفض الجناح و لين الجانب في كتابه العزيز ، و وصف المؤمنين بالذلة بعضهم لبعض ، و بالعزة على الكافرين .

5)   القسوة و العنف

روى مسلم عن جير مرفوعاً ” من يحرم الرفق يحرم الخير كله ” و روى مسلم عن عائشة مرفوعاً ” يا عائشة لا يكون الرفق في شيء إلا زانه ، و لا ينتزع من شيء إلا شانه ” . إن النفوس نشأت على التقيد بالإلف و العادة ، فمن أراد صرفها عن غيها إلى رشادها و حاول الخروج بها عن مألوفاتها و عاداتها ، و لم يمزج مرارة الحق بحلاوة التلطف ، و لم يسهل صعوبة التكليف بطلاوة الرفق و اللين كان إلى الانقطاع أقرب منه إلى الوصول ، ودعوته أجدر بالرفض من القبول ، وكان كمن أراد أن يطهر ثوباً من الدنس فأوقد فيه ناراً فأحرقته ألا ترى قوله تعالى : { فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ } و قال تعالى : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } وبعض من ينتسب إلى الدعوة تسرع ألسنتهم كلمات التبديع و التكفير والعزلة والمقاطعة ، إذا ألقيت عليهم السلام فلا تسمع رداً ، فلوا كنت كافراً حقاً لوجب أن يقال لك : و عليكم .

6)   غلبة الطمع

قال صلى اله عليه و سلم : ” ما الفقر أخشى عليكم و لكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم ” وقال صلى الله عليه و سلم: ” تعس عبد الدرهم و الدينار و القطيفة و الخميصة إن أعطي رضي و إن لم يعطى لم يرضى ” ( البخاري ) . و قال : ” أنظروا إلى ما هو أسفل منكم و لا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم ” (متفق عليه) . و قال : ” قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً وقنعه الله بما أتاه ” ( مسلم ) . وقال : ” من كانت الدنيا همه فرق الله أمره و جعل فقره بين عينيه و لم يأته من الدنيا إلا ما كتب له .  .  ” ( ابن ماجه ) .

وقال الحسن البصري : لا يزال الرجل كريماً على الناس حتى يطمع في دينارهم فإذا فعل ذلك استخفوا به وكرهوا حديثه و أبغضوه ) .

و قال أعرابي لأهل البصرة من سيدكم ؟ قالوا : الحسن قال : بما سادكم ؟ قالوا : احتاج الناس إلى علمه و استغنى عن دينارهم .

و قال سفيان الثوري : العالم طبيب هذه الأمة ، و المال داؤها فإذا كان يجر الداء إلى نفسه فكيف يعالج غيره ) .

إن شأن الدعاة إلى الله أنهم يعيشون لمبدأ وعقيدة ولا يعيشون للترفه وهذا يجعل الداعية ولا بد عفيفاً يائساً مما في أيدي الناس ، فمن يئس مما عند الناس استغنى عنهم فيبقى سيداً محبوباً جليلاً مهيباً ينتفع به ولولا الزهد والعزوف عن أموال السلطان والصرامة التي التزمها أحمد بن حنبل لما استطاع أن يستعصي على هذه الدولة القوية ، ولما استطاع القيام بهذا الدور الرائع في تاريخ الإصلاح والتجديد والدفاع عن الدين والتأثير في عقول الناس وقلوبهم هذا التأثير العظيم وظل واقفاً كالطود الشامخ أمام بدعة خلق القرآن .

7)   فقدان الإخلاص

قال صلى الله عليه و سلم : ” إن الله لا ينظر إلى أجسامكم و لا إلى صوركم و لكن ينظر إلى قلوبكم ” ( مسلم ) .

و قال صلى الله عليه و سلم : ” إنما الأعمال بالنيات ، و إنما لكل امرئ ما نوى .. ” (متفق عليه ) وعن أبي موسى الأشعري قال : سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ، ويقاتل رياء ، أي ذلك في سبيل الله قال :من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ” ( متفق عليه ) , و في النهي عن الرياء يقول تعالى   { لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ } وقال { يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا } .

وعن أبي هريرة مرفوعاً ” قال الله عز و جل : أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل لي عملاً أشرك فيه غيري فأنا منه برئ و هو للذي أشرك ” ( ابن ماجه ( مسلم )و معناه : من أظهر عمله للناس رياء سمّع الله به أي فضحه يوم القيامة .

فالإخلاص الذي نبكي على فقدانه : إنه ما يقول الغزالي ( تجريد قصد التقرب إلى الله تعالى عن جميع الشوائب ) أ ه, و الشوائب التي تفقد الإخلاص ما أكثرها و بعضها في القلب و النية ، و الداعية إلى الله يجب أن يكون مملوءاً بالإخلاص من رأسه إلى أخمص قدمه ، إنه الوقود الذي يحركه ، والنور الذي ينير له الطريق ، والمفتاح الذي يفتح له القلوب ، وليس نقصان العلم مضراً كنقصان الإخلاص ، أرأيت إلى الشمعة تضيء و هي تحترق ، أرأيت إلى القمر ينير وهو جثة خامدة لا تنير بذاتها ، ومن يفقد الإخلاص تغلق القلوب أمام دعوته ، وتصم الآذان أمام وعظه ، والكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب ، وإذا خرجت من اللسان لم تتجاوز الآذان .

8)   التلون

لم يصب ميدان بأذى أفظع و أنكى مما أصاب ميدان الدعوة من المتلونين الذين يغيرون مبادئهم مع كل بارقة أمل أو رعدة ألم ، وقد يكون المتلون ملكياً وثورياً واشتراكياً ورأسمالياً هو جاهز لما يراد منه يخضع دين الله لأهواء الناس ولا يخضع الناس لدين الله . ومنهم من التزم صحبة الملوك والسلاطين يوافقونهم على كل ما يرونه و يخضعون لهم الشريعة و نصوصها ، يؤولون لهم أحكام الشرع .

لهم فتوى بتحريم ربا البنوك وفتوى بتحليلها ، وفتوى بمشروعية النقاب وفتوى بأنه بدعة ، وفتوى بسنية الختان ، وفتوى ببدعته .

دعي أحدهم ليتكلم في تحديد النسل فقال : أنتم تريدونه حلالاً أم حراماً أنا جاهز

يا علمــاء الدين يــا ملــح البــلد                                  ما يصلح الطعام إذا الملح فسد

و راعي الشاة ينفي الذئب عنها                                   فكــيف إذا الرعاة كلهــا ذئاب

قال تعالى { يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًاً } .

و عن ثوبان مرفوعاً ” لأعلمن أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بأعمال أمثال جبال تهامة بيضاء فيجعلها الله هباءاً منثوراً . قال ثوبان يا رسول الله صفهم لنا جلهم لنا لا نكون منهم و نحن لا نعلم . قال : أما إنهم إخوانكم و من بني جلدتكم ، و يأخذون من الليل كما تأخذون ، و لكنهم قوم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها ” ( ابن ماجه ) .

و مما يدخل في التلون : أن يأمر بالمعروف ولا يفعله ، وينهى عن المنكر ويفعله وقد شنع القرآن على من يخالف قوله فعله قال تعالى : { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } وفال عز وجل { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } و قال إخباراً عن شعيب عليه السلام : { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ }

و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ” مررت ليلة أسري بي بأقوام تقرض شفاهم بمقاريض من نار فقلت : من أنتم ؟ فقالوا كنا نأمر بالخير و لا نأتيه و ننهى عن المنكر و نأتيه ” ( رواه ابن حبان و البيهقي ) .

وعن أسامة ابن زيد مرفوعاً ” يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقطاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار في الرحا فيجتمع إليه أهل النار فيقولون : يا فلان مالك ؟ ألم تكن تأمر بالمعروف و تنهى عن المنكر فيقول : بلى كنت آمر بالمعروف و لا آتيه و أنهى عن المنكر وآتيه ” ( رواه مسلم ) .

وقال ابن السماك : كم من مذكر بالله ناس لله ، وكم من مخوف من الله جرئ على الله وكم من مقرب من الله بعيد من الله ، وكم من داع إلى الله فار من الله ، وكم من تال كتاب الله منسلخ عن آيات لله .

وقال ابن مسعود : ليس العلم بكثرة الرواية إنما العلم الخشية .

9)   الجبن عن الصدع بالحق 

الداعية إلى الله طبيب والطبيب لا يخشى أن يصارح المريض بمرضه أو يخبره به بطريقة ما ،  الأفراد والمجتمعات عرضة للانحراف فإذا عدمت الداعية الشجاع ضلت وغوت ، وأصحاب الشهوات والأهواء يغريهم السكوت بالمزيد ، ولذلك عد الساكت عن الحق شيطان أخرس والصدع بالحق لا ينقص العمر ولا الجبن يزيده .

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” لا يمنعن أحدكم أن يقول بحق إذا رآه أو شهده فإنه لا يباعد من رزق ولا يقرب من أجل ، أن يقول بحق أو أن يذكر بعظيم ” والشجاعة في الحق ملجمة بالأدب ،  متدثرة بالذوق ،  محفوفة بجميل المقال ، وتعرف لكل ذي حق حقه ، ولكل ذي فضل فضله ، وليس فيها جفاف البداوة ولا غلظة القساوة وليست من قبيل ما حدث مع معن ابن زائدة ، و دخل عليه الأعرابي فقال له :

أتذكر إذ قميصك جلد شاة                         و إذ نعلاك من جلد البعير

فقال معن : أذكر و الحمد لله رب العالمين ، فقال  :

فقل جل الذي أعطاك ملكاً                          و علمك الجلوس على السرير

فقال معن : جل ربي و عز فقال الأعرابي :

فجد لي يا ابن ناقصة بمال                           فإني قد عزمت على المسير   

فأمر له بمال جزيل و شكر له تذكيره ،

لا نريد من الدعاة شجاعة في الحق محفوفة بفضيحة أو تشهير و عن عبد الله ابن عمر مرفوعاً ” إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم يا ظالم فقد تودع منهم ” ( رواه الحاكم ) .

وقد حفظ التاريخ لنا أمثلة في الصدع بالحق والجهر به ،  من ذلك أنه لما بنى عبد الرحمن الناصر مدينته الخالدة الزهراء في الأندلس تفنن في بناءها وجعلها من أعاجيب المدن في العالم وكان مما بناه فيها الصرح الممرد اتخذ لقبته قراميد من ذهب وفضة حتى أنفقت عليها خزينة الدولة مالاً عظيماً . . وكان الناصر يحضر صلاة الجمعة في المسجد الجامع ويستمع إلى خطبة قاضيه منذر ابن سعيد ، فوقف يخطب الجمعة وكان مما بدأه في تقريع الناصر على إنفاقه الأموال و انهماكه في بناء الزهراء . . أن تلا قوله تعالى : { أتبنون بكل ريع آية تعبثون * و تتخذون مصانع لعلكم تخلدون * و إذا بطشتم بطشتم جبارين * فاتقوا الله و أطيعون } .

ثم أخذ يذم تشييد البنيان والإسراف في الإنفاق عليه حتى خشع القوم وبكوا وضجوا ثم التفت إلى الناصر وقال له : ما ظننت أن الشيطان أخزاه الله يبلغ بك هذا المبلغ ولا أن تمكنه من قيادتك هذا التمكين مع ما آتاك الله به وفضلك به على العالمين حتى أنزلك منازل الكافرين.

فاقشعر الناصر من قوله وقال : أنظر ما تقول : كيف أنزلني منازلهم ؟ قال : نعم أليس الله تبارك وتعالى يقول { وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } فوجم الخليفة الناصر ونكس رأسه ودموعه تجري على لحيته خشوعاً لله تبارك وتعالى وندماً على ما فعل ثم أقبل بعد انتهاء الخطبة والصلاة على قاضيه المنذر ابن سعيد وقال له : جزاك الله يا قاضي خيراً عنا وعن المسلمين والدين ، وكثر في الناس أمثالك ، فالذي قلت والله هو الحق وقام من مجلسه ذلك و هو يستغفر الله تعالى وأمر بأن ينقض سقف القبة .

10) أن يطلب بعلمه الجاه و السلطان

قال تعالى { تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } وقال تعالى { مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } .

و قال النبي صلى الله عليه و سلم : ” ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد فيها من حرص المرء على المال و الشرف لدينه ” ( رواه الترمذي ) .

 و كما ذم الإسلام حب الجاه فكذلك مدح الخمول ، وليس معانه الكسل ولا عدم النباهة ، أو الشهرة التي تاتي دون قصد فكل هذا إذا أتى بالجد والاجتهاد ولنصرة الدين والحق فهو عاجل بشرى المؤمن ، وألسنة الخلق أقلام الحق ، ولكن المذموم منه هو أن يقصد لذاته فهذا ما يؤاخذ العبد به يقول النبي صلى الله عليه و سلم : ” رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب ، لو أقسم على الله لأبره ” ( رواه مسلم )

وشأن الدنيا أهون من أن يبيع الإنسان آخرته بها ، وهي أهون على الله من الشاة الميتة على أصحابها ، وهي سجن المؤمن وجنة الكافر .

ولا شيء أضر على المريد من الشهرة وانتشار الصيت لأن ذلك من أعظم حظوظه التي هو مأمور بتركها ومجاهدة النفس فيها قال إبراهيم ابن أدهم : ما صدق الله من أحب الشهرة .

وقال بشر : ما أعرف رجلاً أحب أن يعرف إلا ذهب دينه وافتضح  .

وقال : لا يجد حلاوة الإيمان من أحب أن يعرفه الناس .

 11) فتور الهمم

في عصر السلف الصالح لوحظ توقد الحب في القلوب لتعاليم الإسلام الذي أكرمهم الله به ، واستنقذهم من الجاهلية ، وهذا الحب جعلهم يقدمون الإسلام على كل غالٍ من أهلٍ و مالٍ و روحٍ ووطنٍ ، ويتحملون في سبيل نصره كل ما تتسع له طاقتهم ، وقد كانوا لا يطيقون أن تتعطل شعيرة أو يبرز منكر أو يختفي معروف .

والغيرة من لوازم الحب ، وكلما كان الشيءُ محبوباً للنفس عظمتْ حرمتُه لديه وقامت الغيرة تحرس حماه وتصون محارمه أن تُستباح ، والغيرة على الحق من صفات الله عز و جل ، والرسول صلى الله عليه و سلم يقول : ” إن اللهَ يغار ، و غيرةُ الله أن يأتي المرء ما حرم الله عليه ” ( متفق عليه ) .

ومن علامات غيرة المؤمن الغضب إذا انتُهكت محارمُ الله, قالت عائشةُ رضي الله عنها : قدم رسولُ الله صلى الله عليه و سلم من سفرٍ ، و قد سترتُ بقرامٍ لي على سهوة ٍلي فيها تماثيل ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه و سلم هتكه و قال : ” أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله قالت : فجعلناه وسادة أو وسادتين ” ( متفق عليه ) .

إن الداعية يجب أن يشعر أن دعوته حية في أعصابه ، ومتوهجة في ضميره ، وتصيح في دمائه فتعجله عن الراحة والدعة إلى الحركة والعمل ، وتشغله بها عن نفسه وولده وماله . . وهذا هو الداعية الصادق الذي تحسن إيمانه بدعوته في النظرة و الحركة و الإشارة ، و في السمة التي تختلط بماء وجهه ، و هو الداعيةُ الذي ينفذ كلامه إلى قلوب الجماهير ، فيحرك عواطفهم إلى ما يريد من أمر دعوته .

11) التشدد و التكفير

اصطناع العبوس و إدامة النظر شزراً إلى الناس خلة ملازمة لبعض المنتسبين إلى الإصلاح والدعوة ، وسيلان تهم التكفير والتبديع والتفسيق على ألسنتهم أشبه ما يكون بسيلان الماء من منحدره العالي إلى الوادي ، لقد ألقوا بأقوالهم ظلالاً كثيفة من القتامة على أناسٍ كثيرين كانوا ومازالوا أئمة نضر الله بهم وجه الأمة الإسلامية ، ورصع بهم تاريخها كما ترصع العقود بالماس ، وفي الحديث سلطوا قذائفهم على الموتى والأحياء ووزعوا تهم المخالفة للسنة ، ولم يستحوا من قول ذلك جهاراً .

13) التناحر و فردية العمل

هما آفتان من آفات العمل الإسلامي لعلهما ليستا جديدتين ، وربما لو تتبعنا مسيرة الدعوة عبر التاريخ الإسلامي لوجدنا خلافاً وشقاقاً دائماً بين العاملين في الحقل الإسلامي كانت تأخذ طابع الغيرة بين العلماء ، بل ربما كانت هناك فتاوى من العلماء ضد بعضهم البعض

وعلاج ذلك هو ما حفلت به كتب العلم بمواقف من تقدير الأئمة بعضهم لبعض واحتفائهم بعلم بعضهم لبعض . أنظر ماذا يقول الإمام أحمد عن الإمام الشافعي : ( ما صليت صلاة منذ أربعين سنة إلا و أنا أدعوا للشافعي رحمه الله تعالى ) فقال له إبنه : أي رجل كان الشافعي حتى تدعوا له كل هذا دعاء ؟ فقال أحمد : يا ُبني كان الشافعي رحمه الله تعالى كالشمس للدنيا ، و كالعافية للناس فانظر هل لهذين من خلف .

و كان أحمد رحمه الله يقول : ما مس أحد محبرة إلا و للشافعي رحمه الله في عنقه منة .

و قال الشافعي عن مالك رحمهما الله : إذا ذكر العلماء فمالكٌ النجم الثاقب ، و ما أحد أمنَّ علىَّ مِن مالك .

وقال الشافعي عن أبي حنيفة رحمهما الله : الناس في الفقه كلهم عيال على أبي حنيفة .

14) الوقوف في مواقف التُّهم

من أسباب نجاح الداعية نقاء سمعته وطهارة سيرته ، فإن الناس ينظرون بعين المقت والصغر لمن ينصح ولا ينتصح ، وبعض العاملين في هذا المجال انزلقوا في مواقف مالية أو أخلاقية أساءت إلى الدعوة إلى الله ، وأدت إلى سوء ظن الجماهير بهم وبعضهم يأخذ العطايا والصدقات بحجة انه طالب علم .

وجاء في بعض الآثار ( من تعرض للتهمة فلا يلومن من أساء الظن به ) أين هذا من أبي بكر، فعن عائشة رضي الله عنها قالت : كان لأبي بكر الصديق رضي الله عنه غلام يخرج له الخراج ، وكان أبو بكر رضي الله عنه يأكل من خراجه ، فجاء يوماً بشيءٍ فأكل منه أبو بكر ، فقال له الغلام : تدري ما هذا ؟ فقال أبو بكر : وما هو ؟ فقال : كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية وما أحسن الكهانة إلا أني خدعته ، فلقيني فأعطاني لذلك هذا الذي أكلت منه ، فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه )  (رواه البخاري ) .

وأين هذا من ابن سيرين وهو يذكر عيب الشاة و هو يبيعها .

ومن أبي حنيفة حين سرقت شاة فقضى مدة لا يأكل لحم الضأن خوفاً من أن يأكل لحم الشاة المسروقة .

إن من نصَّب نفسه مثالاً يتمثل فيه الخير ينبغي عليه أن يكون خط الخير واضحاً في تصرفاته من أمام الناس ومن خلفهم ، إنه يعامل ربه ولا يعامل خلقه ، ومن أجل هذا فهو ورعٌ في صحوِه ونومه وخلوته وجلوته ,وهناك صفات أخرى تجعله محبوباً مرهوباً ومنها : أمانته وتقواه ورزانته ، إن أستُؤمِن على شيء حفظه .

وهو رزين إذا تكلم فبقدر ، وإذا ابتسم أو ضحك فبقدر ، وإذا عبس فبقدر إنه ثابت الخطو ليس منكّتاً ولا مبكّتاً ولا متبذلاً .

إن أدب الداعية أشبه بأدب القاضي ، لا يرى قوماً يتضاحكون فيضاحكهم أو يسمرون بما لا ينفع فيسايرهم .

وفق الله الدعاة والمصلحين لما فيه الخير والسداد وأزال عنهم أسباب الفتور والإخفاق .

وصلى الله وسلم على البشير النذير سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .