من هدهد سليمان إلى الدعاة

د. رمضان فوزي بديني

لقد أنزل الله تعالى القرآن الكريم فيه من قصص الأنبياء والمرسلين والأمم السابقة ما يضبط الطريق أمام الدعاة إلى الله تعالى، ويكون لهم مشاعل يستضيئون بنورها، ويتثبتون بهدايتها في طريقهم الذي يحتاج الكثير من الزاد حتى يؤدوا رسالتهم التي تعد أشرف الرسالات؛ فما أجل وأعظم من أن تكون وريثا للأنبياء والمرسلين.

ولذلك فما أحوج الدعاة إلى دوام مطالعة كتاب الله تعالى، وإطالة النظر وإجالة الفكر فيما يحويه من دروس وعبر حتى لو كانت هذه الدروس من طائر مثل الهدهد.

فالهدهد طائر منتن الريح كما ذكر العلماء عنه، لكن نزل فيه قرآن يتلى ويتعبد به إلى يوم الدين؛ ذلك أنه لم يكن عن سبيل الدعوة من الغائبين؛ بل كان في دعوته إيجابيا وأتى بسلطان مبين، فاستحق أن يكون الناس بكلامه من الساجدين، وفيه عبر وعظات للدعاة على مر السنين.

وفي الآيات التالية ذكر لقصة الهدهد مع نبي الله سليمان عليه السلام: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ * أَلاَّ يَسْجُدُوا للهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ}.

وفي هذا الحوار الرائع الكثير من البوارق الدعوية التي يمكن الاستفادة منها في مجال الدعوة الجماعية المنظمة؛ حيث تحوي هذه القصة من الدروس والعبر ما يفيد القائمين على العمل الدعوي سواء أكانوا قادة أم جنودا وأفرادا عاديين:

بوارق دعوية للقادة

إن أي عمل منظم لا بد له من قادة ومسئولين لديهم من القدرات والمهارات ما يعينهم على القيام بمهمتهم المنوطة بهم على خير وجه؛ وكلما كانت هذه المهارات والقدرات متأصلة فيهم كان لذلك انعكاسه الإيجابي على دورة العمل الدعوي، وإتيانه بالنتيجة المرجوة منه..

ومن الدروس التي يمكن أن يستفيدها القادة من قصة سليمان مع الهدهد ما يلي:

أولا- ضرورة يقظة القائد وتفقده لرعيته وأحوالهم بين الفينة والأخرى وتفقد مواطن الزلل لمعالجتها؛ فها هو نبي الله سليمان عليه السلام يتفقد جنوده من الطير ويلفت نظره غياب الهدهد فيبادر بالسؤال عنه.

ثانيا- عدم تسرع القائد بإلقاء التهمة على الجندي: فحينما افتقد الهدهد جعل الاحتمال الأول هو قصر نظره هو عن رؤيته فقال: (مالي لا أرى الهدهد)، ثم جاء الاحتمال الآخر وهو تغيب الجندي (أم كان من الغائبين).

ثالثا- حدد القائد العقوبات التي يمكن أن يواجهها الجندي إذا ثبت خطؤه، وهي عقوبات متدرجة من الأخف إلى الأقسى (لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليتأتيني بسلطان مبين).

رابعا- بعد الوصول للجندي المفتقد عمل على التثبت من أقوال الجندي أولا، والتأكد من صدقها، وأنها لم تكن حججا للتخلص من العقاب الشديد الذي ينتظره؛ فأمره هو نفسه بأن يذهب بكتابه ليلقيه إلى ملكة سبأ.

بوارق دعوية للجنود

لا تكتمل المنظومة الدعوية إلا بتكامل ضلعيها الممثلين في القادة والجنود؛ فصلاح القادة وصلاحيتهم لا تكفي وحدها ما لم يكن هناك جنود مخلصون لدعوتهم، واثقون في طريقهم.

ومن الدروس التي يفيدها الأفراد العاملون في المنظومة الدعوية الجماعية باعتبارهم جنودا ما يلي:

أولا- التأكد من المعلومة وتوثيقها قبل اتهام الناس بالمعصية والخطأ؛ فالهدهد تأخر عن موعده ليتأكد مما وصل إليه من خبر أهل سبأ وعبادتهم غير الله حتى أصبح الخبر بالنسبة له خبرا يقينا (وجئتك من سبأ بنبأ يقين).

ثانيا- تقديم مصلحة الدعوة العامة على مصلحة التنظيم الخاصة؛ فهو كان خارجا في مهمة تنظيمية محددة، لكن لما رأى هذا المنكر الجلل قدم التأكد منه على غيره من المهام الأخرى الموكولة إليه.

ثالثا- الذاتية والمبادرة؛ فهو لم يُطلَب منه تتبع أمر سبأ ولكن شعوره بالمنكر جعله يبادر ويتحسس أمرهم دون تكليف، ثم يأتي به للقائد ليأخذ القرار المناسب.

رابعا- الثقة بالنفس والمنهج الذي يسير عليه الداعية ما دام على بصيرة من أمره؛ فرغم أنه كان يحاور نبيا فإنه قال له: (أحطت بما لم تُحطْ به).

خامسا- فقه الأولويات الدعوية: فالهدهد ركز في استنكاره للمنكر على أخطر ما فيه وهو السجود لغير الله؛ فبالتأكيد اطلع الهدهد على بعض المنكرات الأخرى مثل التبرج من الملكة وربما رأى بعض ما يحدث في مثل هذه المجالس من مخالفات شرعية أخرى لكنه ركز على جوهر الموضوع وهو العقيدة والسجود لغير الله.

سادسا- البصيرة الدعوية المتمثلة في عدم اكتفاء الهدهد بنقل الخبر واستنكاره؛ بل وضع البديل الصحيح وهو (ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض…).

وبعد فهذه بعض البوارق الدعوية من هدهد سليمان الذي خلد الله ذكره في أعظم كتبه؛ ليفيد منه الدعاة والمصلحون على مر السنين والدهور، سائلين الله تعالى أن يجعلنا ممن يستمعون القرآن فيتبعون أحسنه.